مجلة الرسالة/العدد 224/القصص
→ من طرف أهل الحرف | مجلة الرسالة - العدد 224 القصص [[مؤلف:|]] |
البريد الأدبي ← |
بتاريخ: 18 - 10 - 1937 |
من أساطير الإغريق
مصرع بروكريس
للأستاذ دريني خشبه
رأته أروروا حينما كان الصبح يتنفس أنفاسه الندية العطرية يثبت فوق الجبال ويصيد الوحوش بين الأدغال، فهامت به، ووقفت تعبده، وتروي من جماله، وتسقي نفسها الصادية أبداً إلى كل ريان مفتان. . . وحاولت أن تكلمه فشاح بوجهه، وتصدت له فأعرض عنها، ثم أنطلق في أثر ظبي فلم يزل به حتى أرداه وانحنى يحمله. . . ولكنه وجد مكانه أورورا. . .! وجدها متجردة تمرغ جمالها تحت قدميه، فنفر نفرة جرح بها كبرياء ربة الفجر الوردية، وجعلها ترمقه بعيني أفعى، تود لو تنفث في صدره سمها فترديه.
(أنا اورورا، ربة الفجر والندى، حبيبة الزنبق والبنفسج والورد، لا أروق هذا الإنسي المخلوق من تراب!! وحق أبي لأسرنه ولأسجننه، ولأجعلنه يتلوى تحت قدمي، ويبكي من أجل قبلة أمن بها عليه!)
وأرسلت رقية من رقاها الساحرة فنشرت الظلام على عينيه والنسيان في قلبه، وبات لا يملك لنفسه حلاً ولا عقداً. . . ثم حملته إلى كناسها في شعاف الأولمب، وحبسته ثمة، وأذهبت عنه طائف السحر فأدرك ووعى، وهب مذعوراً ثم غرق في شيء كالحلم لما رأى العماد من ذهب، والطنافس من عجب، والكأس حفها الحبب، والندامى والطرب، وكل راقصة كالخيال يراقصها أمرد كالطيف، فتميل وتختال ويتأود كالسيف. . . وأورورا مع هذا وذاك تدل وتتبرج، وتفوح وتتأرج، كأنها ربيع بأكمله، زخرف الدنيا بالزهر، ووشاها بالروض، وابتعث فيها المرح والحياة
- أين أنت إذن؟ سيفال! أين أنت؟
- أين أنا؟
- ألا تعرف؟ هذه غرفات الأولمب!
- الأولمب؟! - أجل. . . أولمب أربابك
- محال! لن يكون الأولمب هكذا!
- ولمه؟
- لأن الأولمب مأوى الصالحين! أليس الآلهة أجدر منا بالتقوى؟ ما هذا؟ أحمر ورقص وطرب. . . وفسق في الأولمب؟
- لا. . . ليس هذا الأولمب. . . لن يكون الأولمب هكذا!!
- بل هو الأولمب يا سيفال! وليس ما ترى هنا إلا قليلا مما هناك! هل ترى فينوس؟ ألم تصل لها؟ أنظر من هذه الكوة فهي تطل على حديقتها!
- وأنا ما شأني؟ أريد أن أذهب!
- تذهب؟ تذهب إلى أين يا سيفال؟ لن تبرح عاكفاً على اللهو الذي ترى!
- لا، لن يقوى الأولمب كله على قهري!
- ها. ها. . . مضحك. . . أنت مضحك يا سيفال! كل الأولمب؟
- أؤكد لك!
- ولمه؟
- لأني أحب زوجتي وأقدسها. . . إنها جميلة جدا
- أجمل من أورورا؟! أليس كذلك؟
- أجمل من أورورا لدى كل من ينظر بعيني زوج أمين مخلص!
- أنت عنيد يا سيفال! إنك تزدريني!
- بل أنا أنتصر للفضيلة التي كان ينبغي أن تتنزل علينا من الأولمب! من جاء بي هنا؟
- أنا. . .
- ولماذا؟
- أنت تعرف!
- لا أعرف شيئاً. . . والذي أعرفه لا يليق بشرف ربة! أرجو أن تطلقي سراحي!
- إذن أنت تفضل علي زوجتك! أهي أجمل مني؟ ألا تزال تعتقد هذا يا سيفال؟
- أنا أفضل زوجتي لأنها لم تتلوث. . . ولا زلت أقول إنها أجمل منك لأنني أنظر إليها بعيني لا بعينيك!
- زوجتك أجمل من ربة الفجر الوردية؟
- أجمل من ربات الأولمب جميعاً، إلا من تجملن بمثل روحها، ولست منهن!
- أيها التعس!
- ولم أكن تعساً وأنا اسعد الناس بزوجتي بروكريس!
- بروكريس! ها! عرفتها! إحدى وصيفات ديانا! حقيرة مثلك! أغرب من وجهي أيها القذر! إذهب! إذهب إلى زوجتك بروكريس التي تفضلها على أورورا؛ ستتمنى يوماً أنك لم تعرفها، وأنها لم تكن زوجتك. . . إذهب. . . إذهب!)
وبلغ بيته وهو يلهث من التعب، ويرتجف مما ألم به، فلقيته زوجته الجميلة الحسان بابتسامةٍ شفت صدره، وقبلة ذات حميا أذهبت بعض ما وجد. . . إلا أنه كان ينتفض آنة بعد آنة، ويعود فيبتسم، ثم تغرورق عيناه بدموع نقية كاللؤلؤ كلما نظر إلى زوجته، حتى هجس وسواس في قلب بروكريس فقالت له:
- ماذا ياسيفال؟ أتخفي عني ذات صدرك؟
- كلا، ولكنها أورورا. . .
- ماذا؟ ماذا صنعت بك ربة الفجر؟
- كانت تحاول أن تسحرني عنك. . . أو. . . تشركني فيك على الأقل؟!
-. . .؟. . .
ولكنها فشلت. . . لقد أذللت كبرياءها
- وهل استطعت؟ إنها جميلة وصناع، ولها في الغزل الصارخ أساليب خارقة يا سيفال. . .
- لقد قهرتها وأساليبها. . . إن قطرة من معين إخلاص تطفئ لظى جحيم يا بروكريس!
- لا ريب يا حبيبتي. . . أنا أمزح فقط. . . سيفال، عندي لك مفاجأة طيبة
- مفاجأة! أية مفاجأة يا بروكريس؟
- تعال. . . افتح هذه الغرفة
- أوه! ما هذا. . . كلب عظيم، من أين يا بروكريس؟ إنه سينفعني كثيراً في صيدي - ومفاجأة أخرى أعظم! أنظر في ركن الغرفة!
- هه! حربة! لم أر قط مثل هذه الحربة! إنها ليست من صنع البشر! آه! إنها من صنع فلكان لا شك! البشر لا يجيدون أن يصنعوا مثل هذه!
- إحزر إذن ممن الهديتان؟
- من الملك!
- وأنى لي أن يهدي الملك إلي؟
- ممن إذن؟
- إحزر!
- لا أدري!
- إنهما من ديانا يا سيفال! أهدتهما إلي هذا الصباح!
- من ديانا؟ آه لقد ذكرت ذلك أورورا
ماذا ذكرت لك أورورا؟
- أنك كنت إحدى وصيفاتها!
- وأي ضير علي أو عليك في هذا؟ أليست هي إحدى تابعات أبوللو؟ لقد كانت وما تزال تتمنى أن لو كانت إحدى وصيفات ربة القمر!
- لا ضير، لا ضير يا بروكريس
- إني أهب لك ما أهدت ديانا إلي!
- أشكرك!
- الكلب لا تسبقه الريح، والحربة لا تخطئ الغرض
- وظل سيفال يعود أصيل كل يوم إلى زوجته مثقلاً بشتى أنواع الصيد؛ وأحب كلبه وحربته حباً لا يعدله إلا حبه بروكريس
- واشتهر أمر الكلب في الإقليم كله، وذاع صيته، حتى لقد أخطأ بعض أفراد الشعب في حق بعض الآلهة، فسلط عليهم ثعلباً سلقاً لم يستطيعوا مكافحته، ولم تقو كلابهم له على طراد، فاجتاح ماشيتهم، وأتى على دجاجهم، وعاث في حقولهم، ونفش في زروعهم، ولم يدروا كيف خلاصهم منه، حتى سمعوا بكلب سيفال فرجوه فيه، كيما يطلقه في أثر الثعلب فيريحهم من شره. . . وانطلق ليلاب - وهذا هو أسم الكلب - وراء الثعلب، كما يمرق السهم عن القوس، أو كما تمرق النظرة الخاطفة عن العين النجلاء؛ وما انفك يحاوره ويداوره، وينبح به فيزلزله، حتى هم أن يفتك به ويمزقه إرباً. . . ولكن حدث أن كانت الآلهة تطلع من فلال الأولمب، تتفرج بهذا الطراد، وشرح صدورها بمرآه، فالتفت بعضها إلى بعض، وعز عليها أن يقتل كلب إلهي ثعلباً إلهياً أمام الملأ من الناس، فقضوا لتوهم أن ينقلب الاثنان فيكونا تمثالين من المرمر الناصع، فهما كذلك إلى اليوم!!
وأسف سيفال على كلبه، وأنقلب على عقبيه غضبان صعقا. . . ولم يزل في كل يوم، وفي مثل تلك الساعة التي حاقت بكلبه العزيز هذه النازلة، يتوجه إليه، ويقف قليلاً عنده، حاناً لذكراه، آناً على ما حل به، ثم ينطلق بعد، وفي يديه رمح ديانا، فيصيد الظباء وليس معه ليلاب
وانطلق مرة في إثر ظبي فأنهك قواه، ونال منه الإعياء، وانسدح على العشب الأخضر في فيء دوحة باسقة، ثم راح يتخلج من شدة التعب؛ وكان الوقت ظهراً، وكان القيظ قد أجج الدنيا حوله فتفصد العرق من جسمه المنهوك، وتراخت عضلاته ووهنت روحه، وأنشأ يردد كلاماً كالأغنية يرسله هكذا:
أين أنت يا نسمة؟ يا ابنة الربيع اللعوب
يا منعشة الروح المتعبة، أين أنت؟
هلمي يا نسْمة، هلمي إلى سيفال،
فهو مشوق إليك، يرجو لو تنفسين عنه؛
هلمي يا نسمة ففرجي عن سيفال المضني،
وهبي على رأسه الملتهب، وصدره المكروب؛
لقد كنت يا نسمة، يا أحلى قُبل الحياة،
تداعبين جبيني، وتنعشين نفسي،
فماذا حال بينك وبيني، يا نسمة الربيع،
وساقية الحب، ورسول المحبين. . .
وكانت أورورا ما تفتأ تتعقب سيفال في كل فج، وترقبه في كل حنية؛ وكانت تقف في صورة بلبل فوق رأسه، مختبئة في أفنان الدوحة التي نام في ظلها؛ فلما سمعته يتغنى غناءه، ضحكت واستبشرت، وانتهزتها فرصة نادرة للإيقاع بينه وبين زوجته، وانطلقت من فورها إلى بروكريس، حين تكشفت لها في صورة إحدى صويحباتها:
- بروكريس!
- مرحباً بأعز الحبيبات، ماذا جاء بك في هذا القيظ؟
- نبأ أسود ما كنت أؤثر أن أحضر إليك به!
- نبأ اسود؟ يا للهول! ماذا؟
- أرجو أن لا أثير سخطك علي. . .
- كلا. . . كلا. . . عجلي أرجوك!
- سيفال!
- ماله؟
- أتذكرين يوم رويت لي ما كان من أمره مع أورورا؟
- لم أنس! ولكن مال سيفال؟
- يبدو لي أني لم أكن مصيبة في تبرئته! لقد نفيت شكوكك فيم ذهبت إليه من الميل إلى ربة الفجر، وقلاه لك لما عرف إنك كنت وصيفة ديانا!
- وماذا حدث بربك؟
- إنه يحب فتاة أخرى اسمها نسمة! إنه مولع بها أشد الولوع!
- لا أصدق!
- لا تصدقين؟ وهل أنا كاذبة؟
- وكيف عرفت؟ هل أوحي إليك؟
- بل سمعته يهتف بإسمها، ويشدو بحبها، ويتغنى أحر الغناء!
- لا أصدق، لا أصدق، سيفال لا يحب واحدةً سواي!
- هل لك في أن تسمعي غناءه بأذنيك يا صديقتي!
- وأين هو؟
- قريب من الدغل الذي عند النبع. . . سأحضر لك حصاناً صافناً وغابت أورورا، ولم تتلبث طويلاً، بل عادت بعد هنيهة ومعها حصانان مطهمان، ركبتاهما وأسرعتا إلى الدغل. . . وكان فؤاد بروكريس يخفق كالعاصفة، وكان وجهها قد شحب وامتقع حتى صار كالليمونة، وكانت ألف فكرة تزحم رأسها وتثور فيه كالبركان، وكانت ما تنفك تحدث نفسها بالهواجس فتقول: (نسمة؟ ترى ما نسمة هذه؟ عروس من عرائس البحر؟ أم غادة من غيد السوق؟ أم ربة كأورورا من ربات الأولمب؟ أهي جميلة؟ أهي أجمل مني؟ ألها عينان كعيني؟ ألها روح تستطيع أن تمتزج بروح سيفال بقدر ما امتزجت به روحي؟ أهكذا ياسيفال؟ لقد غلبت اليقين على الشك يوم أن ذكرت لي أمر أورورا معك، فلم تعد الشكوك لتفترسني؟ يا ترى؟ ألست تعود إلى أصيل هذا اليوم مثقلاً بصيدك كسابق دأبك؟ حنانيك يا آلهة السماء!) فكانت زفراتها لا تخفي على أورورا، فكانت هذه تسليها وتواسيها
واقتربا من الدوحة التي نام تحتها سيفال وراح يغني. . . وأشارت أورورا إلى الزوجة البائسة فاختبأت في الحشائش الطويلة القريبة من سيفال، بعد أن تركت جوادها بعيداً من المكان. . . وهناك أنصتت بكل سمعها وقلبها، فسمعت زوجها ما يزال يتغنى باسم نسمة ويقول:
يا نسمة إلامَ أهتف بك يا نسمة!
يا نسمة يا أحب شيء في هذه الحرور!
تعالي قبلي خدي ووجنتيّ وجبيني!
كم أنا مشتاق إلى نسمة يا سماء!
فابعثيها رَخيةً نديةً، عليلةً بليلة!
تنعش فؤادي وتثلجْ برفيفها صدري
وكان ما خافت بروكريس أن يكون! فها هو ذا سيفال يهتف باسم حبيبته نسمة ويتغنى، ويتمنى لو جاءته تقبل خديه ووجنتيه؛ وها هو ذا يضرع إلى السماء أن ترسلها رخيةً نديةً تشرح الصدر وتثلج الفؤاد. . . فماذا بعد هذا؟ وأي برهان وقد سمعت الأذنان؟ (إذن لقد كذب علي في الأولى، ولن يكذب علي في الثانية. . . إذن لقد صبا فؤاده إلى أورورا، وما يزال فؤاده يصبو إلى الغانيات من كل جنس وفي كل فج. . . آه للنساء الضعيفات من الرجال الأقوياء. . . ويلي عليك يا سيفال. . . ويلي عليك وألف ويل!
وعاثت الوساوس في صدرها، وانقلبت أضواء الظهر الساطعة ظلاماً داجياً في عينيها الحزينتين، فأرسلت آهةً عميقةً قطعت بها على سيفال غناءه، فهب الفتى مذهولاً مروعاً، وحسب أن وحشاً يتربص به في الحشيشة، فجمع قوته، وتناول حربته - حربة ديانا التي لا تخطئ - وأطلقها إلى المكان الذي صدرت منه الهمهمة، وذهبت الحربة لتستقر في صدر بروكريس!!
وا أسفاه!
لقد جرى سيفال ليرى هذا الصيد الجديد، فماذا رأى؟
- بروكريس؟؟ يا للهول؟ أهو أنت؟
-. . .؟. . .
- وماذا جاء بك الساعة يا حبيبتي؟
- لا. . . شيء. . . فقط. . . لا تتزوج. . . نسمة، من بعدي!
- نسمة؟ أوه! إنها لا شيء. . . لقد كان الجو متأججاً من الحر يا حبيبتي. . . وكنت أتمنى أن تهب علي نسمة من الريح تروح علي!. . .
- أحق. . . هذا؟. . .
- هذا هو الحق وحبك يا بروكريس
- إذن. . . سلام. . . عليك
- بروكريس! بروكريس! لا! لا تغمضي عينيك دوني؟ افتحيها لسيفال!
ولكنها ماتت. . . وماتت بيد زوجها وحبيبها الأمين الوفي!
وودعت الحياة وليس في قلبها إثارة واحدة من الشك في حبه وإخلاصه. . .
وأرسل الفتى أنينه في الأفاق، ورفع وجهه ليقلبه في السماء بالشكوى، ولكنه رأى. . . أورورا. . واقفة تبتسم وتضحك. . فجن جنونه. . . وانطلق هائماً على وجهه، لا يلوي على شيء، ولا ترقأ له دموع. . . حتى مات!
دريني خشبة