مجلة الرسالة/العدد 222/مقتضيات الحروب الحديثة
→ ../ | مجلة الرسالة - العدد 222 مقتضيات الحروب الحديثة [[مؤلف:|]] |
الفيلسوف الحاكم ← |
بتاريخ: 04 - 10 - 1937 |
للأستاذ إبراهيم عبد القادر المازني
كانت الحرب في الأزمنة القديمة لا تدور أرحاؤها إلا بين الجيوش: أي بين الجماعات المجعولة للقتال والمدربة عليه ولا عمل لها في الحياة إلا هذا؛ ومتى غلب جيش جيشاً وألحق به هزيمة تضعضعه وتمنع أن تكون له قدرة على الكر انتهى الأمر ووضعت الحرب أوزارها وسلم المغلوب للغالب بما تفرضه القوة الراجحة. ولكن الحال اختلفت في عصرنا هذا وصارت الحرب صراعاً بين الأمم والشعوب لا بين الجيوش المحترفة وحدها؛ وهذا بعض ما أفضى إليه التقدم الآلي في النواحي المختلفة. فلم تعد الجيوش وحدها تكفي، ولم يبق من الممكن الاجتزاء بها والتعويل عليها وحدها كما كان الحال في العصور الغابرة، بل صارت الحالة تدعو إلى إعداد الأمة كلها للحرب وتدريب كل فرد من أفرادها على فنونها وتهيئته لما تقتضيه حاجاتها ومطالبها؛ وما نرى من عناية الدول المختلفة بأن ينشأ شبانها نشأة عسكرية من الصغر وتدريبهم على الحركات الحربية واستعمال أدوات القتال البرية والبحرية والجوية لتكون منهم للدولة ذخيرة تستمد منها وتعتمد عليها إذا وقعت الواقعة. وقد توسعت الدول في هذا الاستعداد حتى امتد الأمر إلى المرأة، فالطالبات أيضاً لهن فرق يتعلمن هذه الحركات العسكرية ويحملن البنادق ويتدربن على تسديدها إلى الأهداف وعلى مشقات الحياة في الخنادق فضلا عن واجبات التمريض والصناعات اللازمة للحرب مثل الذخيرة وما إلى ذلك؛ وهو توسع في الأهبة لا حيلة فيه ولا مفر منه إذا شاءت الأمة أن تأمن وتطمئن بعد أن صار من السهل أن يتخطى العدو الجيوش الراصدة له وأن يمطر القرى والمدن وابلاً من القنابل المخربة والغازات الفتاكة. وبعد أن أصبح كل شيء وكل مكان صالحاً لأن يكون غرضاً للعدو وميدان للقتال
ولم يسع الأمم العربية والشرقية إلا أن تحتذي هذا المثال، وإلا أن تنسج على ذلك المنوال. ففي تركيا تتدرب الفتيات كما يتدرب الفتيان على أساليب الحرب وآلاتها بلا فرق. وفي العراق أدخل التعليم العسكري في المدارس الثانوية، فكل طالب فيها يتلقى هذا التعليم كما يتلقى غيره من العلوم والمعارف المدنية في الساحات المجعولة لذلك؛ وقد سميت فرق الطلبة: (فرق الفتوة). وكنا قد شرعنا في مثل ذلك في مصر ولكن على غير نهج مقرر أ خطة مرسومة معروفة الوسائل والغايات؛ وذلك أن الجامعة رأت في العام الماضي أن تعنى بالتربية الرياضية وألبست الطلبة أردية خاصة واستقدمت لتدريبهم رجالاً من رجال الجندية، ورغبت في تدريبهم على استعمال البنادق فاستأذنت أولي الأمر، وقيل أنهم أذنوا، ولكنا لم نر أثراً لهذا الإذن، وكان ذلك ختام ما بدأته الجامعة
أما في هذا العام فإن المرجو والمنتظر أن يكون هذا الأمر جدا، أو هو ينبغي أن يكون كذلك. وقد طلبت البعثة العسكرية البريطانية التي جيء بها لتدريب الجيش المصري إدخال التعليم العسكري في المدارس الثانوية وفي الجامعة على الأخص. ولا غرابة في هذا الطلب أو الاقتراح، فإن البعثة تدرك أدق ما يقتضيه التطور الحديث في الحرب ومطالبها، فإن الجيوش لا تكفي ولا غناء لها - مهما بلغ من ضخامتها ووفاء عدتها ووفرة أسلحتها - ولا مهرب من أن تكون الأمة كلها جيشاً عند الحاجة بعد أن انتفى الفرق من حيث التعرض لحملات العدو بين الذين يكونون في الصفوف الأولى من خطوط القتال والذين يكونون في بيوتهم أو قراهم في أقصى طرف من البلاد
ولاشك أن الحرب بلاء ونقمة، وأن الرقي الآلي الحديث قد جعلها آفة ماحقة، ولكن الرجاء في السلامة من هذا البلاء لا يكون بالاكتفاء بالإنحاء عليها، وبسط اللسان فيها، والقول بأنها شر مستطير وخراب شامل؛ وإنما يكون الرجاء في أخذ الاهبة، واستيفاء العدة، ولاسيما إذا كانت البلاد مكشوفة كبلادنا ومطموعاً فيها ومهددة بالغزو في أي لحظة تستعر فيها نار الحرب كما نحن مهددون
على أن التدريب العسكري أو الرياضي - إذا آثرت هذا اللفظ الذي لا يزعج - حسن في ذاته ومحمود، بغض النظر عن الأغراض الحربية؛ ويكفي أنه يقوم الأجسام، ويصلح الأبدان، ويهذب النفس ويقويها، ويجعل المرء على العموم أكفأ وأقدر على القيام بفرائضها والاضطلاع بتكاليفها
على أنا أمة مهددة بأن تصبح بلادها أوسع ميادين الحرب وأهولها إذا شاءت المقادير أن تشب نارها بين دول الغرب، فلا حاجة بنا إلى قول شيء في فضل التربية الرياضية ومزيتها وقيمتها فقد صار الأمر لا معدى عنه بحكم الظروف والأحوال لا بالاختيار والرأي والهوى. وهذه الأحوال تقضي علينا بأن نختار أحد أمرين: الأول أن نوطن أنفسنا على أن تأكلنا أول دولة تطمع فينا وتتاح لها فرصة العدوان علينا، فإذا آثرنا هذا المصير الزري فليس علينا حينئذ إلا أن نقعد منتظرين من يجيء ليستولي علينا؛ والثاني نوطن أنفسنا على الذود الواجب عن حقيقتنا والدفاع عن حريتنا واستقلالنا ورد كل عدوان عليهما، فإذا كان هذا هكذا فالأمر بين، وعلينا إذن أن نعد العدة لهذا الدفاع وأن نتخذ له كل أهبة يفرضها التطور الحديث في الحرب ووسائلها وأساليبها وآلاتها؛ ولابد حينئذ من تهيئة الأمة لمطالب هذه الحرب المخوفة على نحو يكفل للدولة الانتفاع التام بقوى الرجال والنساء فيها جميعاً، فللنساء ما يستطعن أن يحسن من الأعمال، ولا خفاء بهذه فإنها معروفة، وعلى الرجال أن يكون كل واحد منهم مستعداً لحمل السلاح والسير إلى حيث تحتاج إليه الدولة لعمل من أعمال الدفاع القومي؛ ولا يتسنى هذا إلا إذا دربنا الفتيان من الآن في المدارس والجامعة على إتقان ما عسى أن يطالبوا به إذا دعاهم داعي الوطن
وقد يتوهم البعض أن هذه الدعوة التي أرسلها لا تخلو من إسراف وشطط ومبالغة في تصور الأخطار وتجسيمها والتهويل بها، ولكني أعتقد أن الأمر على خلاف ذلك وأن الحال على نقيضه وأعني بذلك أننا أسرفنا في الاطمئنان وبالغنا في الإخلاد إلى دواعي الأمن والثقة والاستراحة إلى انتفاء المخاوف؛ وقد آن لنا جداً أن ندير عيوننا فيما حولنا، وأن نتدبر دلالة ما نرى، وأن نمد بصرنا إلى أبعد من يومنا الحاضر. والمثل يقول: (من مأمنه يؤتى الحذر) فكيف بالذي لا يحذر شيئاً، ولا يتقي أمراً؟ وهب أنه لا مطمع فينا فإن خلو بلادنا من وسائل الدفاع الكافي، وضآلة عدتنا يغريان بنا الطامعين. ومازال الضعف إغراء كافياً للقوى بالوثب. ولنحن غير أهل للاستقلال إذا لم نحسن الحرص عليه والضن به ولم نعد العدة لطول الذود عنه والكفاح دونه. وقد يجيء زمن تبطل فيه الحروب وتعيش فيه الأمم إخواناً متآزرين متعاونين؛ غير أنه إلى أن يجيء هذا الوقت السعيد لا يسع أمة تعرف لحقها في الحياة قيمته وتدرك ما تقتضيه المحافظة عليه إلا أن تستعد للحرب دونه. وعسير جداً أن تحيا أمة عزلاء في أمان من المخاوف بين أمم مدججة شاكية في البر والبحر والهواء
إبراهيم عبد القادر المازني