الرئيسيةبحث

مجلة الرسالة/العدد 220/رسالة النقد

مجلة الرسالة/العدد 220/رسالة النقد

مجلة الرسالة - العدد 220
رسالة النقد
[[مؤلف:|]]
بتاريخ: 20 - 09 - 1937


كتاب إحياء النحو

تأليف الأستاذ إبراهيم مصطفى

للأديب السيد عبد الهادي

تتمة

واصل الأستاذ بدوي نقده، في مقاله الثاني، لمعاني الإعراب وأخذ يناقش بعض الأمثلة الواردة في الكتاب دون اعتماد على نقل قديم أو سند من رأي. فبينا ترى الكتاب قد امتلأ بآراء أئمة النحو القدماء وبالنصوص القديمة الصحيحة مؤيدة بأسماء الكتب وأرقام الصفحات، وذلك شأن الباحث الحديث الذي لا يقطع صلته بالماضي ولكنه لا يقف عند حده، ترى نقد الأستاذ قد خلا منه تماماً؛ وخلو النقد من أمثال هذه النصوص والآراء يسقط قيمته ويحيله إلى مجادلات لفظية لا تغني عن الحق شيئاً.

ولعلي لا أجد بياناً أوفى ولا حجة أقطع فيما بيني وبين الأستاذ بدوي من خلاف حول معاني الإعراب إلا أن أقدم للقارئ الكريم صورة صحيحة دقيقة عن رأي المؤلف فيها، وإذ ذاك يستطيع القارئ بنفسه أن يحكم للكتاب أو عليه وأن يقدر فضل المؤلف ودقة نظره وأن يعرف إلى أي حد كان هذا النظر صحيحاً جديراً بأن يكون إحياء للنحو بكل ما في كلمة الإحياء من معنى.

فاللغة العربية لغة معربة أي تتغير حركات الحرف الأخير من كلماتها تبعاً لتغير التراكيب، وهذه أهم ظاهرة تلفت النظر في اللغة العربية، وقد كان العرب شديدي العناية بالإعراب، وكان حسهم به دقيقاً يقظاً؛ وقد قالوا: اللحن هجنة على الشريف. وقال عبد الملك بن مروان: شيبني ارتقاء المنابر وتوقع اللحن. هذا شأن حركات الإعراب ومنزلتها في اللغة العربية.

أما الحركات الأخرى التي ليست حركات إعراب وهي التي تكون في أوائل الكلمات أو في أوساطها فليست أقل شأناً في العربية من حركات الإعراب فإنها أداة للتفريق بين المعاني المختلفة، فهي تفرق بين اسم الفاعل والمفعول في مثل مكرَم ومكرِم، وبين فعل المعلوم وفعل المجهول في مثل كَتَب وكُتِب، وبين الفعل والمصدر في مثل عِلم وعلْم، وبين الوصف والمصدر في مثل فرِح وفرَح وحَسن وحْسن، وبين المفرد والجمع في مثل أسَد وأسْد، وبين الفعل والفعل في مثل قدِم وقدُم، وبين معان أخرى كثيرة يتبينها الناظر في مفردات اللغة العربية بسهولة وبكثرة عظيمتين.

من هذا نرى عناية اللغة العربية بالحركات على اختلاف أنواعها وحرصها على الدقة فيها حرصاً شديداً.

وقد حاول علماء النحو أن يعرفوا أن منشأ حركات الإعراب، وفكروا في ذلك طويلا وأنعموا النظر ودققوا الإحصاء، فهداهم كل ذلك إلى أن حركات الإعراب ليست إلا نتيجة لعامل مذكور في الجملة، وإن لم يكن مذكوراً فلا بد من تقديره حتى يسلم العقل بوجود حركة الإعراب لأنها عرض حادث لا بد له من محدث، ومحال أن يوجد الحادث من غير محدث؛ وقد أطالوا الكلام في العامل لأنه في نظرهم سبب حركات الإعراب، فجعلوا الأصل في العمل للأفعال، والأسماء تعمل حملا عليها، وبعض الحروف يعمل حملا على الفعل؛ وجعلوا بعض العوامل قوياً وبعضها ضعيفاً. وعلى الجملة قد وفوا العامل حقه من البحث والإحصاء، وألفوا كتباً تجمع قواعد النحو تحت عنوان العوامل. وقد عشنا على هذه النظرية طوال هذه السنين حتى أحالها الزمن إلى عقيدة ثابتة يؤمن بها الصغير والكبير، فأعطينا للكلمات المختلفة قوة ترفع وتنصب وتجزم، ولم نعطي لأنفسنا هذه القوة، ونحن الذين ننشئ الكلمات ونغيرها ونبدلها ونحن الذين نرفع وننصب ونجزم.

وقد جاء المستشرقون وحاولوا أن يجدوا أصلا لحركات الإعراب فافترضوا أنها بقايا لزوائد كانت تلحق بالأسماء، وقد انقرضت الزوائد وبقيت الحركات دالة عليها، وهذا مجرد فرض لم تقم على صحته أدلة كافية باعتراف المستشرقين أنفسهم

ثم جاء الأستاذ الجليل مؤلف (إحياء النحو) ونظر فيما قرره النحاة في منشأ حركات الإعراب وما انتهى إليه المستشرقون، أطال النظر فيما سبقه من الآراء والنظريات، وأطال الاتصال بالعربية وأساليبها الصحيحة فلم يرقه ما قرره أولئك ولا هؤلاء في منشأ حركات الإعراب، واهتدى بثاقب فكره إلى أن حركات الإعراب إنما هي إشارة إلى معنى خاص يقصده العربي حين يلتزم الفتحة أو الكسرة أو الضمة، ولم يستقم عنده أن يكون الإعراب حكما لفظياً يتبع لفظ العامل دون أن تكون له إشارة إلى معنى خاص، أو أثر في تصوير المفهوم؛ فما كان للعرب أن يلتزموا هذه الحركات ويحرصوا عليها الحرص الشديد وهي لا تعمل في تصوير المعني شيئاً؛ ونحن نعلم أن العربية لغة الإيجاز، فالعرب يحذفون الكلمة إذا فهمت والجملة كذلك، ويهملون ما لا حاجة إليه رغبة في الإيجاز كعلامة التأنيث في الصفات الخاصة بالمؤنث، كما في أيم وظئر ومرضع، فهل يعقل في لغة هذا شأنها من الإيجاز أن تلتزم حركات إعراب مختلفة دون أن تكون هذه الحركات دالة على معان مختلفة

نرى في اللغة العربية ظاهرة التعدد في صيغ الكلمات والأدوات التي تؤدي وظيفة واحدة، ولكن لكل واحدة معنى خاص تشير إليه كصيغ الجموع المختلفة، كل صيغة لها دلالتها الخاصة، والصيغ المختلفة للصفة المشبهة لكل صيغة دلالتها الخاصة، وأدوات النفي لكل أداة معنى خاص في النفي، وأدوات الشرط المختلفة كذلك لا يعدل عن واحدة إلى الأخرى إلا تبعاً للمعنى؛ وهكذا في كل الظواهر التي نشاهدها في اللغة العربية، وما علامات الإعراب إلا ظاهرة من هذه الظواهر الكثيرة تسير على منهاجها وتأخذ حكمها، وتكون دالة على معان مختلفة، وتتغير تبعاً لتغير هذه المعاني؛ فالذي يعدل بالعربي عن حركة من حركات الإعراب إلى الأخرى إنما هو المعنى وليس عاملا من العوامل. ذلك ما أرتاه الأستاذ الجليل مؤلف (إحياء النحو) في حركات الإعراب. اشهد ويشهد معي كل منصف أنه فتح جديد في فهم العربية

فما عسى أن يقول الأستاذ بدوي في ذلك وما عساه أن يقول في هذه العبارة (نريد أن نفهم حركات الإعراب كما نفهم الظواهر الأخرى في اللغة العربية كصيغ الجموع المتباينة وصيغ الصفات المختلفة وأدوات النفي المتنوعة من حيث دلالة كل واحدة منها على معنى خاص؟)

وأخير لم يرق لدى الأستاذ الناقد أن تضم أبواب الفاعل والمبتدأ ونائب الفاعل تحت باب واحد هو المسند إليه وحجته أن المبتدأ لا يصح أن يكون نكرة والفاعل يصح أن يكون كذلك وللمبتدأ أحكام مع الخبر من حيث تأخره وتقدمه عليه ووقوع الخبر جملة حيناً ومفرداً حيناً آخر وليس للفاعل حظ من ذلك. والجواب عن ذلك سهل يسير؛ فلو أن الأستاذ فهم كيف وحد المؤلف أحكام المبتدأ والفاعل وأزال وجوه التفرقة بينهما لانتفت عنده كل شبهة ولآمن بأن البابين باب واحد شطرته الصناعة الفاسدة شطرين، وذلك أننا حينما ننظر إلى المبتدأ والفاعل كشيء واحد هو المسند إليه نستطيع أن نوحد أحكامهما المختلطة؛ واهم ما يفرقون به بين الفاعل والمبتدأ أن الفعل يوحد مع الفاعل الجمع أو المثنى، وأما المبتدأ فلابد أن يطابقه الخبر، ولكن المؤلف جمعهما في هذا الحكم بقاعدة سهلة يسيرة هي أن المسند إليه إذا تقدم وجب أن يطابقه المسند في العدد وإذا تأخر وجب أن يكون المسند مفرداً وهي قاعدة مضطردة لا يقام لسبيلها والحال كذلك في التعريف والتنكير، وذلك أنه إذا تقدم المسند إليه وجب أن يكون معرفة، وإذا تأخر جاز أن يكون نكرة، والحال كذلك في التقديم والتأخير، فإذا كان المسند إليه من ألفاظ الصدارة وجب تقديمه، وإن أوقع تقديمه في لبس وجب تأخيره والعكس بالعكس، وهكذا نجمع أحكام الأبواب الثلاثة تحت باب واحد فنسهل بذلك على الدارس المبتدئ ونحببه في دراسة النحو ولا نفوت من أحكام اللغة حكماً واحداً صغيراً أو كبيراً.

وإني أسأل الأستاذ بدوي سؤالاً واحداً بعد ذلك كله: ألم يجد في كتاب إحياء النحو شيئاُ واحداً يستحق التقدير والثناء حتى كان كل نقده من أول حرف إلى آخر حرف ذماً وانتقاصاً؟ لا أظن أحداً من الناس يوافقه على أن كتاباً خرج في مائتي صفحة ليس فيه موضع لثناء أو تقدير، ولو أن كتاباً خرج كذلك بالفعل لوجب على من يريد أن يحاربه أن يتلمس له موضع حسن حتى يوهم الناس أن نقده بريء خال من الهوى والتعصب.

السيد عبد الهادي

بالدراسة العليا بكلية الآداب