مجلة الرسالة/العدد 219/هكذا قال زرادشت
→ للأدب والتاريخ | مجلة الرسالة - العدد 219 هكذا قال زرادشت [[مؤلف:|]] |
نقل الأديب ← |
بتاريخ: 13 - 09 - 1937 |
للفيلسوف الألماني فردريك نيتشه
ترجمة الأستاذ فليكس فارس
نشيد القبور
هنالك جزيرة القبور، جزيرة الصمت والسكون، وهنالك أيضاً أجداث شبابي، فلأحملن إليها إكليلاً من الأزاهر الخالدات
بهذا ناجيت نفسي، فقررت أن أقتحم الغمر
يا لصور الشباب وأشباح أحلامه، يا للحظات الغرام! يا لأويقات الحياة الإلهية! لقد تراميت سريعاً إلى الزوال، فأصبحت أستعرض ذكرياتك كما أستعرض خيال الأحبة الراقدين في القبور.
إن نفحات الطيب تهب منك يا أعز المضيعات فتروح عن قلبي وتستقطر مدامعي، إنها لنفحات تستنبض قلب العائم وحيداً على العباب.
أنا المنفرد أراني أغنى الناس وأجدرهم بالغبطة لأنك كنت لي يوماً أيتها الذكريات ولما أزل أنا لك، فقولي لي: على مَ تساقطت ثمراتك الذهبية عن أغصانها؟
إنني لم أزل منبتا لغرامك الذي أورثتنيه يا أيام الشباب وبذكرك تنور فضائلي بعد وحشتها بعديد ألوانها الزاهية
وآ سفاه، ما كان أولاك بألاَّ تفارقينني، أيتها الأيام الساحرات فقد اقتربت إليَّ وإلى شهواتي لا كأطيار يسودها الذعر بل كأطيار تستأنس بالواثق بنفسه
أجل لقد كنتِ معدة مثلي للبقاء على العهد إلى الأبد، يا أويقات الشباب، وليس لي أن أدعوك خائنة وقد وصفتك بالأويقات الإلهية. لقد مررت سِراعاً أيتها الأويقات الهاربات وما هربت مني ولا أنا هربتُ منك، فما أنا مسؤول ولا أنت أيضاً عن خيانتك وعن خيانتي
لقد أماتوك طلباً لقتلي، يا أطيار آمالي وصوبت الشرور سهامها نحوك لتصل مخضبة بالدماء إلى قلبي فأصابت هذه السهام مقتلاً مني لأنك كنت أعز شيء لدي بل كنت كل ما أملك، لذلك قضي عليك بالذبول في صباك والزوال قبل أوان لقد صُوبت السهامُ إليك وأنت أنعم من الحرير وأضعف من ابتسامة تمحوها نظرة قاسية
فليسمع أعدائي ما أقول:
- إن القتل أخف جرماً من جنايتكم علي، فقد سلبتموني ما لا قبل لي بالاستعاضة عنه بشيء، ذلك ما أقوله لكم، أيها الأعداء. أفما قتلتم أحلام شبابي وحلتم دون إتياني بمعجزاني؟ لقد سلبتم مني تفكيري، وهأنذا أحمل هذا الإكليل لتذكاره حاملاً معه لعنتي لكم، أيها الأعداء، لأنكم قصرتم مدى أبديتي فانقطعت كأنها صوت ينقطع في الزمهرير تحت جنح الظلام فما تسنى لي أن أنظر إلى هذه الأبدية إلا لمحا لأنها توارت عني بطرفة عين
وأتت ساعة ناجتني فيها طهارتي قائلة:
- يجب أن تكون جميع الكائنات إلهية، وأنتِ أرسلتِ إلي الأشباح المدنسة، يا أيام الشباب؛ فانقضت تلك السانحة وعادت حكمة الشباب تقول لي: (يجب أن تكون جميع الأيام مقدسة في نظري) وما هذه الكلمة إلا كلمة الحكمة المرحة. وعندئذ أتيتم أيها الأعداء فحولتم ليالي راحتي إلى أرق وهموم، فأين توارت هذه الحكمة المرحة؟
لقد كنت فيما مضى أتوقع السعادة فأرسلتم على طريقي بومة مروعة مشئومة فتبددت أماني العِذاب
نذرت يوماً أن أرتجع عن كل كراهة، فحولتم كل ما حولي إلى قروح، فأين مضت مخلصات نذوري الطاهرات؟
لقد مررت على سبيل السعادة كفيف البصر فرميتم على طريق الأعمى كوماً من الأقذار فأصبحت كارهاً للطريق القديم الذي تلمسته. وعندما توصلت إلى القيام بأصعب أعمالي، عندما تمكنت من الاحتفال بالانتصارات التي تغلبت فيها على ذاتي أهبتم بمن يحبونني إلى الهتاف قائلين بأنني أوقعت بهم اشد الآلام
والحق أنكم لم تنقطعوا عن تشريد خير العاملات في قفيري وتحويل جناها إلى علقم مرير؛ ولكم أرسلتم إلى إحساني أشد المتسولين إلحاحاً ودفعتم أهل القحة ليطوفوا بإشفاقي وهكذا نلتم من فضليتي وهي ممنعة بإيمانها
وكنت كلما قدمت أقدس ما عندي محرقة للتضحية تسارعون في تقواكم إلى إحراق أدسم ذبائحكم لتتصاعد أبخرة شحمها مدنسة خير ما قدست وطمحت يوماً إلى الرقص متعالياً بفني إلى ما وراء السبع الطباق فأفسدتم على أعز المنشدين لدي، فرفع عقيرته بأفظع الأناشيد وقرع أسماعي بنغمات الأبواق الحزينة الباكية
لقد كنت قائلا أيها المنشد البريء، إذ غدوت آلة في يد الغدر فقضت نغماتك على خشوعي بينما كنت أتهيأ للقيام بأروع رقصي
وما أنا بالمعبر عن أسمى المعاني بالرموز إلا عندما أدور راقصا، لذلك عجزت أعضائي عن رسم أروع الرموز بحركاتها. فأرتج عليَّ وامتنع عليَّ أن أبوح بسر آمالي. لقد ماتت أحلام شبابي وفقدت معانيها المعزيات
إنني لأعجب لتحملي هذه الصدمات وأعجب لصبري على ما فتحت فيَّ من جراح، فكيف أمكن لروحي أن تبعث من مثل هذه القبور؟
أجل إن فيَّ شيئاً لا تنال منه السهام مقتلا، ولا قبل لأحد بدفنه لأنه يزحزح الصخور عنه فتتحطم، وما هذا الشيء إلا إرادتي؛ والأرادة تجتاز مراحل السنين صامتة لا يعتريها تحول وتغير. إن إرادتي قديمة لا تني تدفع قدمي إلى السير فهي القوة المتصلبة المتعالية عن الفناء
ليس فيَّ من عضو لا يصاب إلا قدمي السائرة إلى الأمام تدفعها هذه الإرادة الثابتة الصامدة المتجلدة التي تخترق المدافن دون أن تنطرح تحت لحودها
إن فيكِ وحدكِ يا إرادتي يصمد ما لا تبدده أيام الشباب، فأنت لا تزالين حية وفتية تملأك الآمال، تجلسين على ركام المدافن وقد طبع الزمان عليها قبلاته الصفراء. إنك لن تزالي أيتها الإرادة هدامة لجميع القبور، فسلام عليك يا إرادتي، لأنه لا بعث إلا حيث تكون القبور
هكذا تكلم زارا. . . . . .
فليكس فارس