الرئيسيةبحث

مجلة الرسالة/العدد 220/من الأدب الرمزي

مجلة الرسالة/العدد 220/من الأدب الرمزي

بتاريخ: 20 - 09 - 1937


فيما وراء الطبيعة

للأستاذ عبد المنعم خلاف

رَكْبٌ مَسُوق إلى ما يجهل بعصاً قاهرة يقظة فلا التفات ولا اعتراض ولا جُموح. . .

من الذَّرَّات التي لا تدركها الأبصار لدقتها وصغرها. . . إلى الذرات الضخمة التي لا تدركها الأبصار لجلالتها وكِبَرها، يتألف الركب المسوق المدفوع الذي لا يعرف من أين ولا إلى أين

لقد وُلد فيه كل شيء أثناء الرحلة فحَيَّ مسافراً وهَلَك مسافراً. .

يسير الزمان والمكان في الركب المهدود، وتسير الأبعاد والحدود، والمُهود واللُّحود، والحركة والجمود، والموت والحياة، والظلمات والنور، أضداداً مؤتلفة ونقائض مجتمعة في صمت.!

السموات شاخصة العيون إلى الأرض. . والأرض مشرئبة الأعناق إلى السماء. . واللجة مقبلة في لَهْفة على الشاطئ. . . والشاطئ واقف يترقب اللجة. . وهكذا يرنو كل شيء إلى كل شيء. . زوارق سائرة في لجة لا يعلم لها شاطئ. . . أجسام هابطة أبداً إلى غير قرار. . . كل شيء يدور على نفسه نحو كل أفق ليرى النهاية، فلا يرى إلا أشياء دائرة مثله. . .

أبداً تخرج الحياة من الموت ويخرج الموت من الحياة ليشهدا سير الركب؛ ثم يفنيان في الطريق. . .

أبداً تسافر الأضواء في ملايين سنيها محاولة كشف النهاية فلا تقع إلا على ذرات ترسل أضواءها. . .

الرحلة طويلة شاقة ومع ذلك فليس فيها مراحل ولا مواقف. . .

الصمت والصبر شعار القافلة إلا صُراخاً ينبعث من (أكثر شيءٍ جَدَلاً). من الإنسان. صاحب الجمجمة الدائبة على التلفت إلى الوراء والتطلع إلى الأمام، وسؤال كل شيء: ما أنت؟ ومن أين أتيت؟ وإلى أين تنتهي؟ ولماذا نحن هنا؟ (هل عندكم من علم فتخرجوه لنا؟) فيجيبها كل شيء: (ما المسئولُ بأعلمَ من السائل. . .) ثم يردد كل شيء صدى تلك الكلمة الكبيرة المعزِّية: (ما أَشهَدتُهمْ خَلقَ السموات والأرض ولاَ خَلْقَ أنفُسِهم)

الركب سائر بانسجام ونظام. . . وهذا هو موسيقاه التي تستحثه وتنسيه وعثَاء السفر. . .

ومن جَمِح وحاد عن طريق الركب ضل واحترق ضلالَ النيازك والشهب واحتراقها. . .

كل شيء قانعٌ بالنظر إلى عصا القهر المرفوعة عليه أبداً، إلا هذه الجمجمة. .! فهي تحاول جهدها أن ترى اليد القابضة على العصا. . . ومن هنا تعبت من النظر وزاغ منها البصر وتراجع حتى لم تَعدْ ترى العصا إلا في يدها هي المصنوعة من الطين. .! فعبَدَت نفسها وسجدت لها. .!

ألا يا عايد البطولة الإنسانية وفاديها ومالئ كئوسها من دمه ومحرق حبة قلبه بخوراً لها. .! ليس هذا موقع العبادة من قلب الإنسان والفكر المدله من رأسه. . . وإنما هذه العصا المرفوعة أبداً هي مكان السجود. . . فارفع جبهتك كثيراً كثيرا لتسجد عليها فوق. .!

أنظر إليها وحدها واجمد كما جمد لها قلب الجبل. . . واخفق كما خفق لها جوف البحر. . . واعصف كما عصفت لها جوانح الريح. . . واصفر كما اصفر منها وجه الصحراء. . . والتهب كما التهب بها وجه الشمس. . . وسر كما سار أمامها الركب المسوق. .!

أنظر إليها دائماً فهي تشير إلى الطريق. . . فإذا عميت عنها فهي شعلة تحرق البصر. . . وسر في طوعها دائماً فهي حماية وسلاح. . . فإذا شردت كارهاً فهي صوت وصاعقة. .!

قال لي ضباب مبهم في نفسي: لم تحوم حول اللجة ولا تضرب في أعماقها؟

قلت: أنا عاجز قاصر ضئيل محدود. . . فليس لي يدان باقتحام عالم القدرة والاستطالة والجلالة واللانهائية!

قال: لقد أتيت بشيء مما في اللجة وأنت لما تزل على الساحل. . .

قلت: كذلك الذي يأتي به الطير البحري المتربص على الساحل: سمكة ميتة طافية قذف بها جوف البحر. . . أو صغيرة خفيفة مبذولة لأنها ليست من الرجاحة بحيث تختفي في عالم العمق والاحتجاب. . .

قال: لقد أفرغت نفسك من كل شيء وهيأتها لصداقة الطبيعة وأفهمتها أن تتصل بها اتصال بُنُوَّة بأمومة؛ فلا تفزع من هولها وقسوتها ولا تجفُل من غموضها وإبهامها، ولا تشمئز من وجوه القبح فيها، ولا تجمُد أمام وجوه الجمال بها، ولا تغفل عن الدقيق، ولا تقصر عن إدراك الجليل؛ وحقيق على من انتهى إلى هذا أن يبتدئ بشيء آخر. . .

قلت: أجل! كما يبدأ ثور الطاحون من حيث ينتهي. .!

قال: لولا الغطاء الذي على عيني الثور لجمح وأبى الدوران على محيطه الضيق.

قلت: لو استطاع الثور أن يزيح ذاك الغطاء عن عينيه لحُلَّت العقدة. . . فما دامت هناك يد غير مدفوعة تضع ذاك الغطاء فهو عاجز مملوك يرى السلامة في التسليم والدوران. . . وإلا فظهره مبسوط مكشوف والسوط له حاضر. .

لقد قلت لنفسي يوماً: سأبعثك للارتياد فيما وراء الزمن والفلك فاصنعي الريش وأعدي الجناحين. . . فإذا وقفت هناك فلا يَخْسأنَّ بصرك دون أن ترىْ طرفي الركب المسوق. . سيكون ذلك عسيراً ولكن تجردي وامتدي فإن فيك قوة على ذلك. .

وقلت لها: إن المكان سينتهي. . . فترين الفراغ وعماياته ومهاويه التي ليس لها قرار. . فطيري فيه مغمضة العين، واضربي فيه بمجموع الإدراك لا بأفراده فإنها تغرق في لججه وظلماته. .

وقلت لها: أعدي السمع للموسيقى التي تميتُ طرَباً، والعينَ للأضواء التي تحرق لهباً. . واللمس والذوق لما لا يلمس ولا يذاق.

وقلت لها: هناك كلام دائم قديم فاملئي معانيك منه واحذري أن تحدثي به ناس الأرض. . وسترين كل ما كان في الأرض هناك في منطقة الصمت الذي يصعق، والسكون الذي يهول. . سترين ما يقال إنه تبدد من الأضواء والأصوات وأمواج الخلائق ووَمضَات المعاني. .

وقلت لها: ستمرين بالقوى المطيعة أبداً، العاملة بلا ضعف يلحق ولا فتور ولا سأم، القائمة على مراقبة الذرات في حركاتها وتنقلها، والحبات في تولدها وانفلاقها، والرياح في انسيابها واندفاعها، والأمواج في رحلاتها ومدها وجزرها، والأضواء في انبثاقها وفيضانها، والظلمات في انطباقها وانفراقها، والأجرام في نثارها ونظامها. . . فقفي هناك طويلاً وتعجبي من صبر هذه القوى المجندة ويقظتها وطاعتها، واملئي سمعك بنشيدها وهي هاوية صاعدة راكعة ساجدة تحت المشيئة الواحدة القاهرة الضاربة على العوالم بنطاق من العلم والقهر، فلا رد ولا اعتراض ولا هرب من أقطارها. . .

وقلت لها: ربما تستطيعين الوصول في خطفة من خطفاتك إلى المنطقة الثابتة التي لا تتغير. . . فإن كان ذلك فاحذري أن تتوغلي في متاهاتها! فربما لا ترجعين إلى ثوبك الأرضي ثابتة فيترك في الأرض معذباً مَجْفوًّا لا يفهمه الناس ولا يرحمون. . . فاحذري!

وقلت لها: التراب عنصر كثيف ثقيل يزيد (ثقله النوعي) كلما بعد عن نطاق الأرض، ولو كان نضرة خد أو حرير ورد، أو عبير زهر، أو نغم وتر! فخففي رحلك منه حتى تسرعي. . .

وقلت لها: لا تنسي أن تلقي بنظرة منك على الذَّرَّة التي أنت منها. . . وحاولي أن تتبيني مكان هذا الذي يقول فيها: أنا إله! سترينه قزماً يدب ممسوخ القوام. . . وقد كان يستطيع أن يتطاول ببعض ما فيه لو عقل وأراد ورأى عصا القهر التي تدفع عجلة الفلك. . .

قلت لها كل ذلك فقالت: يا هذا الذي يصنع الألفاظ ويحاول خديعتي بها.! يا من

يُشَمِّر للُّجِّ عن ساقه ... ويغمره الموج في الساحل!

عشْ كهذا الطير الساحلي مكتفياً بالنظر إلى اللجة الرجراجة الهائلة، قانعاً بما تقذفه إليه من النفايات، عالماً بأنه مخلوق مُعَدٌّ للساحل وحده، فهو دائماً ينكتُ بمنقاره في الرمل والقواقع وغثاء البحر. . .

وهو يعلم أن في جوف اللجة سمكاً كثيراً صغيراً وكبيراً يشبع جوعه الذي يحسه في دوام. . . ولكنه يعلم كذلك أنه لو تقدم خطوة نحو اللجة لابتلعته حقيقة من حقائقها وغاب فيها قبل أن يبتلع إحداها وتغيب فيه. . . عش هكذا دائراً على نفسك في محيطك الضيق ما دام على عينيك الغطاء. . .

وابحث في لجة نفسك عن الأشياء التي تنشدها فلعلك تجد منها صوراً صغرى تدركها بالوحي الصغير إدراك النبوة للكبرى بالوحي الكبير. . .

ومع هذا لا يزال الضباب المبهم يناديني ويسألني سؤاله. . . وأنا أنادي:

لمحة من النور الذي عندك ضحاه الدائم الذي لا يغيب يا هادي الركب وصاحب القافلة. . . النور الذي تهتدي به ظلمات الدنيا وأضواؤها إلى مسالكها ومساربها ومواقعها. . . النور الذي أعطيت به كل شيء خلقه ثم به هديته. . .

النور الذي اهتدت به كل ذرة في بناء العالم وكل خلية في جسمه وكل قوة من قواه إلى مكانها وعملها. . . ثم إيماءة بطرف عصاك إلى المخبوء وراء الزمان والمكان والأجرام والشواخص والكثافات. . . ثم قدرة على الانفصال عن الركب لأشهده كله وهو يسير. .!

(الإسكندرية)

عبد المنعم خلاف