مجلة الرسالة/العدد 214/من أدب القوة
→ عالم! | مجلة الرسالة - العدد 214 من أدب القوة [[مؤلف:|]] |
للأدب والتاريخ ← |
بتاريخ: 09 - 08 - 1937 |
مثال. .!
للأستاذ عبد المنعم محمد خلاف
ثارت نفسه ثورة ضارمة جاحمة لِتَحَيُّف الغاصبين وطنه وتمزيقه شر ممزق؛ فصرخ الدم في عروقه، ولصرخة الدم دوي يسمعه الأحرار فتصيبهم جِنَّةٌ تخرجهم من ديارهم إلى القبور. . . وتَحرَّك الإيمان في قلبه، ولحركة الإيمان زَلزلةٌ تتحطم بها كل الشهوات ويستيقظ لها المؤمنون يقظة تخرجهم من قبور الغفلة إلى حومة الجهاد. . . وأقبل الملك والشيطان يصطرعان على فكره وهو بينهما كما تكون كُدْسَةُ الحَبّ بين شِقيّ الرحى. . . يدعوه الأول إلى خطة الأقل والأكثر فيها الفِداء في الدار التي عريت من الخلود وازينت بالشر، ويقول له: إنك ما كنت لتحيا هنا، وإنما الحياة هناك. . . فاذبح مالك لحريتك، واذبح شهوة الدعة في الزلة لكرامة العزة، واخرج من كل شيء لله الذي أعطاك كل شيء. . .
إيتِهِِ جسداً عارياً من الحلي والزينة، فإنها سلاسل تربطك بالأرض. . . وائتِه نفّسا عارية من كلَبِ شهوةِ البقاء. . . وائته عقلا عاريا من صور البنين والمملوك والذهب والفضة والمنصب، فإن كل أولئك أقذاء وحجب تغشى العين فلا تبصر ذلك اللفظ الصارم الذي لا يرحم، العابس الذي لا يبتسم: الواجب!
إيتِه عبداً مملوكا طائعا ولك الكرامة قبل أن تؤْخذ آبقا كارها وعليك كلمة السوء. . .
ويدعوه الثاني إلى خطة الأقل فيها السلامة. . . والأكثر فيها العيش الموفور المعَطَّرُ المُدَثرُ المفضض. . . ويقول له: مالك مجنوناً بالفناء وقد خلقت للبقاء؟! الناس قطعان حيوان ليس فيهم حرمة ولا لهم واجب فلماذا تموت ليحيوا. .؟ أتموت أنت الشابَّ الغُرَانِقَ المُقْبِل ليحيا العجائز والشيوخ المدبرون. .؟ لماذا تحمل وطنك بكل ما فيه على قلبك؟ ألقِه عنك يتحطم وعش على أنقاضه. . . دع أوهام الأديان وأحلام الفلاسفة والشعراء. . . أنت (لا تأتي إلى دنيك هذي مرتين؛ فلا تقف في وجه لذاتك مكتوف اليدين.!) ولماذا تقدم نفسك للمذبح ويتأخر فلان وفلان؟ انتظر حتى يتقدموا. . . أتموت ليبقى الزعماء فلان وفلان وفلان يتمتعون بالمجد والنعمة والحمل على الأعناق.؟ أتخشى حساب الله على تخلفك عن الجهاد؟ ومن أنت حتى يحاسبك الله العظيم؟! على أن في الحياة كفارة. . .
فيقف في غمرة من الحيرة بين وحي الملك ونزغ الشيطان، ولكن صراخ الدم وزلزلة الإيمان مضافاً إليهما حديث الملك مضافاً إليها حكم العقل بأن الحياة الدنيا ما دامت تنتهي فالأولى أن تنتهي بشرف. . . وما دامت اللذات والمناعم، بنت ساعتها، لا تحيا في النفس إلا ريثما تحيا في الحس. وليس لها نصيب من حياة الذكرى الخالدة فالأولى أن تُفْطمَ النفس عنها وبخاصة إذا دعا داعي الواجب وقالت قوانين الحياة الشريفة: يا إنسان النجدة!
كان (موظفاً) في الحكومة، والوظيفة رخصة تبيح لصاحبها عند نفسه وعند بعض الناس أن يغضي على كل لعنة تصيب دينه ووطنه. .! وأن يكفر بالله ويعبد الرغيف. . . وليس الرغيف الضروري فحسب بل الرغيف المرصع بكل لذات الفم له ولأبنائه وذرياتهم إلى يوم القيامة. .! حتى لا يستهدف بزعمه للعناتهم. . . وأن يقيم حول ذلك الرغيف سورا وقلاعا من العمارات والضياع تحفظه ممن يتعقبونه. . .
يا ما أعجب أنانية الإنسان! إنه لا يدرك من حقه إلا ما امتلكه من التافه والحقير. . . أما حقه الكبير الذي به سر حياته فلا يدركه ولا يغار عليه ولا يألم لوخز قلبه في عقيدته كما يألم لشوكة تخز خلية من خلايا جسده الترابي. .! ولا يثور لحق وطنه المسلوب كما يثور لمتاع سرق أو حمار نَفَقَ. .!
ولكن صاحبنا كان من الذين يضعون دائماً قلوبهم على أكُفّهم يعلنونها مستبرئة ظاهرة ليخيفوا بمرآها من ليست لهم قلوب. . . أو من كانت قلوبهم هواء، أو ليجعلوها دائماً تحت التأثير المباشر للحوادث، تقرعها الحادثة فتجد صداها مردداً في صدق وبعدٍ عن الرياء والتدليس، أو ليستفتوها إذا نزل أمر عاجل يتعجل الفتوى من إلهام الطبيعة وميزان الفطرة. لذلك ما كانت قيود الوظيفة ضمامة على سمعه تمنعه من سماع نداء الواجب، ولا كمامة على فيه تمنعه من كلمة الحق. . . فلم يكن يدلس على نفسه بتأويل الحوادث ودفعها إلى غير وجهها وتحميلها غير ما يتقاضاه منطقها، وخاصة إذا كان مدار الحوادث دينه أو وطنه، فحينذاك يضع قلبه في كفة ميزان والوظيفة بما وراءها من جاه ومال ودعة في كفة، ويختار الذي هو راجح وخير، وهو الأول دائماً!
فلما أن طار الحريق في جو وطنه من أنفاس الأحرار حسرة على ما أصاب بلادهم وحريتها كتب يقول:
(أيها الحاكمون!)
أنا عامل في حكومتكم، ولكني ما بعتكم حريتي لأني لا أملكها؛ فإنها ألطف وأدق من أن تملك؛ إذ هي في الحصن المغلق على سر الإنسان: في القلب. . .
لذلك أعلنكم أن هذا الجانب الخفي الرفيع مني قد أعلن الثورة عليكم، وترك لكم هذا الجسد مِلْكَ يمينكم، فإن شئتم أخذتموه فقطعتم منه الوتين. . وتلك غاية مكنتكم. . وإن شئتم تركتموه سلاحاً تقاتلكم به حريتي التي تحكمني من داخلي. . وتلك غايتها وغايتي!
أما أن أهادنكم على الدَّنيَّة في ديني والخائنة في وطني فذلك ما ليس إليه طاقة حر. .
المال الذي آخذه منكم إنما هو لتحقيق كرامتي بين الناس؛ فإذا لم أجد لأمتي كرامة فما كرامتي أنا؟! إذاً فهو الآن عندي كعلف الدابة التي تركب. . ولن أكُونها!
والجاه الذي أتمتع به في حكومتكم الدخيلة الغاضبة، إنما هو جاه العبد. . لن يرتفع به إلى أن يكون سيداً مهما كان قربه من سيده؛ لأن السيادة ليست له في نفسه، ولا في اعتبار الناس، ولا في اعتباركم أنتم، فهو جاه مثلث التزييف، وأنا آباه!
ودولاب الأعمال في حكومتكم يدور بحرية وإخلاص منكم ليفني الحرية والإخلاص منا؛ فاشتراكي معكم جريمة لا يغتفرها قلب الوطن ولا حساب الله. . فلن أصبر بعد اليوم على ما أرى من قبيح فعلكم بأمتي ونقضكم المواثيق التي واثقتم بها أنفسكم وتمزيق وطني ذلك التمزيق الذي سيفنيه لو بلغتم مرادكم فيه، وما أنتم ببالغيه)
وبهذا انطلق من وظيفته كما ينطلق الطير من قفص فيه حَبٌّ وماء، ونشيده: الجَوَّ الجَوَّ! ولم يَأْس على الحب والماء لأنهما ليسا الشيء الهامَّ في سعادة قلبه. . .
ثم سار يجاهد ويضرب في الأرض، لا يملك غير وجهه جاهاً، وغيرَ يديه ثروةً، وغير قلبه خزانة.
عبد المنعم محمد خلاف