مجلة الرسالة/العدد 219/بين العلم والأدب
→ في تاريخ الأدب المصري | مجلة الرسالة - العدد 219 بين العلم والأدب [[مؤلف:|]] |
تحقيق تاريخي ← |
بتاريخ: 13 - 09 - 1937 |
للأستاذ علي الطنطاوي
قرأت منذ أيام في صحيفة يومية، مقالة يسأل فيها كاتبها عن العلم والأدب والقول فيهما، والمفاضلة بينهما، فوجدته قد حمل الكلام على غير محمله، وساقه في غير مساقه، فأفتى وهو المستفتى، وحكم وهو المدعي، فلم يدع مذمة إلا ألحقها بالأدب، ولم يترك مزية إلا نحلها العلم، وزعم بأن الأمر قد انتهى، والقضية قد فصلت، وحكم للعلم على الأدب. . . فلم أدر متى كانت هذه المنافرة وأين كانت هذه المفاخرة، ومن هو الذي جلس في منصة القضاء، ومن الذي زعم أنه وكيل الأدب حتى أخزاه الله على يديه، وأذله به؟. . .
ومتى كان بين العلم والأدب مقاربة، حتى تكون بينهما (مقارنة)، ومتى كان بينهما مناضلة، حتى تكون بينهما مفاضلة؟ وهل يفاضل بين الهواء الذي لا يحيا حي إلا به، وبين الذهب الذي هو متاع وزينة وحلية، ولو كان الذهب أغلى قيمة، وأعلى ثمناً، وأندر وجوداً؟
إن الأدب ضروري للبشر ضرورة الهواء. ودليل أن البشرية قد عاشت قروناً طويلة من غير علم، وما العلم إلا طفل ولد أمس ولا يزال يحبو حبواً. . . ولكن البشرية لم تعش ساعة واحدة من غير أدب، وأظن أن أول كلمة قالها الرجل الأول للمرأة الأولى، كلمة الحبّ، لمكان الغريزة من نفسه، ولأنها (أعني غريزة حفظ النوع) كانت أقوى فيه، والحاجة إليه أشد وبقاء النوع معلق بها، فكانت كلمة الحب الأولى أول سطر في سفر الآداب، كتبت يوم لم يكن علم، ولا عرفت كلمة العلم. . . ودرج البشر على ذلك فلم يستغن أحد عن الأدب، ولم يعش إلا به، ولكن أكثر البشر استغنوا عن العلم ولم يفكروا تفكيراً علمياً، وهؤلاء هم الأكابر من العلماء كانوا يضطرون في ساعات من ليل أو نهار، إلى مطالعة ديوان شعر، أو النظر في قصة أدبية، أو صورة فنية ليبلوا صوت العاطفة، ويستمعوا نداء الشعور، وأكثرهم قد أحب، وملأ نفسه الحب، فهل بلغ أحداً أن أديباً نظر في معادلة جبرية، أو قانون من قوانين الفيزياء أو أحس الحاجة إلى النظر فيها؟ وهذا أكبر عالم في مختبره، يسمع نغمة موسيقية بارعة، أو يرى صورة رائعة، أو تدخل عليه فتاة جميلة عارية مغرية، فيترك عمله ويقبل على النغمة يسمعها، أو الصورة يمعن فيها، أو الفتاة يداعبها، فهل رأيت شاعراً متأملاً يدع تأمله، أو مصوراً يترك لوحته ليستمع منك قوانين الرقاص ونظرية لابلاس؟
هذه مسألة ظاهرة مشاهدة؛ وتعليلها بين واضح هو أن المثل العليا كلها تجمعها أقطاب ثلاثة: الخير والحقيقة والجمال. فالخير تصوره الأخلاق، والحقيقة يبحث عنها العلم والجمال يظهره الأدب. فإذا رأيت الناس يميلون إلى الأدب أكثر من ميلهم إلى العلم فأعلم أن سبب ذلك كون الشعور بالجمال أظهر في الإنسان من تقدير الحقيقة. . . وانظر إلى الألف من الناس كم منهم يهتم بالحقيقة ويبحث عنها؟ وكم يعني بالجمال ويسعى للاستمتاع به؟ إن كل من يعني بالجمال ويتذوقه بل إن كل من يذكر الماضي ويحلم بالمستقبل ويحس اللذة والألم واليأس والأمل يكون أديباً، ويكون الأدب - بهذا المعنى - مرادفاً للإنسانية. فمن لم يكن أديباً لم يكن إنساناً.
ولندع هذا التفريق الفلسفي ولنفاضل بين العلم والأدب من الناحية النفسية (السيكولوجية) إننا نعلم أن العلم يبحث عن الحقيقة فهو يستند إلى العقل. أما الأدب فيتكئ على الخيال. فلننظر إذن في العقل والخيال: أيهما أعم في البشر وأظهر؟ لا شك أنه الخيال. . فكثير من الناس تضعف فيهم المحاكمات العقلية، ولا يقدرون على استعمال العقل على وجهه؛ أو تكون عقولهم محدودة القوى، ولكن ليس في الناس من لا يقدر على استعمال الخيال، وليس فيهم من يعجز عن تصور حزن الأم التي يسمع حديث ثكلها، أو لا يتخيل حرارة النار، وامتداد ألسنة اللهب، عندما يسمع قصة الحريق؛ بل أن الخيال يمتد نفوذه وسلطانه إلى صميم الحياة العلمية فلا يخرج القانون العلمي حتى يمر على المنطقة الخيالية (الأدبية). ولا يبني القانون العلمي إلا على هذا الركن الأدبي. وبيان ذلك أن للقانون العلمي أربع مراحل: المشاهدة والفرضية والتجربة والقانون. فالعالم يشاهد حادثة طبيعية، فيخيل القانون تخيلاً مبهماً ويضع الفرضية ثم يجربها فأما أن تكذبها التجربة فيفتش عن غيرها، وإما أن تثبتها فتصير قانوناً، فالمرحلة التي بين المشاهدة والفرضية مرحلة أدبية لأنها خيالية. وقد شبه هنري بوانكاره الرياضي الفرنسي (أو غيره فلست أذكر) شبه عمل الذهن في هذه المرحلة بعمل الذي يبني جسراً على نهر، فهو يقفز أولاً إلى الجهة المقابلة قفزة واحدة ثم يعود فيضع الأركان ويقيم الدعائم. وكذلك الفكر يقفز إلى القانون على جناح الخيال، ثم يعود فيبنيه على أركان التجربة؛ فالقانون العلمي نفسه مدين إذن للخيال أي للأدب.
ثم أن الخيال يخدم العلم من ناحية أخرى هي أن أكثر الكشوف العلمية والاختراعات قد وصل إليها الأدباء بخيالهم، ووصفوها في قصصهم قبل أن يخرجها العلماء؛ فبساط الريح هو الطيارة، والمرآة المسحورة هي التلفزيون، والحياة بعد قرن هي هي خيال وِلْز في روايته مستقبل العالم. . .
أنا إلى هنا في القول بأن الحقيقة في صف العلم والجمال مع الأدب؛ ولكني أقول ذلك متابعة للناس، وسيراً على المألوف، والواقع غير ذاك. ذلك أن العلم في تبدل مستمر، وتغير دائم؛ فما كان يظن في وقت ما قانوناً علمياً ظهر في وقت آخر أنه نظرية مخطئة؛ والكتاب العلمي الذي ألف قبل خمسين سنة، لم يعد الآن شيئاً ولا يقبله طالب ثانوي، في حين أن الأدب باق في منزلته، ثابت في مكانته مهما اختلف الأعصار، وتناءت الأمصار. فإلياذة هوميروس، أو روايات شكسبير، أو حكم المتنبي؛ كل ذلك يقرأ اليوم كما كان يقرأ في حينه، ويتلى في الشرق كما يتلى في الغرب، ولا يعتريه تبديل ولا تغيير
فأين هي الحقيقة؟ وأي الشيئين هو الثابت؟ وأيهما المتحول؟
وعد عن هذا. . . وخبرني يا سيدي الكاتب: ما هي فائدة هذا العلم الذي تطنطن به وتدافع عنه؟ وماذا نفع البشرية؟
تقول: إنه خدم الحضارة بهذه الاختراعات وهذه الآلات؛ إن ذلك احتجاج باطل، فالاختراعات ليست خيراً كلها، وليست نفعاً للبشرية مطلقاً، والعلم الذي اخترع السيارة والمصباح الكهربائي، هو الذي اخترع الديناميت والغاز الخانق، وهذه البلايا الزرق، فشره بخيره والنتيجة صفر
ودع هذا. . . ولنأخذ الاختراعات النافعة: لنأخذ المواصلات مثلاً. . . لا شك أن العلم سهلها وهوَّنها، فقرب البعيد، وأراح المسافر، ووفر عليه صحته ووقته، ولكن هل أسعد ذلك البشرية؟
أحيلك في الجواب على (شبنكلر) لترى أن البشرية قد خسرت من جرائها أكثر من الذي ربحته: كان المسافر من بغداد إلى القاهرة، أو الحاج إلى بيت الله، ينفق شهرين من عمره أو ثلاثة في الطريق، ويحمل آلاماً، وتعرض له مخاوف، ولكنه يحس بمئات من العواطف، وتنطبع في نفسه ألوف من الصور، ويتغلغل في أعماق الحياة، ثم يعود إلى بلده، فيلبث طول حياته يروي حديثها، فتكون له مادة لا تفنى، ويأخذ منها دروساً لا تنسى، أما الآن فليس يحتاج المسافر (إن كان غنياً) إلا إلى الصعود على درجة الطيارة، والنزول منها حيث شاء بعد ساعات قد قطعها جالساً يدخن دخينة، أو ينظر في صحيفة، فهو قد ربح الوقت، ولكنه خسر الشعور، فما نفعتنا المواصلات إلا في شيء واحد، هو أننا صرنا نقطع طريقنا إلى القبر عدواً، ونحن مغمضو عيوننا. . . لم نر من لجة الحياة إلا سطحها الساكن البراق!
ولنأخذ الطب. . . وليس من شك أن الطب قد ارتقى وتقدم، وتغلب على كثير من الأمراض، ولكن ذلك لا يعد مزية للعلم لأنه هو الذي جاء بهذه الأمراض، جاءت بها الحضارة؛ فإذا سرق اللص مائة إنسان، ثم رد على تسعين منهم بعض أموالهم أيعد محسناً كريماً، أم لا يزال مطالباً بالمال المسروق من العشرة؟
أنظر في أي مجتمع بشري لم تتغلغل فيه الحضارة، ولم يمتد إلى أعماقه العلم، وانظر في صحة أهله وصحة المجتمعات الراقية؟ هل الأمراض أكثر انتشاراً في فيافي نجد، أم في قصور باريز؟ أوليس في باريز أمراض لا أثر لها في البادية؟ فليس إذن من فضل للعلم في أنه داوى بعض الأمراض بل هو مسئول عن نشرها كلها؟
وتعال يا سيدي ننظر نظرة شاملة، هل البشر اليوم (في عصر العلم) أسعد أم في العصور الماضية؟ أنا لا أشك في أن سعادتهم في العصور الماضية، عصور الجهالة (كما يقولون) كانت أكبر وأعمق، ذلك لأن السعادة ليست في المال ولا القصور ولا الترف ولا الثقافة، ولكن السعادة نتيجة التفاضل بين ما يطلبه الإنسان، ويصل إليه، فإذا كنت أطلب عشرة دنانير وليس عندي إلا تسعة فأنا أحتاج إلى واحد، فسعادتي ينقصها واحد، أما روكفلر فسعادته ينقصها مليون، لأن عنده تسعة وتسعين مليوناً وهو يطلب مائة؛ فأنا بدنانيري التسعة أسعد من روكفلر. . وكذلك الإنسان في الماضي لم تكن مطاليبه كثيرة فكان سعيداً لأنه يستطيع أن يصل إليها، أو إلى أكثرها؛ أما مطاليبه اليوم فهي كثيرة جداً لا يستطيع أن يصل إلا إلى بعضها فهو غير سعيد!
هذا وأنا لا أعني الأدب الضيق، أي الكلام المؤلف نثراً أو نظماً، بل أعني الأدب بالمعنى الآخر؛ أريد كل ما كان وصفاً للجمال وتعبيراً عنه، لا فرق عندي بين أن تعبر عن جمال الفتاة بصورة أو تمثال أو مقطوعة من الشعر؛ ولا فرق عندي بين أن تصور غروب الشمس بالريشة والألوان، أو بالألفاظ والأوزان، فالموسيقي أديب، والمصور أديب، والنحات أديب، والشاعر أديب؛ والأدب بهذا المعنى أهم من العلم، وأنفع للبشرية. . . ولو كره العالمون!
علي الطنطاوي