مجلة الرسالة/العدد 221/مصر العربية
→ ../ | مجلة الرسالة - العدد 221 مصر العربية [[مؤلف:|]] |
سلوك المرأة وسلوك الرجل ← |
بتاريخ: 27 - 09 - 1937 |
للأستاذ محمد اسعاف النشاشيبي
أبهجتنا معشر العرب ونعشتنا كلمة مصر المعرقة في العربية والكرم في (عصبة الأمم) في هذا اليوم، ذودا عن فلسطين إحدى الولايات (المديريات) المصرية من قبل، وحدتني على أن أبعث إلى (الرسالة) مجلة الأمم العربية بهذا القول، وقد أنشأته إذ سمعت ضباح غر غمر في عربية مصر، ومصرية عمرو
لما كان مهرجان شاعر العربية الأكبر أحمد شوقي (رحمه الله) في شوال سنة (1345) وجئت القاهرة: الحاضرة اللغوية للأمم العربية كيما أجهر بكلمتي في ذلك اليوم المشهود، استهللتها بهذا الكلام: (ليست دار العربية رمال الدهناء أو هضبات نجد أو الحجاز أو إقليم الشام أو أرض العراق، بل دارها كل مكان ينطق بالضاد أهله، ويتلو فيه كتاب محمد (صلوات الله عليه) قراؤه؛ وأقوى القوم عربية بل العرب العرباء أعرفهم بأدب العربية، فأهل مصر إذن هم القبيل المقدم في العربية، وهم سادات العرب)
وهذا التاريخ المصري، وهذى أحاديثه، وهذه الإسلامية المشرقة في مصر، وهذه العربية المنورة في مصر، وتلكم الأيادي البيض، وتلكم الآثار، وهذه المساعي في هذا الزمان، وهذه كلمة مصر المجلجلة في (دار العصبة) ذائدة عن فلسطين في هذا الوقت. كل ذلك يقول لي: صدقت، صدقت!. . .
فقد ساندت مصر العاملين في إعزاز العربية وإعلائها يوم كانوا يعملون، وقد حمت مصر هذه العربية حين لا أباة ضيم ولا حماة يحمون
حملت مصر دونهم هيكل الدين وروح البيان من فرقانه
وإن كانت إنما وقت عربيتها وحمت إسلاميتها، إذ الإسلامية والعربية والمصرية كلمات في هذا الوجود مترادفات
وما يجادل في عربية المصرية ومصرية العربية إلا كافر بالشريعة الكونية، وإلا محترق محتقد على هذه الإسلامية، وإلا ناشئ أضلته على علم (وهو غافل) هذه المدرسة الغربية، وإلا وغد سمسار باع الغلي رخيصاً في سوق العلوج والفرنج والحكومات الأجنبية، وإلا غبي جاهل، ولهذا يقال: قد اطلعت على سري وإعلاني ... فاذهب لشانك ليس الجهل من شاني
وإن مصرياً يجهد أن ينسلخ من عربيته لطالب في الدنيا محالا، ولن يكون مرغبه إلا من بعد أن يفارق نحلته، وينسى لغته، ويضمحل أدبه، ويفنى مجده في ثلاثة عشر قرناً، ويمحى حسبه، فكون مراده إنما هو بعدمه، ولن يكون هذا إلا ألا يكون هو
ومكلف الأيام ضد طباعها ... متطلب في الماء جذوة نار
وإذا ذكرنا العربية فإنما نعني هذه العبقرية ذات التعاجيب المحمدية، وهذه القوة الخلقية، وهذه المقاصد القرآنية، وهذه الآداب الإلهية، وتلك الحضارة والمدنية
هذه هي العربية، وإن أظل وهن، وإن جاء ضيم، فالقوة في النفوس ما بدت، والعزة في غد (إن مع اليوم غداً يا مسعدة) وإن درج أهلها الأولون أنشد المصريون المنشدون:
فان يك سيار بن مُكرم انقضى ... فانك ماء الورد إن ذهب الورد
وإن قال عربي منتم إلى العربية، ما معه من العربية شيء: لست بعربي، فليس لمصري أن يقول مقاله، ويضل ضلاله؛ إن المصري هو وارث ذاك المجد، والمصرية هي وارثة العربية. وإن لم يكن المصري هو العربي، فليت شعري من يكون العربي؟ وإن لم تكن مصر دار العربية، فأين - يا قوم - في الدنيا دارها؟
وإن قال زنيم نيط بالمصرية: لست في شيء من العربية، قالت له المصرية: ولست في شيء من المصرية. أنكر العربية فأنكرته المصرية
وأنت زنيم نيط في آل هاشم ... كما نيط خلف الراكب القدح الفرد
إذا لم يكن المصري هو العربي كل العربي فهل العربي هو المغربي أو العراقي أو الشامي أو الحجازي أو النجدي أو اليماني أو الحضرمي أو العماني أو ذلك البدوي، ذلك الأعرابي
هل ذهب كل هؤلاء بمنقبة العربية وقعد المصري حجرة العربية حجر عليه. . .؟؟!!
إن العربية لن تنكر بنيها كبروا أو حقروا، نأوا في الدار أو قربوا، قل عديدهم أو كثروا، فكل أولئك بنوها، ولكن يحزنها ويغضبها عقوق في بنيها، وأقرب الأبناء إلى أمهم ابن في الدنيا بر. وهل رأت العربية في حين أبر بها من مصر؟
وليست العربية بالعزوة، ليست العربية نسبة، ولكنها عقيدة ونحلة وملة، ولكنها خليقة وأدب ولغة ليست العربية نسبة، ولكنها جامعة تؤلف بين القلوب، وفيها وفي شريعتها الحرية، وليست كمثل جامعة غربية، لأهلها ضجيج وعجيج (وأولئك الأغلال في أعناقهم)
فالعربي هو ذلك المتمدن المتحضر المهذب المثقف، المتعلم العالم العزيز الأبي الناطق بلسان القرآن. وليس بعرب (خراب بادية غرثى بطونهم) ولا قراضيب في (الجزيرة) ولا مد لغفون
وآنف من أخي لأبي وأمي ... وإذا ما لم أجده من الكرام
وقد قلت من قبل: ألا إننا كلنا أجمعين عرب أو عربيون وإنه ليحق هذا لهجة عربية ألهجنا منذ القديم بها، وأدب عربي نجعنا به وتروينا منه، وخلق عربي اشتملنا عليه. وما الأمة إلا لغتها وأدبها وخلقها، وكفى بذلك جامعاً، وإن النسب الواشج إلا زائدة، ولو عزا العازي كل أمة وفتش أصلها لتشظت وراحت أمم. . .
وهو قول لم يلاق مكذباً، ولم يجد أحد عنه متعقباً
وإن هذه العربية أم العلم، وربة التفكير، وزعيمة البحث والنظر - لن تقول لمصري من أبنائها - وهنالك في وادي النيل ما هنالك وهناك التاريخ الناطق، وهناك مجد باسق، فلن تقول له: طلس وطرس، بل تقول له: مجد وقدس؛ إنك قد سكنت جنتين، وكنت ذا المنقبتين، وكانت دارك مصدر المدنية، وموئل العربية قد جمعت العز من أطرافه: سؤدد (المصري) ومجد العربي
مصر مصدر العلم والمدنية
مصر موئل العرب والعربية
مصر! حيا الله مصر! حيا الله ربعها
محمد اسعاف النشاشيبي