مجلة الرسالة/العدد 222/شد الرحال إلى الجبال
→ محمد بن جعفر الكتاني | مجلة الرسالة - العدد 222 شد الرحال إلى الجبال [[مؤلف:|]] |
هكذا قال زرادشت ← |
بتاريخ: 04 - 10 - 1937 |
للأستاذ عز الدين التنوخي
وأخيراً عاد الأمير شكيب أرسلان من جُنَبرة إلى لبنان! وبعد أن قرت عين المسافر بالإياب، وألقى عصاه بين أهله والأحباب، حركني وصديقي الشيخ محمد بهجة البيطار شوق مبرح إلى زيارة أمير البيان في رحابه، فشددنا الرحال إلى الجبال، أو بالحري أدرنا العجلات نحو الهضبات؛ وأحب أن يرافقنا في السيارة لهذه الزيارة: الشيخ بهجة الأثري البغدادي والشيخ ياسين الدّواف النجدي والشيخ علي الطنطاوي الدمشقي الذي لا يجهله قراء الرسالة. ومازالت سيارتنا بسم الله مجراها ومرساها تصعد في الجبال تارة وتصوب في بطون الأودية أخرى حتى بلغنا العشية عين صوفر عرين الأمير، فعلمنا أنه في كورة الشوف يرد الزيارة لوفود القرى التي استقبلته يوم رجوعه إلى ربوعه، وكان علينا أن نكتب إليه بزيارتنا من دمشق، فذلك الإهمال أو النسيان، قد دهانا بهذا الإخفاق أو الحرمان، ولم يخفف شيئاً من حسرتنا إلا علمنا بأن أمير البيان سيهبط الغوطة بعد أيام قليلة، ولذا عولنا على العودة إلى الفيحاء من طريق الفالوغة وفيها خليل لنا مصطاف يقال له إبراهيم، ولما هبطنا بالسيارة واديه، وحللنا ناديه، ونلنا قسطنا من الراحة وحظنا من الراح نهضنا لامتطاء سيارتنا فأقسم علينا: لا رحيل لكم اليوم ولا براح، فلم نجد بداً من النزول عليه مكرهين ومكرمين
وغداة غدٍ صعدنا إلى (عين الصحة) المعدنية في جبل الفالوغة والتي تعلو سطح البحر بنحو 1500 متر، وقد اشتهرت بأنها للرمل حطوم، وللأطعمة هضوم، اشتهار (عين بُقين) في وادي الزبداني من مصايف دمشق. وأخبرني الكيماوي الثقة الذي حلل الماءين أن ماء بقين أخف مياه الشام في الثقل، وأشفاها لآلام الكلى والعلل، وإنما سميت بعين بقين لأن المريض إذا عب منها عبتين، أو شرب كما يقول العامة بقين، هضم الطعام وشفى الكليتين
وإلى جانب عين الصحة مقهى صغير تناولنا فيه صبوحنا من صهباء الماء والخبز المرقوق واللبن الخاثر والبيض المسلوق؛ وقد شاركنا في رحلة الصباح هذه وفي الاصطباح صديقان كريمان: القاضي خليل رفعة والصوفي شمس الدين، وتخلف في الفالوغة السيد إبراهيم معتذراً وقد خشي أن يبهره الصعود، فاغتاظ رفاقه لتخلفه هذا لأن شرط المرافقة الموافقة، وأغروني بهجوه فقلت لهم على العين، هذين البيتين، ومسحة الارتجال بادية عليهما:
إذا لم تزر فالوغة ورياضها ... ولم تشهد الجنات حولك ألفافا
وإن أنت لم تصعد إلى عين صحةٍ ... ولم تروَ منها لم تكُ الدهر مصطافا
وعلى يسار المقهى خيام أربعة من الطيارين الفرنسيين مع أزواجهم وأطفالهم، وبذلة أحدهم تتألف من سريويل قصير أزرق وقميص شفاف أبيض، والنحور والصدور والظهور حواسر، والأفخاذ والسوق والأقدام ظواهر؛ وهؤلاء الرفاق يأتون من مطار رياق للاستشفاء بالماء والهواء، فيقضون في الأسبوع يوما كاملا في مثل خيام الكشافة ويعيشون فيها عيشة الكشافة ومعهم جميع أدوات المطبخ فلا يحتاجون في طهي الأطعمة إلى شيء غير ماء العين. ولعل الارتياض على الحياة الكشفية في الصغر قد ذلل لهم في الكبر صعابها وألان لهم رقابها وجعلهم يبتغون لها الوسائل والأسباب
وفي نحو الثامنة من الصباح وقفت على العين سيارة ترفع علماً فرنسياً صغيراً يدل على أن ركابها من المفوضية الفرنسية ببيروت وفتح الباب فنزل منها أبوان شيخان وأطفال ثلاثة يحمل كل منهم عصاً ذات زج كالمزراق، وعلى ظهره حقيبة الجند، وعلى رأسه قبعة كبيرة تحاكي مظلات اليمن والجزائر، وفي رجله حذاء صفيق الجلد ناتئ المسامير يذكرنا بمداس الأصمعي الذي قال فيه: (نعم قناع القدري هذا)
وألتفت إلي رب المقهى قائلاً: هذان الجدان هما المسيو بريال وزوجه، وهؤلاء الثلاثة الأولاد أحفاده؛ يأتي بهم في الأسبوع مرة ليصعد إلى قمة الجبل، ويترك على العين سيارته وهو يرتاض بذلك وزوجه العجوز التي جاوزت الستين، ويروض أحفاده على حياة الجنود، والغربيون يعودون أطفالهم صغاراً ما يضطرون إليه كباراً، مجارين في ذلك غرائز الطبيعة؛ لأنا نشاهد الأولاد يركبون العصي استعداداً لركوب الجياد، ونرى البنات يكثرن الوقوف أمام المرأة تعوداً لما يعملنه وهن أمهات
إن حياتنا الشرقية ركود وكسل، والحياة الغربية حياة نشاط وعمل؛ فالجماعة منا إذا خرجوا إلى ظاهر المدينة للتنزه جلسوا على ضفة بردى أو النيل أو الفرات، وأخذ بعضهم يغلي شراب الجاء، وشرع الآخرون في الحديث أو الغناء، وإلى جانبهم مضطجعون، أو على الأرائك متكئون؛ وإذا خرجت رفقة من الأوربيين إلى التنزه وأخذوا في الارتياض بأنواع الرياضيات والألعاب، فهذا يلاكم وذا يصارع، وهذا عداء وذلك وثاب، وهذان فريقان يجران الحبل، أو يتقاذفان الكرة بالراحة أو القدم؛ فالتنزه في عرفنا للطعام والشراب أو الاضطجاع أو السماع؛ وفي عرف الغربي للعدو والوثب والصراع، والحركة يراها بركة، والتواني والسكون هلكة
ثم التقينا على العين بإخوان لنا من رجال العراق، فتجاذبنا أطراف الأحاديث إلى أن تحدثنا عن الانقلاب العراقي الأخير فحمدنا الله على حدوثه، ولم يستشر فساد أو تعم فتنة، وعلى إرساله لإنقاذ الموقف الخطير ذلك الرجل الإداري الحكيم، والجندي العربي الصميم (السيد جميل المدفعي) الذي قضى حياته في الدفاع عن حوزة العروبة، والذي أجمعت الكلمة لسلامة دواعي صدره على الثناء عليه وعلى محبته، والاعتصام في هذا المأزق الضيق بعروته، ثم ودعنا إخواننا بعد أن تزودنا من شرب الماء عبا، ونزلنا راجعين إلى حمانا ونحن نمتع العيون بسواحر المناظر من وادي حمانا الذي غنى باسمه من قبلنا لامرتين، وكان منظر الصنوبر الأخضر على الجبال أروع هاتيك المناظر وأبدعها وأشدها للعين بهراً وللقلب سحراً، فقد جعل كل من أصحابي يترنم ببعض الأغنيات، وجعلني أرتجل الشعر مغنياً بهذه الأبيات:
أَوَادي حّمانا سقيت وأُخصبت ... رُباك مغاني الحسن والحسناتِ
شهدتُ لقد شَاهدت فيكَ صنوبراً ... يبدّد ما في القلبِ من حسراتِ
وخلت الغواني في الجبال حواملاً ... مِظلاّتهن الخضر والنضراتِ
وسربَ نعامٍ أبصر السيل هادراً ... فأسندَ مرتاعاً إلى الهضباتِ
هل المسكُ من هاماتك الخضر فائحٌ ... أم المسك من غاداتك العطِرَاتِ
لَطبتَ أيا وادي الصنوبر وادياً ... وبارككنّ الله من شجراتِ!
(دمشق)
عز الدين التنوخي