الرئيسيةبحث

مجلة الرسالة/العدد 222/الفيلسوف الحاكم

مجلة الرسالة/العدد 222/الفيلسوف الحاكم

بتاريخ: 04 - 10 - 1937


للأستاذ عباس محمود العقاد

شهدنا بعد الحرب عجباً من عجب السياسة والرآسة لم يشهده جيل واحد من تاريخ بني الإنسان

شهدنا موسيقاراً على رأس دولة، وفيلسوفاً على رأس دولة أخرى، وهو قبل ذلك ابن حوذي وتلميذ حداد، ونقاشين وأفقيين على رؤوس دول أخرى يجلسون على عروش القياصرة والخواقين، ويسوسون شعوباً كبيرة بلغ بعضها الذروة من الحضارة والنظام

أحب هؤلاء جميعاً وأولاهم بعطف النفس الإنسانية فيما نظن هو الفيلسوف الحاكم (مازاريك) الذي قام على جمهورية التشك والسلواق بعد الحرب العظمى، وقضى نحبه في الشهر الغابر وهو في السابعة والثمانين

قرأت له قبل أن أسمع الشيء الكثير عن سيرته في الجهاد الوطني وعن مساعيه في السياسة الدولية: قرأت له كتابه الحافل عن (روح الروسيا) فأكبرت منه اطلاعاً واسعاً يخيل إليك أن صاحبه لن يفرغ معه لعمل من الأعمال الجسام. وخلاصة ما يقال في الكتاب أنه لم يدع فيلسوفاً واحداً من الأقدمين أو المحدثين إلا ألم برأيه وتعقب الصلات الفكرية والاجتماعية بينه وبين عقول الدعاة البارزين من فطاحل الروسيين

ووقعت لي بعد هذا الكتاب شذور من تواليفه الكثيرة يكفي لبيان نطاقها الواسع وموضوعاتها المختلفة أنها تناولت التنويم المغناطيسي كما تناولت فلسفة باسكال وهيوم، وتناولت أدب الصقالبة كما تناولت الثورة العالمية، وصدرت في ذلك كله عن صدر رحب بريء من العصبية والضغينة وعن ذهن شامل مفتح المنافذ على شتى الأنحاء

في تاريخ هذا الرجل عبر لا تنتهي لمن شاء أن يتأمل في أخلاق الناس وفي موازين العدل والأنصاف بين الأمم، وفي ضعف الإنسان ولو كان من الحكماء وكان من الحاكمين

كنت أقرأ الثناء عليه وأقرأ الزراية على (روجر كازمنت) الشهيد الأيرلندي في وقت واحد

وكنت أقرأ الثناء والإزراء على عمل واحد في وقت واحد وصحافة واحدة، فأعجب للعقول وأعجب للأهواء، وأعجب لمن خطر لهم أن يقولوا مرة من المرات ولو من قبيل التجوز والمزاح: كل شيء بالعقل في هذه الدنيا!! وما في هذه الدنيا شيء إلا وللعقل فيه حيرة، وللضلال فيه جانب مقرون بجانب الهداية

هرب مازاريك من بلاده واتفق مع الحلفاء على تأليف جيش من أبناء وطنه الأسرى والمبعدين، ونجح فكان من الأبطال وأقام في قصور هابسبرج، ومات بين التعظيم والمحبة والإطراء

وصنع (روجر كازمنت)، ما صنع مازاريك فهرب من بلاده واتفق مع الألمان على تأليف جيش من أبناء وطنه الأسرى والمبعدين، وفشل فكان من الخونة المجرمين، وسيق إلى القبر وهو ينظر إلى الشمس السافرة ويهتف: ما أجمل هذا الصباح! ولكنه كان صباحه الأخير

والصحف البريطانية يومذاك تذكر هذا وتذكر ذاك، فأما مازاريك فبطل كريم، وأما كازمنت فخائن أثيم. ويتبع ذلك ما يتبع الإخفاق والخزي من فرية المفتري، وأكذوبة الكاذب، واجتراء اللئيم

كان مازاريك في صباه عوناً للمستضعفين ولو كانوا مبغضين منبوذين، وكان نصيراً للحق ولو كان الباطل أدنى منه إلى الشهرة والإعجاب. فدافع عن اليهود في بلاد لا يطاق فيها اسم أبناء إسرائيل، وزيف الأسانيد الموروثة التي يفخر بها أبناء قومه ويعتدونها من تراث الوطن الحرام المضنون به على النقد والتشكيك، فكان أبوه أول من صدق فيه تهمة القادحين وذهب إليه يستأديه بعض المال الذي قبضه من مصارف اليهود، وكان الغلاة من دعاة الوطنية في بلاده أول من تبرأ منه وخاض في عرضه حتى قال قائلهم: (إن عاراً على وطنه أن يكون بين نسائه امرأة حملت في بطنها مازاريك)

ودارت الأيام دورتها فإذا بهذا العار هو عنوان وطنه، وهو القائل باسمه والكاتب باسمه والوكيل الذي اجتمع وكلاء بلاده بعد الحرب العظمى يعلنون على الملأ الأوربي أن كل ما وقعه مازاريك في ديار الهجرة والاغتراب هو صك نافذ على البلاد تدين به وترعاه

وجرى حديث مستفيض بين الحاكم الفيلسوف وبين المؤرخ المشهور أميل لدفج استغرق أياماً، وجمعه لدفج في كتاب جاوزت صفحاته ثلاثمائة صفحة، واختار له عنواناً: (حامي الديمقراطية. أو مازاريك يتكلم)

من قرأ هذا الكتاب سمع أفلاطون وأرسطو يتكلمان في العصر الحديث؛ غير أن الإيمان بالديمقراطية فيه أكبر من إيمان صاحب المدينة الفاضلة وصاحب السياسة المدنية، لأن الحاكم الفيلسوف لا يعدل بالحرية الفردية نعمة من نعم الأرض ولا نعم السماء؛ وينعى على كارل ماركس كما ينعى على موسوليني أنهما يطويان الفرد في الحكومة، ويضحيان بالواحد على مذبح الجملة؛ ويسأله لدفج أيهما أحق لديه بالتقديم والإيثار: السلطان أو الحرية، وإرادة الحكومة أو إرادة الأفراد؟ فيقول: (ليس في وسعي أن أعتقد أن ضمير الفرد مطوي في ضمير اجتماعي واحد. إذ ليس في الدنيا من شيء محقق غير الضمائر الفردية. وليس أمام السياسة إلا أفراد اجتمعوا على هذا النحو ليتألف منهم مجتمع واحد يكون على ضروب شتى ومنها الفاشية. أما أنا - وأنا من الفرديين - فليس يسعني أن أسيغ فكرة الإدماج أو إلغاء الأفراد، وأن تكون الحكومة أو الأمة أو الشعب ممثلة في شخص واحد. ولا أنسى أن هنالك علماء اجتماعيين ودعاة سياسيين يقبلون ما يسمونه ضمير المجتمع وينكرون ضمائر الأفراد متفرقين، ولكنها فكرة لا يقرها العلم، ومصدرها النزعة الأرستقراطية في السياسة. . .)

ووددت لو أن (مازاريك) حين مات كنت محتفظا له بتلك الصورة التي تناسقت وتلاحقت من جهاد الشباب ومن ثورته في الكهولة، ومن بحوثه ومصنفاته، ومن رسالة الديمقراطية التي قام بها على سرير الدولة كما قام بها من قبل على منصة التعليم وعلى منبر الدعاية

ولكن الفيلسوف الذي يستبقي في الحكم صورة أفلاطون أو صورة (السياسة الغدرية) إن هو إلا أسطورة من أساطير الخيال، نتوهمها بالنظر ونترسمها بالأمل، ولا نلمحها بعين الواقع ولو أغضينا عن كثير

قبل أن يقضي الموت قضاءه في الحاكم الحكيم بأشهر معدودات وقع لي كتاب عن أوربا الوسطى للكاتب الإنجليزي هنري بوتسي أسماه (اليد السوداء على أوربا) أحصى فيه مظالم الشعوب الصغيرة التي ضمتها معاهدة فرساي إلى حكومات لا تحبهم ولا يحبونها، ومنها شعب السلواق المضمومين إلى حكومة (مازاريك) رسول الديمقراطية ونصير كل شعب مظلوم أيام كان الظلم نازلا بتلك الشعوب من آل هابسبرج!

وكان مازاريك قد عاقد وكلاء السلواق المقيمين بالولايات المتحدة في السادس والعشرين من شهر مايو سنة 1915 أن تكون حكومتهم مستقلة في داخل الدولة على مثال الولايات المتحدة الأميركية، وأن يكون لهم مجلسهم النيابي، ومحاكمهم التي يضعون لها شرائعها، ولغتهم في التعليم والإدارة والحياة العامة

فلما جاء يوم الإنجاز وقامت الدولة التي مهد لها أولئك الوكلاء إذا بأرضهم مستعمرة مملوكة، وإذا بهم أتباع مسخرون، وإذا بالعقد المبرم قصاصة مهملة، وإذا بالحاكم الحكيم يتحلل من عقده فيلجأ إلى حيلة لم يلجأ إليها عاهل من عواهل هابسبرج ولا متحذلق عندنا من صناع الفتاوى وطلاب الحيل الشرعية، فيقول لوكلاء الشعب المهضوم إن العقد إنما أبرم في يوم بطالة رسمية عند الأمة الأميركية، وذلك في شرع البلاد التي أبرم فيها مبطل لشروطه ناقض لفحواه!

ويلي ذلك قصة أليمة من قصص المظالم والدعايات الكاذبة، بحت فيها الأصوات وذهبت فيها صرخات المغلوبين على آذان عصبة الأمم كما تذهب زمجرة البحر الصاخب بين أجواز الفضاء

سيرة الرجل عبرة لا تنقضي ودروس لا تنفد. أولها: أن الفيلسوف لم يسلم من لوثة الحكم والسياسة ولو أضمر الخير وأسلف الجهاد الطويل في قضايا المظالم والشكايا

وثانيها: أن الديمقراطية لا تسلم في وطن تختلف أجناسه ولغاته وأديانه وطبقات الحضارة فيه إلا على أساس (الولايات المتحدة) التي يستقل فيها كل فريق بالحكم والتشريع

وثالثها: أن أوربا الوسطى لا تزال كما كانت قبل الحرب العظمى غيلاً تصطرع فيه ضواري الأحقاد ويوشك أن يندفع بالعالم مرة أخرى إلى حرب لا تؤمن لها عاقبة

وإننا على ما أنتاب الديمقراطية من خيبة، وما تعاورها من نقض وتقويض، لا نزال على إيمان وثيق بها أنها هي كهف السلام ومعقل بني الإنسان، ومآل الحكم في المستقبل البعيد إن لم يعجل لها النصر في مستقبل قريب

فالدول الديمقراطية لا تبغي الحرب كما تبغيها الدول الدكتاتورية، وبريطانيا العظمى وفرنسا والولايات المتحدة لا يخشى منها على سلام العالم كما يخشى من إيطاليا وألمانيا واليابان والجمهوريات الروسية

ولقد يقال إن بريطانيا العظمى وفرنسا والولايات المتحدة إنما تسالم الدول الأخريات لأنها شبعت من المستعمرات فلا حاجة بها إلى المشاكسة ولا إلى اقتحام المشكلات، لكنه اعتراض وجيه في ظاهره غير وجيه في لبابه. إذ أن المسالمة والاكتفاء شأن جميع الدول الديمقراطية ولو لم تكن لها مستعمرات ولا أسواق مملوكة في بلاد المستضعفين؛ وهذه الدنمرك والسويد والنرويج وسويسرة لا تمتلك أرضاً وهي من اليسر والرواج في حال يحسدها عليه المالكون؛ وربما خلت من الجند والسلاح فليس بها إلا قليل من الشرطة وما يحتاجون إليه من أداة

إنما الحقيقة أن الدكتاتورية والحرب قرينان لا يفترقان، لأن الدكتاتورية لا تقوم إلا على عسكرية، والعسكرية لا تستقر طويلاً بغير قتال، ولا أمان للعالم كله إلا باتجاه سريع إلى الديمقراطية يقصيه من زبانية الاستبداد سواء كانوا من أهل اليمين أو من أهل الشمال

عباس محمود العقاد