مجلة الرسالة/العدد 222/رسالة الفن
→ فريسة البغاء | مجلة الرسالة - العدد 222 رسالة الفن [[مؤلف:|]] |
القصص ← |
بتاريخ: 04 - 10 - 1937 |
الفن الهندي
للدكتور أحمد موسى
مقدمة
كان لما كتبناه على صفحات (الرسالة) من الأثر ما شجعنا على مواصلة البحث والتحرير في موضوع ظننا لأول وهلة أنه ليس من الموضوعات التي يقبل القراء على قراءتها إقبالهم على غيرها، وقد وصلتنا رسائل عدة، استفهم كاتبوها مرة عن بعض التفاصيل وأخرى امتدحوها فيها خطتنا في الدرس والبحث، وثالثة يطالبوننا بأن نكثر من الكتابة عن الفن الشرقي على وجه الخصوص.
ولما كان تاريخ الفن لا يعنى بعينه دون سواه، ولما كانت رغبتنا هي العمل على إيجاد ثقافة فنية أقرب إلى الكمال، وغايتنا هي الوصول إلى ما يسمو بذوق القارئ، فيستطيع تقدير الجمال والتعرف على ناحية فذة في تاريخ الحضارة الإنسانية كلها، وجدنا أننا نستطيع الآن أن نبدأ بدرس الفن الهندي - وهو فن شرقي - لاسيما وقد فسرنا مميزات الفن المصري، وأوضحنا في شيء من الإسهاب آثار أكروبوليس أثينا، وآثار بابل وآشور كما تناولنا بالبحث بعض أقطاب الفن أمثال روبنز ورمبراندت وجويا وليوناردو وميكيلانجلو ورفايللو دون عناية بترتيب زمني أو مدرسي وقصدنا بذلك تبسيط الدرس
على أن درس الفن الهندي يكاد يكون من الدراسات المعقدة ولاسيما أن معرفتنا بتفاصيل العقائد الدينية في تلك البلاد تكاد تقرب من المعرفة الإجمالية، كما أن المعالم الأولى للفن الهندي مفقودة تماماً بالنظر إلى أن المشيدات الفنية أقيمت كلها من الخشب في أول الأمر فتلاشت معالمها بمضي القرون وأصبحنا أمام آثار حجرية بدأت بعد الوصول بالفن الهندي إلى درجة عظيمة تستحيل معها معرفة المرحلة الابتدائية لهذا الفن؛ كل هذا إلى أن الهند محاطة من الشرق والجنوب والغرب بالمياه، ومن الشمال بجبال عظيمة، جعل الفن الهندي قائماً بذاته لا تجد له نظيراً بين الفنون الأخرى من الوجهة العامة. نعم يرى الدارس المدقق أوجه الشبه بينه وبين الفنون الأسيوية، ولكننا هنا لا نتعمق في البحث والاستقصاء، وك ما نريده هو الإحاطة الإجمالية، وفهم أبرز المميزات للفن الهندي، والوقوف على مدى ما وصل إليه الفنان في هذا المجال
وخير وسيلة وابسطها لهذه الغاية هي تقسيم الفن الهندي إلى ثلاث مراحل: الأولى مرحلة البراهمة التي أستمر أثر حضارتها إلى حوالي سنة 250 ق. م. والثانية مرحلة البوذيين التي بدأت عندما نادى بوذا بمذهبه في القرن السادس قبل الميلاد، وظلت حتى كان المذهب البوذي هو الدين الرسمي للبلاد بواسطة الملك أسوكا حوالي سنة 250 ق. م. أما المرحلة الثالثة فهي المرحلة البراهمية الجديدة التي بدأت عند إدماج المذهب البوذي في المذهب البراهيمي صاحب الغلبة في القرن السابع بعد الميلاد. وقد بلغ الفن الذروة فيما بين القرن الثامن والثاني عشر بعد الميلاد، وبعدئذ دخل الإسلام بسطوته إلى تلك البلاد من القرن الثاني عشر
وبدأ الفن الهندي بمعناه الكامل في المرحلة البوذية حيث توجد أقدم الآثار الجديرة بالتسجيل والدرس والتي يرجع عهدها إلى عصر الملك أسوكا
وخير الأمثلة عليها المباني بأعمدتها التذكارية في (الله أباد) و (دهلي) وغيرهما، وفيها كلها أقيمت هذه العمائر لتسجيل النصر لبوذا
وطراز الأعمدة التذكارية يتخلص في أنها أقيمت على قواعد مستديرة الشكل تحمل تيجاناً على هيئة زهرة اللوتس وعليها الأسد رمزاً لبوذا
هذا إلى جانب بناء مجموعات من الأعمدة التذكارية على قواعد مستديرة الشكل تحمل مباني صامتة من الحجر المحروق، وقد أخذ شكلها التكويني هيئة القباب، وإلى جانبها خصصت غرفة صغيرة لدفن الأجسام المقدسة، أحيطت جميعها بسور عالٍ ذي بوابة كبيرة من الخشب. وأقدم أنموذج لهذا النمط البناء المسمى ستوبا سانتشي، يرجع تاريخه إلى عصر أسوكا، وقد بلغ ارتفاعه سبعة عشر متراً، وبه أربع بوابات ذات نقوش وزخارف بديعة.
هذا إلى جانب المعابد المنحوتة في الصخر والتي يتمثل فيها الفن الهندي البوذي تمثيلاً جيداً، نحتها وهيأها البوذيون، وكانت النمط الذي سار عليه البراهميون فيما بعد. فأنشأوا المعبد على هيئة مربع قسموه بواسطة الأعمدة إلى ثلاثة أجنحة (أشبه بالكنائس بازيليكا) فكان الجناح الضيق منتهياً بفتحة كقبلة صغيرة على هيئة نصف دائرة وضع فيها تمثال بوذا أو صورته. أما الحوائط فكانت كلها مزخرفة ومنقوشة، وإلى جوار هذا المربع غرف كثيرة وطرق ومسالك وردهات. كل هذا منحوت في الصخر مما يثير الإعجاب حقاً، كتلك التي نحتها المصريون في الصخر أيضاً (راجع الرسالة - الفن المصري، العمارة المصرية)
أما المدخل العام فكانت واجهته جميلة التكوين، تأخذ بلب الناظر إليها لما فيها من مظاهر العناية الفائقة والدقة المتناهية، هذا إلى جانب التماثيل والمنحوتات التي لا تقل قيمة فنية عن بقية البناء.
أما الدعامات والأكتاف الساندة فكانت مختلفة التكوين سائرة على غير قاعدة هندسية فنية ثابتة. والناظر إليها يرى أنها تشبه في بعض أجزائها تلك التي عملت على الطراز الباروكي في أوربا لولا ما غلب على حلياتها من الخيال الشرقي
وكانت الأعمدة حيناً مضلعة، وقد بلغت أضلاع بعضها أحياناً الستة عشر ضلعاً؛ وكانت التيجان أعلاها مربعة الشكل أو على قطعة حجرية ذات ثمانية أضلاع أو مربعة الشكل أيضاً. وكانت حيناً آخر مستديرة تسير على طولها قنوات رفيعة وتيجانها مستديرة مرة، وعلى هيئة كرة منبعجة مرة أخرى
وأهم وأبرز نماذج لهذه الأنماط المعمارية تنحصر في حدود الهند الشمالية الغربية بالقرب من بمباي وكارلي وأدشونتا وبهايا وإيلورا، وأقدم هذه كلها يرجع تاريخه إلى سنة 150 ق. م، وأعظمها وأشهرها وأجملها أقيمت في وقت الانتقال من الديانة البوذية إلى البراهمية بين سنة 500 وسنة 800 بعد المسيح
وتعد معابد إيلورا الصخرية على الخصوص من عجائب العمارة الهندية وتشمل الطرازين البوذي والبراهمي معاً، وبعض هذه المعابد على سفح الجبل الجرانيتي، وبعضها الآخر منحوت فيه من الداخل وكلها تقرب من ثلاثين معبداً وديرا
(له بقية)
أحمد موسى