مجلة الرسالة/العدد 219/تحقيق تاريخي
→ بين العلم والأدب | مجلة الرسالة - العدد 219 تحقيق تاريخي [[مؤلف:|]] |
الفلسفة الشرقية ← |
بتاريخ: 13 - 09 - 1937 |
مولاي إسماعيل والأميرة دوكنتي
للأستاذ ابن زيدان
ذكر بعض مؤرخي أوربا أنه لما رجع سفير مولاي إسماعيل، عبد الله بن عائشة الرئيس البحري الشهير من بعض سفاراته في فرنسا، وتلاقى بمولاي إسماعيل، كان من جملة ما وصف له عند الإفضاء إليه بنتائج سفارته جمال الفتاة دوكنتي بنت لويز الرابع عشر، فكان ذلك أعظم باعث لمولاي إسماعيل على خطبتها من والدها بواسطة سفيره المذكور. غير أن والدها لم يحقق رغبته، ولم يعر أدنى التفات خطبته، لأسباب: منها عدم ملاءمة طبعها لطبعه، ومباينة نبعها لنبعه، وتعدد أزواجه وسراريه، وكثرة حشمه وذراريه، إلى علل أخرى هي أولى بعدم الذكر، وأحرى لبعدها عن الحقيقة، ولتلون مغامزها ومغازيها الدقيقة
طالما بحثت ونقبت بتعطش لحجة يستند إليها في إثبات هذه الأحدوثة الغريبة في بابها. بالطرق الرسمية، فلم أعثر على شيء يستحق الذكر فيها، أو تطمئن إليه النفس، سوى ما جاء به بعض مؤرخي أوربا، مما لا سند لهم فيه، فيما علمت وقرأت غير كتاب ابن عائشة المذكور، ذلك الكتاب الذي سأفيض القول فيه وفي قيمته فيما يلي بحول الله. ثم جال بفكري أنه لا بد أن تكون هذه القضية، إن كان لها أصل، ثابتة مسجلة بوزارة الخارجية، فرحلت إلى فرنسا. ولما حللت بعاصمتها باريس ذهبت تواً إلى وزارة خارجيتها، فقوبلت من رؤسائها بمزيد الاحتفاء والاعتناء، وحملت على كاهل المبرة والاحترام، وسوعدت على تصفح كل ما يهمني في بحوثي التاريخية، من الوثائق والأوراق الرسمية. فجست خلالها أياماً أبحث وأنقب، وآخذ ما راقني بالتصوير والتقييد، فلم أجد من بين أخاير تلك الذخائر ضالتي المنشودة، فرجعت أدراجي، وأعملت الفكر في هذه القضية، وقابلت بين هذا الكتاب الملصق بابن عائشة، وبين غيره من المكاتيب الرسمية الرائجة إذ ذاك، حتى المكاتيب الصادرة من ابن عائشة، الممضاة بخط يده، فلم أجد بينها وبينه مناسبة ما، لا من حيث الأسلوب الدبلوماسي الجاري به العمل في ذلك العصر، ولا من حيث التقصير الواقع في هذا الكتاب، بالنسبة لأهمية هذا الأمر الجَلل أما من حيث الأسلوب الدبلوماسي، فإن كل من يرجع إلى تاريخ العلائق السياسية الخارجية إذ ذاك وما صدر فيها من المكاتيب والوثائق الرسمية الإسماعيلية، يُدرك بالبداهة أن نسبة هذا الكتاب لابن عائشة المشتمل على هذا الأمر المهم، إنما هي خيالية فحسب، لجريانه وصدوره على غير المألوف والمعهود من الأساليب الكتابية والدبلوماسية المتبعة إذ ذاك
وأما من الحيثية الأخرى، فإنه يبعد كل البعد أن يخطب ملك عظيم إلى ملك عظيم بنته وهو أجنبي عنه بهذه الوسيلة المخلة بعظمتها معاً، إذ التقاليد تقضي في مثلها ألا يصدر فيها مثل هذا الكتاب الذي هو أشبه برسالة تكتب لمطلق إنسان، بأسلوب يزري بعظمة السلطان، ويقضي ببله هذا السفير العظيم الشأن، إذن فما يقتضيه الحال حينئذ؟ يقتضي أن يحرر في ذلك كتاب رسمي، باسم جلالة الخاطب لجلالة المخطوب إليه، ويرسل صحبة سفير عظيم ماهر كابن عائشة، مع هدايا نفيسة، وتحف مغربية تستلفت الأنظار، وتحف المخطوبة من الاعتبار بإطار، وتقضي بنيل الأوطار، طبق المقرر المعتاد في السفارات المتبادلة بين الملكين فيما هو أو هي وأوهن من هذا الأمر
لابد أن أعرض على القراء نص هذا الكتاب، وكيف وجد وبأي لغة كتب، ولأي لغة نقل، وبشهادة من يراد إثباته، مما لم تجر به عادة، ولا ارتكب مثله لا في البدء ولا في الإعادة، لتعلموا قيمته:
هذا الكتاب نقل عن مجلة فرنسية، سميت مجلة فرنسا، وكتب لأول مرة باللغة الأسبانية، ولم يحرر أصله الموهوم باللغة العربية، التي هي لغة من ألصقت نسبته به، والتي هي لغة الدولة المغربية الرسمية، والتي كانت تخاطب بها الدول الأجنبية، ونقل من اللغة الأسبانية إلى اللغة الفرنسية، والذي شهد على أبن عائشة به كاتب أجنبي لتاجر أجنبي كان مقيماً بسلا في ذلك العهد، وإذا تحققت هذا وأحطت به علماً. فإليك نص هذا الكتاب منقولاً عن المجلة المذكورة عدد 62 مترجماً بقلم رئيس الترجمة العلمية بالرباط سابقاً الكمندار إسماعيل حامد الأشهر:
(وبعد فقد أمرني مولانا السلطان على أنه إن كان جواب ملك فرنسا موافقاً لما تضمنه كتابنا هذا فأتجهز للسفر على أي مركب من المراكب الحربية الفرنسوية ترد عل مرسى سلا أو غيره لأتوجه إلى حضرة سمو ذلك الملك الفخيم وأعرض على جنابه العلي المعاهدة التي يرغب سيدنا عقدها معه بمزيد الاشتياق والفرح، وأن أحقق لديه بكل التأكيد بأنه يفتخر سيدنا بمصاهرة أعز الملوك وأجلهم، وأن يبيح له الدخول في جميع مراسي الإيالة الشريفة وسائر مدنها وأقطارها، وكذلك لكافة رعيته، وعليه أشهد أن القبطان عبد الله بن عائشة هو الذي أملى عليّ هذا الكتاب باللغة الأسبانية، ثم ألزمني بترجمته إلى اللغة الفرنسوية ولأجله وضع فيه خاتمه والسلام. الإمضاء: جان ماني دولا كلوازري النازل بمدينة سلا في مقابلة تجارة المسيو جوردا، وكتبه في 14 نوفمبر سنة 1699 موافق 21 جمادي الأولى سنة 1111)
هذا أصل الكتاب. وهذه ترجمته حرفياً فلنبحث الآن فيما يُعَضِّده أو يَعْضِده، لنكون على بينة من أمره، ولنميز بين خله وخمره، فنقول: هل يمكن لأبن عائشة، وهو ذلك السفير الخطير أن يملي على كاتب أجنبي نص هذا الكتاب الخاص بمولاه، المتعلق بأمر يهمه، من الواجب أن يكون سرياً لا يتجاوز الخاطب، والسفير يمليه عليه باللغة الأسبانية، ويلزمه بترجمته إلى اللغة الفرنسية؟ هذا ما لا يوافق عليه عظمة الخاطب ومهنة السفير، ولا يقبله العقل السليم، ولا يصدقه الواقع، حتى فيما هو أقل من هذا الأمر الخطير، وإلا فأين كتاب الدولة ومترجموها، المعتنون بتنميق مكاتبتها، وتطريزها بالذهب، وتلوينها بأصباغ مبهجة خلابة رائقة، بطرق فنية، امتاز بها كتاب المملكة المغربية؟ ما بقي لنا إلا أن نتساءل قائلين:
هل يمكن أن يكون ابن عائشة وضع هذا الكتاب افتياتاً منه على ولي نعمته وهو لا يعلم، ووجهه للملك لويز ليجس نبضه في الأحدوثة التي لم تعزز بثانية في بابها، حتى يعرف من أين تؤكل الكتف، فان نجح مسعاه قدمه قرباناً لمولاه، بين يدي نجواه، رجاء ازدياد تمكن وتقرب منه، وإن أخفق وخاب كتم الأمر عنه وقنع بالحالة التي كان عليها معه، ولذلك كله تجشم مشقة الالتجاء إلى ذلك الكاتب الأجنبي، وإملاء الكتاب عليه بنص أسباني أجنبي، وإلزامه بنقله إلى نص فرنسي أجنبي. واكتفى بوضع الخاتم عن الإمضاء بخطه، ولكن هناك عقبة كأداء تعترضه في هذا السبيل، وهي أن هذا الأمر من الأهمية بمكان، وليس بالأمر الهين الذي يمكن تمشيه والوصول إليه في طي الخفاء؛ ولا يؤدي به إذا أخفق فيه إلى عقاب سلطانه وجفاه إننا نعلم جيداً كغيرنا أن المغرب كان إذ ذاك طافحاً بكتاب بارزين هم أولى بإسناد هذه المهمة إليهم، وأحق بإلقائها عليهم، لو كانت تخطر ببال، فكيف عدل أبن عائشة عنهم إلى هذا الكاتب دون سواه، وهو كاتب أجنبي لتاجر أجنبي، لا علاقة له بمطلق شؤون الدولة، ولا بالبلاط السلطاني وكيف اطمأن إليه في هذه القضية المهمة، التي يتوقف علاجها على كاتب ماهر من كتاب أسرار الدولة الممارسين لها العارفين بأساليبها ممن يتلاعب بأطراف الكلام، ويداوي ببلسم بلاغته الكلام، ويوصب بسحر بيانه إلى هدف القصد والمرام؟ فهل بلغ البله بابن عائشة إلى هذا الحد، فخاطب أعظم ملوك أوربا إذ ذاك بمثل هذا الخطاب الصبياني في خطبة فلذة كبده، وريحانة قصره وقرة عين ملكه لملك عظيم، عرف بعلو الهمة والشهامة والغيرة، والمحافظة على أبهة الملك وسطوة السلطان؟ هذا يسأل عنه من درس حياة الخاطب، وسيرة سفيره ابن عائشة معه، وما لسفيره هذا من المكانة المكينة في العقل والدهاء ونفوذ البصيرة، وعدم الدخول في ميادين الفضول، والبصر بما يصلح من الشئون الدولية، وما لا يصلح، وعدم تجاوزه لحدود وظيفته، وما تقتضيه رسوم مرتبته، فلم يكن ابن عائشة مغفلاً ولا أبله ولا إمعة ولا فضولياً ولا ثرثاراً حتى يأتي بسر من أسرار سيده، لو كان، ويضعه بين يدي كاتب أجنبي لتاجر أجنبي، ويتبرع بإطلاعه عليه والإفضاء به إليه ليفضي به لدولته، فيذيع وينتشر قبل وصوله لصاحبه المخاطب به، ويشهده مع ذلك على نفسه، وهو يعلم قيمة شهادته عنده وعند غيره إذ ذاك
نحن لا نشك في أن المصاهرة هي من آكد العلائق وأوثقها بين ملوك الدول، ولا زال الملوك يرغبون فيها، توطيداً لدعائم عروشهم، وتثبيتاً لمراكزهم، وتسييراً لنفوذهم، وسعياً وراء تأمين ممالكهم، فليس هناك من عارٍ يلحق الجد أبا النصر إسماعيل لو ثبتت خطبته لبنت أعظم ملوك أوربا في عصره، سعياً وراء ربط علائقه معه برباط من المصاهرة وثيق، واستطلاعه على أسرار دولته، الذي لا يتأتى إلا بالمصاهرة، وليس في الدين الإسلامي مانع منه؛ ومن الضروري لدى كل المسلمين أن الشرع الإسلامي، يبيح التزوج بالكتابية، وفرنسا من أهل الكتاب، فحينئذ لا داعي لتستر الجد مولاي إسماعيل، وتكتمه في هذا الأمر الذي يبيحه شرعه القويم لو شاء، ولا موجب لالتجائه إلى هذه الخطبة بهذا الأسلوب المريب الغريب المخل بعظمته وعظمة المخطوب إليه، كما أنه لا داعي لارتكاب ابن عائشة هذه الهفوة، وهو ذلك السفير الحازم (الضابط) المجرب العارف بمقتضيات أحوال الملوك وما تتطلبه مناصبهم ومراسيمهم، وما تتنافس فيه نفوسهم الطماحة من التنافس فيما يظهرهم بمظاهر العظمة والجلال والفخار المطلق، على أن ابن عائشة إنما كان سفيراً في الشئون الراجعة إلى وظيفته، ولا شك أن هذا الأمر ليس منها في قبيل ولا دبير، فلم يكن ابن عائشة في الدولة الإسماعيلية وزير خارجية، وإنما كان رئيس البحرية، يترأس الأساطيل المغربية التي كانت تمخر عباب البحر إلى شواطئ الدانمارك، وفرنسا، وغيرهما، فكيف يمكن أن يكلفه مخدومه بهذا الأمر، وهو بعيد عنه تمام البعد؟ بل كيف يمكن تدخله فيه، وهو بهذه المثابة، مع وجود من تسيغ التقاليد الدولية تكليفه بذلك من وزراء ورؤساء الدولة الإسماعيلية المدنيين السياسيين؟ بل كيف لا يفطن مولاي إسماعيل لذلك، وهو ذلك الملك الألمعي (الذي يظن بك الظن كأن قد رأى وقد سمعا) يندب لكل مهمة أهل بلواها، حسبما شهد له بذلك غير واحد، حتى من ساسة أوربا؟ قال الأب بيستوفي مؤلفه المعنون بحكاية حوادث بالمغرب، صفحة 35 منه في حقه: يدرك ما يدور في ضمير مخاطبه قبل أن ينطق بمراده. إلى أن قال: بصير بعواقب الأمور، آخذ بالأحوط في متوقع الحوادث، وبصفحة 60 منه لا يسند تدبير أموره بغيره من قواد وكتاب، ولكن يستشيرهم فيما عزم عليه فيحبذون.
لو كان هذا الكتاب صحيحاً، لجاء على صورة المكاتبة الدولية، وبأسلوبها، ولكانت له أهمية كبرى، وطنين ورنين في الدوائر الإدارية الفرنسية ذات الشأن، ولاحتفظ بأصله، كما احتفظ بغيره، مما هو أتفه منه في السجلات الدولية والفرنسية المعدة لذلك، ولتناقله كتاب ذلك العصر من مؤرخي الشرقيين، والغربيين، فقد تتبعت بغاية اليقظة والتثبت جل المصادر المتعلقة بتاريخ دولتنا الإسماعيلية، مغربية وفرنسية، وغيرها مما كتب بلغات مختلفة، وأساليب متعددة في ذلك العصر، كرحلة مويط، وتاريخه للدولتين، الرشيدية والإسماعيلية، سواه كثير، فلم نعثر على شيء، ولم نقف لهذه الأحدوثة على أثر ولا خبر يسمع وتطمئن النفس إليه، ولطالما تباحثت في ذلك مع جماعة من علية المستشرقين وغيرهم، فلم يفيدوا بما يحسن السكوت عليه، ومنهم من وعد بالبحث في مواطنه، وبعد مدة أجاب سلبياً، وغاية ما هنالك، رواج القضية حتى استفاضت بدون استناد لأصل أصيل يثبتها، ولقد أجهد نفسه البحاثة الكبير الكنت هنري دوكستري، وهو من هو في البحث، والتنقيب، عسى أن يصل إلى أصل يعتمد عليه في الإثبات، بصفة رسمية، فلم يظفر بشيء كسابقيه، ومن أتى بعده، وكل من ذكرته في هذا الموضوع من المؤرخين المستشرقين وغيرهم، وبينت له وجهة نظري في إبطال القضية، ودحضها بالحجج الواضحة، حبذ النظرية واقتنع بها
والباحث المولع مثلي بالبحث والتنقيب عن الآثار والوثائق التاريخية، ولا سيما ما كان متعلقاً منها بسلفنا الطاهر، لا بد أن يكون جد مسرور لو عثر على ما يطمئن نفسه، ويقر في قرارتها ثبوت هذا الأمر الخطير بالطرق الرسمية المعروفة المتبعة. هذا ولا عار يلحق الخاطب العظيم، لو كان هذا الكتاب صحيحاً، وحبذا ذلك، وأبى لويز الرابع عشر أن يحقق له هذه الأمنية لأسباب ارتآها، وعلل خارجية يعقلها من يعلم بوقوع هذه الشئون بين من لا يعد من الخاطبين ومخطوباتهم في سائر الطبقات، ولكننا ويا للأسى والأسف لم نقف ولا وقف غيرنا ممن أجهد نفسه في البحث قبلنا على ما يثبت ذلك، فليس هنالك نص محفوظ في الدوائر الرسمية يتضمن ذلك، وليس هنالك جواب يدل على وجود هذا الكتاب من والد المخطوبة، والجواب ضروري ولا شك حسب القواعد الجارية، ولا سيما في مثل هذه المهمة التي أصبحت الشغل الشاغل لكثير من الباحثين، والتي يريد إثباتها كثير من المستشرقين، بل والشرقيون كذلك من غير التفات إلى مصدر وثيق، ولا نص رسمي صريح يحمل على اليقين. على أنه لو كان هنالك كتاب لكان عنه جواب بالطبع؛ ولو كان هنالك جواب لحفظ أصله من غير ارتياب؛ ولو كانت هنالك رغبة حقيقية من جلالة الخاطب في هذا الأمر لوقع منه ما يؤيده من مراجعة الملك المخطوب إليه بواسطة نائبه الذي كان بمثابة وزير الخارجية إذ ذاك، وكان يقيم، في الغالب، بثغر طنجة، وكانت الأمور الخارجية، كيفما كانت، منوطة به من جانب السلطان في ذلك العهد، وما ذاك إلا لكون هذا الكتاب يقتضي بنصه الصريح شدة رغبة مولاي إسماعيل في ذلك، فكيف يمكن أن يكون راغباً فيه متعلقاً كل التعلق به ولا يراجع المخطوب إليه، ولا يخاطبه في شأنه بمكاتيب رسمية تفصح عن مراده تمام الإفصاح؟ ذلك مما ينقض هذه القضية بوضوح، ويصيرها في حيز العدم. جعل مؤرخو أوربا لهذه القضية سبباً غريباً نعده نحن، بحسب تقاليدنا الدينية وتقاليد ملوكنا الغيورين العظماء، من قبيل الروايات والتشبث بالخيال الكاذب. أتدري ما هو هذا السبب؟ هو وصف ابن عائشة تلك الفتاة الجميلة لمولاي الجد إسماعيل وصفاً كاشفاً جعله ينزو هذه النزوة التي تقضي على ما عرف به من الثبات الذي يحطم النزوات والوثبات والمشهود له به من كتاب عصره سواء في ذلك الأوربيون وغيرهم، بل صيره ينزع هذه النزعة التي تجعله في صف الذين تقودهم غرائزهم إلى الهيام بما يرضيها ويشبع نهمها بأي وسيلة كانت، مع أنه كان بقصره الفاخر العامر من الأزواج الطاهرات والسراري وأمهات الأولاد الأعجميات الجميلات ما يغنيه ولاشك عن التعلق بفتاة وإن كانت أميرة بعيدة عنه تمكن أحد سفرائه من وصفها بكل دقة؛ فقد نص (بيدجان مكان) في تعليقه على ما كتبه (سان أولون) على أن مولاي إسماعيل، وإن كان ولوعاً بالنساء، فإنه لم يكن من الذين يستهويه حبهن، ويستولي على فكره، بل كان مقتصراً على ما تدعو إليه الحاجة إليهن، ولم تشغله كثرة نسائه عن تدبير شئون مملكته، والنظر في مصالحها، إلى آخر ما قال من هذا القبيل فلينظر في كتابنا (المنزع اللطيف، في التلميح لمفاخر مولاي إسماعيل بن الشريف) وليس سفيره ابن عائشة بذلك المتهور السخيف، الذي يتجرأ على مولاه وسيده، بوصف هذه الفتاة له وجهاً لوجه، وهو الذي كان يقف بين يديه وقوف المملوك بين يدي مالكه، بأدب واحتشام، وتهيب لمقامه واحترام
والذي يرفع نقاب الغموض عن هذه القضية، هو ما كان بين الخاطب والمخطوب إليه من غاية الرعاية وتمام المودة، وحسن العلائق، والمخاطبات التي كانت أكبر عنوان على تعظيم أحدهما للآخر والتنويه به، واعتناء كل منهما بإجابة صاحبه عن كل أمر له علاقة بتوثيق العلائق السياسية بينهما، وأي علاقة تضاهي علاقة المصاهرة في هذا الباب أو تحل محلها؟ فكيف إذن تصح خطبة سيدنا الجد إسماعيل الأكبر منه بهذه الصفة؟ وكيف لا يجيبه جواباً يعبر فيه عما تكنه نفسه للجد من إجلال وتقدير عهدا منه في غير هذا الأمر؟
هذا ما ظهر لي في هذه الأحدوثة أبديته، راجياً من الباحثين والمؤرخين أن يرشدونا إلى أصل ثابت غير الكتاب الذي أبديت فيه رأيي، ولهم مزيد الشكر مني سلفاً
(الرباط)
ابن زيدان