مجلة الرسالة/العدد 220/ابن العديم وتآليفه
→ من الأدب الرمزي | مجلة الرسالة - العدد 220 ابن العديم وتآليفه [[مؤلف:|]] |
تطور علم الكلام في رسالة إنقاذ البشر من الجبر ← |
بتاريخ: 20 - 09 - 1937 |
للأستاذ محمد كرد علي
كان كمال الدين عمر العقيلي الحلبي رئيس الشام (666هـ) من بيت علم. تولى خمسة من أهله منصب قاضي القضاة بحلب، وأكثرهم على جانب من الأدب والفضل، وكلهم مذ كان الإسلام يحفظ القرآن. وكان كمال الدين هذا محدثاً حافظاً مؤرخاً صادقاً فقيهاً مفتياً منشئاً بليغاً كاتباً محموداً. درس وأفتى وصنف، وترسل عن الملوك، وكان رأساً في الخط المنسوب لا سيما النسخ والحواشي (يقرأ الخط العقد كأنه يقرأ من حفظه. وأما خطه في التجويد والتحرير والضبط والتقييد فسواد مقالة لأبي عبد الله ابن مقالة، وبدر ذو كمال، عند علي بن هلال) (وهو أكتب من كل من تقدمه بعد ابن البواب) ترجم له ياقوت في معجم الأدباء وعرض لتراجم أهله، وكان ياقوت اجتمع بكمال الدين، وأخذ عنه وبالغ في مدحه، وقال إن من أجداده بني أبي جرادة، وكان أبناء العديم يُعرفون بهذا اللقب وقد كتب بخطه ثلاث خزائن من الكتب: واحدة لنفسه وخزانتين لابنيه، لكل منهما خزانة قال ياقوت وأنشدني لنفسه وبإملائه بحلب في ذي الحجة سنة 619 (وكان كمال الدين شاباً):
وساحرة الأجفان معسولة اللَّمى ... مراشفها تهدي الشفاء من الظما
حنت لي قوسي حاجبيها وفوَّقت ... إلى كبدي من مقلة العين أسهما
فواعجبا من ريقها وهو طاهر ... حلال وقد أضحى علىَّ محرما
فإن كان خمراً أين للخمر لونه ... ولذته مع أنني لم أذقهما
لها منزل في ربع قلبي محله ... مصون به مذ أوطنته لها حمى
جرى حبها مجرى حياتي فخالطت ... محبتها روحي ولحميَ والدما
تقول إلى كم ترتضي العيش أنكدا ... وتقنع أن تضحى صحيحاً مسلما
فسر في بلاد الله واطَّلب الغنى ... تفز منجداً إن شئت أو شئت مُتْهما
فقلت لها إن الذي خلق الورى ... تكفل لي بالرزق مَنًّا وأَنعما
وما ضرني أن كنت رب فضائل ... وعلم عزيز النفس حراً معظما
إذا عدمت كفاي مالاً وثروة ... وقد صنت نفسي أن أذل وأحرما
ولم أبتذل في خدمة العلم مهجتي ... لأَخدم من لاقيت لكن لأخ ونظن البيت الأخير مقحماً إقحاماً في هذه القصيدة، لأنه بيت من قصيدة مشهورة لعلي بن عبد العزيز القاضي من أهل القرن الخامس التي يقول في مطلعها:
يقولون لي فيك انقباض وإنما ... رأوا رجلاً عن موقف الذل أحجما
قال ياقوت بعد إيراد هذه القصيدة: ولا يظن الناظر في هذه الأبيات أن قائلها فقير وقير، فأن الأمر بعكس ذلك لأنه، والله يحوطه، رب ضياع واسعة، وأملاك جمة، ونعمة كثيرة، وعبيد وإماء وخيل، ودواب، وملابس فاخرة وثياب. ومن ذلك أنه بعد موت أبيه اشترى داراً كانت لأجداده قديماً بثلاثين ألف درهم؛ ولكن نفسه واسعة، وهمته عالية، والرغبات في الدنيا بالنسبة إلى الراغبين، والشهوة لها على قدر الطالبين. قال ياقوت: وكان إذا سافر يركب في محفة تشيله بين بغلين، ويجلس فيها ويكتب، ورحل إلى العراق ومصر والحجاز.
ويقول ياقوت أيضاً إن كمال الدين صنف مع هذه السن كتباً منها كتاب (الدراري في ذكر الدراري)، جمعه للملك الظاهر غازي، وقدمه إليه يوم ولد ولده العزيز الذي هو اليوم سلطان حلب. وكتاب (ضوء الصباح في الحث على السماح)، وصنفه للملك الأشرف، وكان قد سير من حَرَّان بطلبه، فإنه لما وقف على خطه اشتهى أن يراه فقدم عليه فأحسن إليه وأكرمه، وخلع عليه وشرفه. وكتاب (الأخبار المستفادة في ذكر بني أبي جرادة) وأنا سألته جمعه فجمعه لي وكتبه في نحو أسبوع وهو عشرة كراريس. وكتاب في الخط وعلومه، ووصف آدابه وأقلامه وطروسه، وما جاء فيه من الحديث والحكم، وهو إلى وقتي هذا لم يتم. كتاب (تاريخ حلب) في أخبار ملوكها وابتداء عمارتها ومن كان بها من العلماء، ومن دخلها من أهل الحديث والرواية والدراية والملوك والأمراء والكتاب، وشاع ذكره في البلاد، وعرف خطه بين الحاضر والباد، فتهاداه الملوك. ومن كتبه تبريد حرارة الأكباد، في الصبر على فقد الأولاد. وكتاب (دفع التجري عن أبي العلاء المعري) وكتاب (التذكرة) وهو في أجزاء في دار الكتب المصرية أولها الجزء الخامس وآخرها الجزء السادس عشر، وفي هذه الأجزاء قصائد جميلة لأناس من معاصريه ورسائل منثورة وغيرها (راجع ما كتبناه في هذه التذكرة في المجلد السابع من مجلة المقتبس ص811). ومما نقله أبيات للسابق أبي اليمن محمد بن الخضر المعري وهي: حلب معهد الصبا والتصابي ... فسقاها الوسمىُّ ثم الوليّ
موطني بعد موطني فكأني ... لغرامي بحبها البحتري
إلى أن قال:
فلديها كل الفنون وفيها ... ما اشتهاه الشرعيُّ والفلسفيُّ
غير أني أرى الأطايب شزراً ... وحليف الإفلاس عنها قصيّ
وكان في حلب في ذاك الزمن جلة من العلماء كما قال الشاعر، بل أن من قراها ما كان أشبه بدار علم مثل معرة النعمان وكفر طاب، وكفر طاب اليوم مزرعة خربة.
ومما اقتبسه في هذه التذكرة أبيات لسنان صاحب الدعوة
لو كنت تعلم ما علم الورى ... طراً لكنت صديق كل العالم
لكن جهلت فصرت تحسب أن من ... يهوى خلاف هواك ليس بعالم
فاستحْي إن الحق أصبح ظاهراً ... عما تقول وأنت شبه النائم
وسنان هذا هو أبو الحسن سنان بن سليمان بن محمد الملقب راشد الدين صاحب قلاع الدعوة دعوة الإسماعيلية، ومقدم الفرقة الباطنية بالشام، وإليه تنسب الطائفة السنانية. وهو الذي كتب إلى صلاح الدين يوسف بن أيوب جواب كتاب هدده فيه، على ما نقل ذلك ابن خلكان في وفيات الأعيان، وافتتحه بقوله:
يا ذا الذي بقراع السيف هددنا ... لأقام مصرع جنبي حين تصرعه
قام الحمام إلى البازي يهدده ... واستيقظت لأسود البر أضبعه
أضحى يسد فم الأفعى بإصبعه ... يكفيه ما قد تلاقي منه إصبعه
ثم أردف هذه الأبيات بكتاب كله تهديد لصلاح الدين. وقد كتب مرة أخرى:
بنا نلت هذا الملك حتى تأثلت ... بيوتك فيها واشمخر عمودها
فأصبحت ترمينا بنبل بنا استوى ... مغارسها منا وفينا حديدها
وفي خزانة المجمع العلمي العربي بدمشق نسخة من كتاب دفع الظلم والتجري، وسماه هناك (كتاب الإنصاف والتحري في دفع الظلم والتجري عن أبي العلاء المعري) وهو مخروم من آخره نقص منه بيت القصيد وهو تبرئة المعري من التعطيل، وكان أعداؤه ينحلونه أبياتاً ليصححوا دعواهم عليه انحلال العقيدة. وفي هذا الكتاب فصول جميلة في نشأة المعري وعماه وشيوخه ورحلته إلى بغداد وقوة حافظته. وقد استفدنا منه أنه كان عند أبي العلاء أربعة كتاب في جرايته وجارية يكتبون عنه ما يكتب إلى الناس، وما يمليه من النظم والنثر والتصانيف، وكتب له جماعة من المعرة أخصهم أنسباؤه ومنهم ابن أخيه، وكان ملازماً لخدمته ويكتب له تصانيفه، ويكتب عنه الإجازة والسماع عمن يسمع منه ويستجيزه، وكتب تصانيفه بخطه حتى يقع بخطه من المصنف الواحد نسختان وأكثر. واستفدنا منه أن المعري زار دار العلم ببغداد لا دار العلم في طرابلس، ولم يكن في طرابلس دار علم، وإنما جدد دار العلم بها القاضي جلال الملك بن عمار في سنة اثنتين وسبعين وأربعمائة. وأبو العلاء مات قبل جلال الملك في سنة تسع وأربعين وأربعمائة.
وأهم مصنفات ابن العديم على ما يظهر تاريخ زبدة الحلب في تاريخ حلب، ومنه نسخة في دار الكتب المصرية، أخذت بالتصوير الشمسي من إحدى خزائن الأستانة وهي في ثلاثة مجلدات. بدأ كتابه بجغرافية حلب والبحيرات التي في أعمالها، وما فيها من الجبال وما جاء في صحة تربة حلب وهوائها واعتدال خراجها وصفة مائها، وما ورد من الكتابة القديمة على الأحجار بحلب وعملها. وعقد فصلاً في بيان أن معاوية ومن كان معه بصفين لم يخرجوا عن الإيمان بقتال عليّ عليه السلام، وفصلاً في ذكر ما جاء في الكف عن الخوض في حديث صفين. وذكر الرواندان وعين زربة وبهسني والمرزبان والشغروبكاس وعربسوس، وفصلا في ذكر فضائل الشام، وحلب وفويق نهر حلب وما ورد فيه وذكر الغراب ومخرجه ومعرفة من حفره، وذكر جتيمان نهر المصيصة وسيحان نهر أذنة والعاصي نهر إنطاكية وحماة والبردان نهر طرسوس، وذكر البحر الشامي ويعرف ببحر الروم. وأشار إلى ما يتعلق بحلب وأعمالها من الملاحم وأمارت الساعة. وعقد فصلاً فيمن نزل من قبائل العرب بأعمال حلب ومن كان قبلهم في سالف الحقب، وهو من أهم فصول كتابه. وذكر من نزل في أعمال حلب من حمير بن سبأ بن يشجب بن يعرب بن قحطان، وعقد باباً في فتح حلب وقنسرين وما تقررت عليه أحكامها، ونقل شرط عمر بن الخطاب (رضي الله عنه) على أهل قنسرين وهو على الغنيّ ثمانية وأربعون، وعلى الوسط أربعة وعشرون، وعلى المدقع اثنا عشر يؤديها بصغار - والغالب أنها دراهم والدرهم على الأكثر عشر الدينار، ويقدر الدينار بنحو نصف جنيه مصري ذهباً - وعلى مشاطرة النازل بينهم وبين المسلمين وألا يحدثوا كنيسة إلا ما كان في أيديهم ولا يضربوا بالناقوس إلا في جوف بيعة، ولا يرفعوا أصواتهم بالقراءة، ولا يرفعوا صليباً إلا في كنيسة، وأن يؤخذ منهم القبلى من الكنائس للمساجد، وأن يُقْروا ضيوف المسلمين ثلاثاً، وعلى ألا يكون بين ظهراني المسلمين الخنازير، وعلى أن يناصحوا المسلمين ولا يغشوهم ولا يمالؤا عليهم عدواً، وأن يحملوا راجل المسلمين من رستاق إلى رستاق، وألا يلبسوا السلاح ولا يحملوه إلى عدو، ولا يدلوا على عورات المسلمين، فمن وفى وفى المسلمون له، ومنعوه بما يمنعون به نساءهم وأبناءهم، ومن انتهك شيئاً من ذلك حل دمه وماله وسباءُ أهله وبرئت الذمة منه؛ وكتب بذلك كتاباً. وهذا الكتاب فيما نذكر لم يرد بهذا النص في كتب الفتوح والبلدان المشهورة.
ومما روى ابن العديم قال: وأخبرنا قاضي العسكر أبو الوليد محمد بن يوسف بن الخفر قال: كانت حلب من أكثر المدائن شجراً فأفنى شجرها وقوع الخلف بين سيف الدولة بن حمدان وبين الإخشيد أبي بكر محمد بن طفج، فإن الإخشيد كان ينزل على حلب ويحاصرها ويقطع شجرها، فإذا أخذها وصعد إلى مصر جاء سيف الدولة وفعل بها مثل ذلك، وتكرر ذلك منهما حتى فنى ما بها من شجر. واتفق بعد ذلك نزول الروم على حلب وأخذ المدينة في سنة إحدى وخمسين وثلاثمائة ففنى شجر الشربين لذلك، وكانت الوقعة بين سيف الدولة وبين الدمستق في هذه السنة في سفح جبل بانقوسا وسميت وقعة بانقوسا. وقال في سيف الدولة إنه كان يتشيع فقيل على أهل حلب التشيع لذلك.
ومما ذكره جبل برصايا وقال إنه جبل عال شامخ شمالي عزاز يشرف على بلد عزاز وكورة الأريتق (الأرتيق) وتحتهما قرية يقال لها كفر شيغال وقفها نور الدين محمد بن زنكي على مصالح المسلمين. وهذا الجبل بين عزاز وقورس. وذكر ما في حلب من اعزازات وما فيها وفي أعمالها من العجائب والخواص والطلسمات والغرائب. وقال إن حلب من الأرض المقدسة، وإن أهل حلب في رباط وجهاد، وإنها كانت باب الغزو والجهاد، ومجمع الجيوش والأجناد، وذكر صفة مدينة حلب وعماراتها وأبوابها وما كانت عليه أولاً وما تغير منها وما بقى. ثم ذكر فصولاً أخرى في فضلها وفضل قنسرين وفصولا في إنطاكية، ومنبج، ورصافة هشام وخناصرة، وبالس، وحياد بني القعقاع، ومعرة النعمان - نسبة للنعمان بن بشير - ومعرة مصرين، وحاضر قنسرين وسرين وكفر طاب، وأفامية، وشيزر، وحماة، وبغراس (بيلان اليوم) والمصيصة، وعين زربة، وأذنة، والكنيسة السوداء، وطرسوس، وذكر كيفية النفير بطرسوس وكيف كان يجري أمره، وعقد فصلاً لفضل طرسوس والحصون المجاورة لها وللمصيصة وإنطاكية، وذكر حصن ثابت بن نصر وهو الذي كان مشهوراً قبل الثغور وبنائها، وذكر حصن عُجَيْف، وحصن شاكر، وحصن الجوزات، وعرض لتل جبير، وأولاس ويقال له حصن الزهاد، وذكر الهارونية، وحصن الأسكندرونة، والتينات، والمثقب، وسيسيه ويقال لها سيس وهي مدينة قريبة من عين زربة إلى غيره من الحصون، وذكر مرعش والحدث المعروفة بالحدث الحمراء، وزبطرة، وحصن منصور، ومكظية، وسُمَيْساط، وربمان، ودلوك، وقورض وكيسوم. فاستدللنا بهذا أن عمل حلب كان يتناول قسماً مهماً من الجزيرة ومعظم بلاد قاليقلا، وبعض بلاد آسيا الصغرى (ويقع الكتاب في 518 صفحة وعدد أوراقه 196)
محمد كرد علي