مجلة الرسالة/العدد 219/للأدب والتاريخ
→ تشريع ولز للزواج وأثره الاجتماعي | مجلة الرسالة - العدد 219 للأدب والتاريخ [[مؤلف:|]] |
هكذا قال زرادشت ← |
بتاريخ: 13 - 09 - 1937 |
مصطفى صادق الرافعي
1880 - 1937
للأستاذ محمد سعيد العريان
- 8 -
الطور الثاني من حياة الرافعي
هل كان للرافعي خِيَرَة في المذهب الجديد الذي ذهب إليه عندما شرع يكتب (تاريخ آداب العرب)؟
وهل كان يعني ما يفعل حين انحرف عن الهدف الذي كان يسعى إليه في إمارة الشعر إلى المنحى الجديد في ديوان الأدب والإنشاء!
هل كان عن قصد ونية أن يتخلى الرافعي عن أماني الشباب وأوهام الصبا وأخيلة الفتيان وأحلام الشعراء، ليقف نفيه على العربية وتراث العربية يستبطن أسرارها ويغوص على فرائدها، وعلى الإسلام وأبطال الإسلام يكشف عن مآثرهم وينشر آثارهم؟. . .
الحق أن الرافعي لم يكن له خِيرة في شيء من ذلك ولا كان يعنيه ولا توجهت إليه نيته؛ ولكنه ألف تاريخ آداب العرب لأنه وجد في نفسه رغبة إلى أن يؤلف في تاريخ آداب العرب، وكتب في إعجاز القرآن لأن إعجاز القرآن باب في تاريخ الأدب؛ فلما أخرج كتابيه إلى الناس لم يلبث أن ارتد إليه الصدى مما يقول الناس؛ فإذا هو عندهم أديب ليس مثله في أدباء العربية، وإذا هو عندهم كاتب من الطراز الأول بين كتاب العربية، وإذا هو صاحب القلم الذي يكتب عن إعجاز القرآن فيُعجز، ويتحدث عن الإسلام حديث المؤمن إلى المؤمن، حديثَ قلب إلى قلب ليس بينهما حجاب فكل ما ينطق يُبين. . . ووجد الرافعي كأنما أكتشف نفسه. . .
وهنا بدأ الرافعي الكاتب الذي يعرفه اليوم قراء العربية، على حين أخذ الرافعي الشاعر يتصاغر ويختفي رويداً رويداً حتى نسيه الناس أو كادوا، لا يتحدثون عنه إلا كما يتحدثون عن شاعر استمعوا حيناً إلى أغاريده العِذاب ثم ترك دنياهم إلى العالم الثاني ليتحدث إليهم من صفحات التاريخ. . .
لقد عرف الرافعي من يومئذ أن عليه رسالة يؤديها إلى أدباء الجيل، وأن له غاية أخرى هو عليها أقدر وبها أجدر؛ فجعل الهدف الذي يسعى إليه أن يكون لهذا الدين حارسه وحاميه، يدفع عنه أسباب الزيغ والفتنة والضلال، وأن ينفخ في هذه اللغة روحاً من روحه يردُّها إلى مكانها ويردّ عنها، فلا يجترئ عليها مجترئ ولا ينال منها نائل ولا يتندر بها ساخر إلا انبرى له يبدد أوهامه ويكشف عن دخيلته.
ونظر فيما يكتب الكُتاب في الجرائد، وما يتحدث به الناس في المجالس، فرأى عربية ليست من العربية، هي عامية متفاصحة، أو عجمة مستعربة، تحاول أن تفرض نفسها لغة على أقلام المتأدبين وألسنتهم، فقر في نفسه أن هذه اللغة لن تعود إلى ماضيها المجيد حتى تعود (الجملة القرآنية) إلى مكانها مما يكتب الكتاب وينشئ الأدباء، وما يستطيع كاتب أن يشحذ قلمه لذاك إلا أن يتزود له زاده من الأدب القديم.
وعاد الرافعي يقرأ من جديد، ينظر فيما كتب الكتاب وأنشأ المنشئون في مختلف عصور العربية؛ يبحث عن التعبير الجميل والعبارة المنتقاة واللفظ الجزل والكلمة النادرة، ليضيفها إلى قاموسه المحيط ومعجمه الوافي، فتكون له عوناً على ما ينشئ من الأدب الجديد الذي يريد أن يحتذيه أدباء العربية.
هذا سبب مما عدل بالرافعي عن مذهبه في الشعر إلى مذهبه الجديد في الأدب والإنشاء. وثمة سبب آخر كان الرافعي يصرح به كثيراً لمن يعرفه: ذلك أنه كان يرى في الشعر العربي قيوداً لا تتيح له أن ينظم بالشعر كل ما يريد أن يعبر به عن نفسه الشاعرة. هكذا كان يقول هو، وأقول أنا: إنه كان يعجز أن يصب في قصيدة من الشعر ما كان يستطيع أن يكتبه في سهولة ويسر مقالاً من مقالاته الشعرية الرائعة التي يعرفها قراء العربية فيما قرءوا للرافعي. والحق أن الرافعي بطبعه شاعر في الصف الأول من الشعراء، لا أعني الشعر المنظوم، فذلك ميدان سبقه فيه كثير من شعراء العصر، بل أعني الشعر الذي هو التعبير الجميل عن خلجات النفس وخطرات القلب ووحي الوجدان ووثبات الروح. ولقد كان - رحمه الله - بما فيه من اعتداد بالنفس، يكتب المقال الفني المصنوع فيقيس لفظه بمعناه ويربط أوله بآخره ويجمع بين أطرافه كل ما ينبض به قلبه من معاني السرور والألم، والرجاء واليأس، والرغبة والحرمان؛ فإذا فرغ من إنشائه جلس يترنم به ويعيده على سمعه الباطن، ثم لا يلبث أن يلتفت إلى جليسه قائلاً: (أسمعت هذا الشعر؟ أرأيت شاعراً في العربية يملك من قوة البيان ما يجمع به كل هذه المعاني في قصيدة منظومة. . .؟)
هذه العبارة التي كان يسمعها جلساء الرافعي كثيراً، تفسر لنا قول الرافعي إن في الشعر العربي قيوداً لا تُتيح له أن ينظم بالشعر كل ما يريد أن يعبر به عن نفسه الشاعرة، أو تؤيد ما أدعيه أنا، من أنه كان يشعر بالعجز عن الإبانة عن كل خواطره الشعرية في قصيدة من المنظوم ولا يعجزه البيان في المنثور. نعم، كان شعر الرافعي أقوى من أداته، وكانت قوالبه الشعرية تضيق عن شعوره. . .
افترى في العربية شاعراً يستطيع أن ينظم ورقة واحدة من (أوراق الورد) في قصيدة منظومة دون أن يتحيف المعنى ويختل الميزان؟
لا أحسب أن الرافعي كان يعني ما يقول حين يزعم أن القيود في الشعر العربي من أسباب الضعف في الشعر؛ فهو نفسه لم يكن يستطيع أن يجهر بهذا الرأي، بل أحسبه في بعض نقداته الأدبية أنكر مثل هذا القول على بعض الأدباء وراح يتهمه بمحاولة الغض من قدر الشعر في العربية؛ فما أراه كان يقول ذلك إلا تعبيراً عن معنىً تأبى كبرياؤه الأدبية أن يصرح به.
ذلك هو السبب الثاني الذي عدل بالرافعي عن الاستمرار في قرض الشعر معنياً به مقصوراً عليه.
لم يهجر الرافعي الشعر هجراً باتاً بعد أن اتخذ لنفسه هذا المذهب الجديد، ولكنه لم يجعل إليه كل همهه، واتجه بقلبه ولسانه إلى الهدف الجديد، فلا يقول الشعر إلا بين الفينة والفينة إذا دعته داعية من دواعي النفس أو من دواعي الاجتماع. وسنرى فيما سيأتي بعد، أنه قد صبا إلى الشعر ثانية عندما مس الحب قلبه واتقدت جذوته في أعصابه سنة 1923، فدعته نفسه؛ وعندما اتصل ببلاط الملك فؤاد - رحمه الله - سنة 1926، فدعته داعية الجماعة.
حديث القمر
قلت إن الرافعي بطبعه كان شاعراً، ولكن شعره كان أقوى من أداته، وكانت قوالبه الشعرية تضيق عن شعوره فنزع إلى النثر الفني. وقلت إنه كان يرمي إلى أن يعيد (الجملة القرآنية) إلى مكانها مما يكتب الكتاب وينشئ الأدباء لتعود اللغة على أولها فصيحة جزلة مبينة، وإنه أخذ على نفسه أن يكون نموذجاً في هذا الأدب الجيد يحتذيه أدباء العربية. وقدمت في المقال السابق أن الرافعي كان على نية إصدار كتاب مدرسي سماه (ملكة الإنشاء) يكون عوناً للمتأدبين وطلاب المدارس على الاقتباس لإجادة الإنشاء. فكل أولئك ما دفعه إلى إصدار كتابه (حديث القمر) من بعد
كتاب (حديث القمر) هو أول ما نشر الرافعي من أدب الإنشاء؛ أصدره بعد كتابيه: تاريخ آداب العرب، وإعجاز القرآن. وما بي أن أصف حديث القمر لقراء العربية، فهو مشهور متداول، وهو ضرب من النثر الشعري، أو الشعر النثري؛ يصف من عواطف الشباب وخواطر العاشق وما إليهما في أسلوب فني مصنوع أحسبه لا يطرب الناشئين من قراء العربية في هذه الأيام، إلا أن يقرءوه على أنه زاد من اللغة، وذخر من التعبير الجميل، ومادة لتوليد المعاني وتشقيق الكلام في لفظ جزل وأسلوب بليغ
ومن هذا الكتاب كانت أول التهمة للرافعي بالغموض والإبهام واستغلاق المعنى عند فريق من المتأدبين؛ ومنه كان أول زادي وزاد فريق كبير من القراء الذين نشأوا على غرار في الأدب لا يعرفه ناشئة المتأدبين اليوم
شيوخه في الأدب
أما إذ وصلت إلى هذا المكان من تاريخ الرافعي فإني أسأل نفسي: عمن أخذ الرافعي هذا المذهب في الكتابة، وبمن تأثر من كتاب العربية القُدامى والمحدثين؟
هذا سؤال لا أجد جوابه فيما حدثني به الرافعي أو أحد من أهله وصحابته؛ وما أستطيع أن أثبت شيئاً في هذا المقام يعتمد عليه الباحث. واكبر ظني أن الرافعي نفسه كان لا يعرف أستاذ في الأدب والإنشاء؛ فما كان همه أول همه أن يكون كاتباً أو منشئاً، ولكن تطورات الزمن هي ردته من هدف إلى هدف وألزمته أن يكون ما كان. وقد قرأ الرافعي كثيراً وأخذ عن كثير، فمذهبه في الكتابة من صنع نفسه، وهو ثمرة درس طويل وجهاد شاق اختلطت فيه مذاهب بمذاهب وتداول عليه أدباء وأدبا من كتاب العربية الأولين. ولكني أجد من الفائدة هنا أن أشير إلى اثنين من أدباء العربية كان يقرأ لهما الرافعي أكثر ما يقرأ إلى آخر أيامه: هما الجاحظ وصاحب الأغاني، وكان يعجب بأدبهما ويعجب لأحاطتهما عجباً لا ينقضي وإعجاباً لا ينتهي، وكان لا بد له حين يهم بالكتابة بعد أن يجمع عناصر موضوعه في فكره أو في مذكراته - أن يفتح جزءاً من الأغاني، أو كتاباً من كتب الجاحظ يقرأ فيه شيئاً مما يتفق، ليعيش فترة ما قبل الكتابة في جو عربي فصيح.
ومما لا يفوتني إثباته في هذا المجال أن مجلة (الهلال) قد استفتت أدباء العربية يوماً منذ سنوات، في أي الكتب العربية تعين الناشئ الأديب على مادته؟ وكان للرافعي في هذا الاستفتاء جواب لا أذكره، أحسبه يفيد الباحث عن المصدر لأدب الرافعي
وسمعت الرافعي مرة يقول: (إن كلمة قرأتها لفكتور هوجو كان لها أثر في الأسلوب الأدبي الذي اصطنعته لنفسي؛ قال لي الأستاذ فرح أنطون مرة: إن لهوجو تعبيراً جميلاً يعجب به الفرنسيون كل الإعجاب، قوله يصف السماء ذات صباح: (وأصبحت السماء صافية كأنما غسلتها الملائكة بالليل)
قال الرافعي: (وأعجبني بساطة التعبير وسهولة المعنى، فكان ذلك حذوي من بعد في الإنشاء)
أفندعي بهذا أننا عرفنا واحداً من شيوخ الرافعي في الأدب والإنشاء. . .!
(شبرا)
محمد سعيد العريان