مجلة الرسالة/العدد 221/سلوك المرأة وسلوك الرجل
→ مصر العربية | مجلة الرسالة - العدد 221 سلوك المرأة وسلوك الرجل [[مؤلف:|]] |
مصر في أواخر القرن الثامن عشر ← |
بتاريخ: 27 - 09 - 1937 |
للأستاذ إبراهيم عبد القادر المازني
أمر النساء في كل حال عجيب. وإذا كان أحد من الرجال يفهمهن - كما ينبغي أن يفهمهن - فأنا والله بهن جاهل. ولي العذر، فما أراهن يفكرن في شِأن على نحو ما أفكر أنا أو يتناولنه من الناحية التي أتناوله منها. وأحسب أن هذا الضرب من الجهل هو الوحيد الذي لا يعيب المرء أو يسقط قيمته أو يزري به. قالت لي مرة فتاة من معارفنا: (ما قولك؟) قلت: (خير إن شاء الله! نعم يا ستي!) قالت: (هل يشغلك شيء غداً؟) قلت: (إذا كنت تعنين بالشيء العمل فإنه لا ينقطع؛ على أن أمري بيد الله ثم بيدي فأشيري كيف تأمرين، والعوض على الله) قالت: (اسمع. نريد. .)
فقاطعتها: (نريد؟. هكذا؟ بلفظ الجمع؟)
قالت: (لا تقاطع من فضلك. اسمع. . . نعم أختي وبنت عمي وأنا)
قلت: (أهلاً وسهلاً. . تفضلي)
قالت: (الجو في هذه الأيام بديع. . تهيئ لنا زورقاً حسناُ نظيفاً مريحاً، نركبه في النيل ونقضي يومنا كله على متن الماء، ونتغذى فيه أو في إحدى (المقاتات) التي نمر بها في طريقنا)
قلت: (اقتراح جميل، ولكن. . أنا وحدي أكون معكن؟ وفي خدمتكن؟ ارحمن تينمي يا فتيات!)
فقالت: (تستطيع أن تدعو فلاناً وفلاناً)
فدعوتهما وأعددنا الطعام ومررنا بهن فحملناهن إلى قصر النيل حيث كان الزورق ينتظر، ولم ألق إليهن نظرة حتى نزلن من السيارة وشرعن ينحدرن إلى مكان الزورق؛ فدهشت، فقد كانت ثيابهن زاهية نظيفة مكوية، بل كانت أفخر وأبرع ما رايتهن فيه، فتناولت ذقني بيدي وقلت: (هيه. . . نهارك أسود يا أبا خليل) ولم أكد أهز رأسي هزتين حتى نادتني إحداهن فنظرت إليها مستفسراً فقالت: (خذ بيدي فإني أخشى أن أزل وأقع على التراب أو تغوص قدمي فيه) فسألتها وأنا أتناول يدها:
(أين تحسبين نفسك؟ في سباق الخيل؟ ما هذه الثياب التي لبستها؟) قالت وهي تحني رأسها لتنظر إلى قدميها: (مالها؟ ألا تعجبك؟)
قلت: (تعجبني وتعجبني. . ولكنها لن تعجبك بعد نصف ساعة في الزورق)
ولا أطيل. ركبن، ووثبنا نحن وراءهن فأشرنا إليهن أن يجلسن فنظرن إلى المقاعد - ولم يكن بها سوء والله - متأففات مترددات فنفضنا لهن التراب الموهوم عن الحشايا المطروحة على المقاعد. وصحيح أنها ليست وثيرة جداً، ولا جميلة المنظر، ولكنها نظيفة. غير إن فتياتنا تبادلن نظرات تنبئ بالامتعاض ولا تنبئ بالرضى، ثم انتهين بأن جلسن متلاصقات جداً محاذرات أشد الحذر؛ وكان لابد أن أغضى عن ذلك فليس ذنبي إنهن جئن في ثياب لا تصلح إلا على الأرض اليابسة، وناولت أحد إخواني مجدافا وأخذت أنا الآخر، وتركنا الدفة لثالثنا، وقام الملاح فدفع الزورق عن الشاطئ بالمردى، ثم بدأنا نجدف، وكنت أضرب الماء برفق شديد حتى لا يطير منه شيء، ولكن رشاشاً منه كان يصيبهن على الرغم من ذلك فيصرخن ويتلاغطن ثم يتدانين ويعبسن ويمسكن عن الكلام ولا تبقى لهن عين يدرنها في المناظر التي جئن لينعمن بالنظر إليها
وأخيراً قال الذي بيده الدفة: (خذ أنت الدفة واعطني المجداف)
فلم أتردد في القبول فما كان يسرني أن أكون سبب التنغيص. واتخذ صاحبي مقعده وراح يضرب الماء بعنف فيتعالى الصراخ فلا يعني بأن يلتفت إليهن ولا يزيد على أن يقول وهو يضحك: (لا بأس! سينشف الماء ثم يفرك الوحل فلا يبقى شيء. . .) وقد حرن ماذا يصنعن لاتقاء هذا المطر، وكنت ربما ضحكت إذ أراهن يخرجن مناديل في سعة الكف وينشرنها على حجورهن كأنما من الممكن أن تستر شيئاً.
وأخيراً بلغنا مكاناً دنونا من شاطئه، وقال الملاح: إن الأحسن أن يجر الزورق بالحبل. وقام فاخرج حبلا طويلا شده إلى الزورق ووثب إلى الشاطئ وراح يجر، وقعد أحدنا عند الدفة ليضبط الزورق فلا يجنح أو يلصق بالأرض. فعاد إلى الفتيات البشر وانطلقت ألسنتهن وان كن لم ينسين موجدتهن علينا لما أصابهن من البلل. ثم تهامسن ونهضن وجعلن يصحن بالملاح وهو بعيد لا يسمع ونحن نسألهن ماذا يبغين وهن لا يباليننا أو يجبننا. وسمع الملاح فوقف وارتد إلينا، وإذا بهن يردن أن يتولين هن جر الحبل أو (اللبان) كما يسميه النواتيه. فنصحنا لهن آلا يفعلن وحذرناهن وأنذرنهن فأبين إلا أن يفعلن، وفي ظنهن أن هذا أسلم لثيابهن، وأشرح لصدورهن وأجلى للصدأ وأجلب للصحة أيضاً، فتركناهن يفعلن وأدنينا لهن الزورق من الشاطئ وحملناهن واحدة واحدة إلى الأرض. فذهبن يجرين إلى أول الحبل حيث تركه الملاح ودفعنا نحن السفينة إلى الماء مرة أخرى وكنا نراهن فإذا باثنتين منهن يتناولان الحبل معاً وكانت الثالثة تدور حولهما ولا تصنع شيئاً فمرة تكون أمامهما وتارة تكون خلفهما وهكذا، فانتهى الأمر بأن التف الحبل على سيقانهن جميعاً فصرخن ووقفن يحاولن تخليص أرجلهن مما أحاط بها فخلصت أرجلهن ولكن الحبل صار على صدورهن وأعناقهن، والزورق يضطرب بنا ونحن نحاول أن نضبطه بالمجداف. واستطعن أخيراً وبعد لأي وصراخ فظيع أن يتجنبن شنق أنفسهن، فتهامسنا بأن أولى بنا أن نسكت وندعي الجهل بما حدث وأن ننظر ماذا يصنعن بعد ذلك. ويظهر أنهن خجلن أن يقلن شيئاً فعدن إلى الحبل واستأنفن جره فحمدنا الله ولكنهن كن يمشين شيئاً، ثم يقفن فجأة وعلى غير انتظار منا، فيضطرب بنا الزورق فناديناهن، فلما تنبهن إلى أننا نريد أن نكلمهن وقفن وأقبلت علينا واحدة منهن وقفت بعيداً وأشارت إلينا تسألنا عما نريد، فصحت بأعلى صوتي: (لا تقفن) فقالت ويدها على أذنها: (إيه؟) فقلت لصاحبي: (صوتكما أقوى فكلماها وأفهماها أن الوقوف يضايقنا ويتعبنا، ففعلا. فلما عرفت ما نريد بدأت تسألنا هل نحن مسرورون، وهل هن يحسن جر الحبل؟ فأثنينا على براعتهن، وامتدحنا حذقهن، وأكدنا لهن أن الدولة حين تحتاج إلى ربابنة ونواتية للسطول فانهن سيكن خير المرشحات أو خير أساتذة المدرسة البحرية. وكنا نرجو أن تعود إلى زميلتها فيستأنفن جر (اللبان) ولكنها تذكرت أن بها حاجة إلى منديل مما في حقيبتها فأخرجناه لها وحملناه إليها فذهبت به وإذا بثانية تعود وتصيح بنا أنها هي أيضاً تحتاج إلى منديل فناولناها إياه، وبد لها أن الثالثة قد تطلب منديلها فيحسن أن تأخذه له على سبيل الاحتياط، فأجبناها إلى ماطلبت، فذهبت ثم عادت وقالت إن الثالثة لا تريد المنديل فهي ترده لنضعه حيث كان فاطعنا ومضت، وبعد دقائق أخرى عادت الثالثة تقول: إنها رأت أن الأحسن على كل حال أن تأخذ المنديل، فدعونا الله أن يعيننا على الصبر وأعطيناها المنديل فذهبت وأوعزنا إلى الملاح أن يلحق بها وأن يتولى هو الحبل ولا يدع للفتيات إلا المظهر ولما جاء وقت الطعام تخيرنا لرقعة من الأرض خضراء ظليلة وتأهبنا للجلوس فنظرت الفتيات إلى الأرض مشفقات من البلل كأنما بقي ما يخشين على ثيابهن التي خططها الحبل بالوحل خضراء ظليلة فنشرنا لهن مناديلنا فان مناديلهن لا تصلح لشيء إلا للزينة. فجلسن عليها كالرماح استقامة، وكنا نشعر أنهن غير مرتاحات وأن الجلسة متعبة لهن، وأن خوفهن البلل ينغص عليهن ولكن ماذا كان يسعنا أن نصنع؟ ولو كان يسعنا أن ننقل لهن بعض أثاث البيت من سجاجيد وحشايا ومتكآت وما إلى ذلك لفعلنا. ولكنا لم نكن نعلم أنهن سيرتدين هذه الثياب التي تصلح للعرض ولا تصلح لرحلة على النيل.
وانحدرت الشمس قبل أن نعود إلى قصر النيل فكدن يبكين لأنهن تأخرن وكن على موعد مع الخياطة، فعجبنا لا تعادهن معها في يوم يخرجن فيه لمثل هذه الرحلة التي طلبنها وأردن أن تستغرق النهار كله. . . ولكن المرأة هكذا أبداً. . . تكون لها عين في الجنة وعين في النار. ولست ألومها أو أعيبها فأنها طبيعتها التي لا حيلة لها فيها، ولكني أرجو ألا ألام - وأن أعذر - إذا كنت أشعر بالحيرة والعجز في كثير من الأحيان عن الفهم الصحيح والتقدير المرضي المريح؛ واحسب أن الرجال جميعا مثلي جهلة مساكين. ولا شك أن المرأة يحيرها كذلك مالا تفهم من طباع الرجل وسلوكه، فالعجب بعد ذلك أن الجنسين يستطيعان أن يقنعا أنفسهما بأنهما متفاهمان، وأن كل شيء بينهما على ما يرام
إبراهيم عبد القادر المازني