الرئيسيةبحث

مجلة الرسالة/العدد 214/للأدب والتاريخ

مجلة الرسالة/العدد 214/للأدب والتاريخ

بتاريخ: 09 - 08 - 1937


مصطفى صادق الرافعي

1880 - 1937

للأستاذ محمد سعيد العريان

- 3 -

الرافعي في الوظيفة

في أبريل سنة 1899 عُيّنَ الرافعي كاتباً بمحكمة طلخا الشرعية، بمرتب شهري أربعة جنيهات، وأعانه على الظفر بهذه الوظيفة ما كان لأبيه وأسرته من جاه في المحاكم الشرعية؛ وما كان الرافعي ليجهل جاه أبيه وأسرته في هذه المحاكم، وما كان منكوراً لديه أن لهم يداً على كل قاض في القضاء الشرعي؛ فنشأ بذلك نشأة الدلال في وظيفته، لا يراها إلا ضريبة على الحكومة تؤديها إليه عَمِل أو لم يعمل، لمكانة أسرته من النفوذ والرأي، ولمكانته هو أيضاً. . . ألم يكن يرشح نفسه ليكون أديب هذه الأمة؟ هكذا كان يرى نفسه من أول يوم، وظل كذلك يرى نفسه لآخر يوم. . .

وكانت إقامته بطنطا في هذه الحقبة؛ فمنها مغداه وإليها مراحه في كل يوم، يتأبط حقيبة فيها غداؤه وفيها كتابه، وما كان أحد ليستطيع أن يلفته إلى ضرورة التبكير إن جاء في الضحى، أو يسأله الانتظار إذا دنا ميعاد القطار ولم يفرغ من عمله.

لم يكن يرى الوظيفة إلا شيئاً يعينه على العيش، ليفرغ إلى نفسه ويُعِدّها لما تهيأت له، فما انقطع عن المطالعة والدرس يوماً واحداً، وما كان أكثر ما كان ينقطع عن وظيفته.

وقضى الرافعي في طلخا زمناً ما، ثم نقل إلى محكمة إيتاي البارود الشرعية، ثم إلى طنطا؛ وفي طنطا انتقل من المحكمة الشرعية إلى المحكمة الأهلية بعد سنين، لأنه رأى المجال في المحاكم الأهلية أوسع وأرحب، والعملَ فيها أيسر جهداً وأكثر مالاً وأملاً؛ وظل في محكمة طنطا الأهلية إلى يومه الأخير.

وحياة الرافعي في طلخا وإيتاي البارود وطنطا لا تخلو من طرائف، وتاريخه في الوظيفة حافل بالصور والمشاهد التي كان لها أثرها من بعد في حياته الأدبية؛ ففي طلخا عرف الكاظمي شاعر العراق الكبير واتصل به وانعقدت بينهما أواصر الود على ما سيأتي تفصيله؛ وفي إيتاي البارود تفتحت زهرة شبابه للحب وتعطشت نفسه إلى لذاته، وعلى (جسر كفر الزيات) فيما بين إيتاي البارود وطنطا مسته شعلة الحب المقدسة فكشفت عن عينيه الغطاء ليرى ويحس ويشعر ويكون (شاعر الحس) من بعد؛ وفي طنطا كان نضجه وتمامه وإيناع ثمره.

وما أستطيع أن أصف بتفصيل واضح كيف كان يعيش الرافعي في تلك الأيام البعيدة، ولا كيف كانت صلته بالناس، ولا كيف تفاعلت حوادث أيامه باحساسات الشباب التي كانت تجيش بها نفسه الثائرة؛ ولكني أعرف شيئاً واحداً هو كل ما يهمني إثباته في هذا البحث، هو أن روحا رفافة كانت تطيف به في تلك الأيام فتنتزعه من وجوده الذي يعيش فيه لتحلق به في أجواء بعيدة وتكشف له عن آفاق مجهولة لم يسمع بها ولم يعرفها فتوحي إليه الشعور بالقلق وألم الحرمان والإحساس بالوحدة، فلا يجد متنفساً ينفس به عن نفسه غير الشعر، وكان ذلك أول أمره في الأدب وإليه كان آخر ما يمتد أمله، فما كانت له أمنية إلا أن يكون شاعراً، شاعراً وحسب.

لم يتعلم الرافعي الحب مما يسمع في مجالس الشبان، كما يتعلم أبناء هذا الجيل من أكاذيب المنى التي يتداولونها في مجالسهم فيتعلمون الحبَّ منها فنّاً له قواعد مرسومة وغاية محتومة. . . لكنه استمع إلى وحي الحب أول ما استمع في همسات روحه، وخلجات وجدانه، وخفقات قلبه، وانفعال أعصابه؛ إلى ما كان للحب في نفسه من صورة مشرقة شائقة مما قرأ من أخبار العذريين من شباب العرب؛ فأحس كأن شيئا ينقصه، فراح يفتقده وشعر كأن إنسانة من وراء الغيب تناديه وتهتف باسمه في خلوة نفسه وجلوة خاطره تقول: ها أنا ذي. . . فهام بالحسن ينشده شعره وينشد فيه مثاله الذي يدور عليه، وطار على وجهه كالفراشة الحائمة تقول لكل زهرة: أأنت التي. . . فلا يستمع إلى جواب وإن الصوت البعيد لدائب يهتف في أذنيه: إنني هنا، إنني هنا يا حبيبي فاقصد إلي. . .

لم يكن يحب إنسانة بعينها يناديها باسمها ويعرفها بصفتها، بل كانت محبوبته شيئاً في نفسه وصورةً من صنع أحلامه، يرى في كل وجه فاتنٍ لمحةً من جمالها، وفي كل طلعةٍ مشرقة بريقا من فتنتها، وفي كل نظرة أو ابتسامة معنى من معاني الحبيبة النائمة في قلبه وفي أمانيه. . . فمضى يتنقّل من زهرة إلى زهرة، عفيف النظر والشفة واللسان، حتى انتهى أمره إلى أمر. . .

لم ينس الرافعي إلى آخر يوم من حياته ما كان من شأنه وشأن قلبه في صدر حياته، فكان دائم الحديث عن هذا العهد كلما رفَّت به سانحةٌ من سوانح الماضي تذكره ما كان من أمره وما آل إليه أمره.

ليس قصدي الآن أن أتحدث عن الحب في تاريخ الرافعي، فإن للحب في تاريخه فصلاً ضافي الذيول كثير الألوان متعددّ الصور له مكانة المفرد من هذا البحث في غير هذا الباب. ولكني أتحدث عن الرافعي في بكرة الشباب فما لي من مندوحة عن الإلمام بما كان يصطرع في نفس الرافعي في بكرة الشباب.

عاش الرافعي لفنه ولنفسه من أول يوم، فما عاقته الوظيفة عن أن يكون كما أراد أن يكون؛ على أنه كان إلى اهتمامه بفنه وعنايته بما يكمله، وعلى أنه كان لا يرضى أن تتعبده قوانين الوظيفة وتقيده أغلالُ النظام الحكومي - كان إلى ذلك دقيقاً في عمله الرسمي دقة تبلغ الغاية. وكان إليه تقدير رسوم القضايا والعقود ونحوها مما يتصل بعمل المحكمة؛ فكان كاتباً حاسباً لا يفوته شيء مما يسند إليه، حتى آل أمره من بعد إلى أن يكون المرجع في هذا العمل لكتاب المحكمة جميعاً، يستفتونه فيما أشكل عليهم من الأمر في تقدير الرسوم؛ ثم لكثير من كتاب المحاكم في مختلف البلاد، ثم لوزارة الحقانية نفسها وهي المرجع الأخير، تكتب إليه في زاوية مكتبة من محكمة طنطا تسأله الرأي في حسبة أو إشكال أو شيء مما يتصل بذاك، فيكتب إليها بالرأي لتبلغه في منشور عام إلى كل المحاكم الأهلية.

وكان عليه العبء من هذه الناحية في محكمة طنطا، وقد طلب أكثر من مرة أن يحال إلى المعاش ليتفرغ لفنه، فما كان يمنعه من المضي في طلبه إلا ذعر سائر موظفي المحكمة وإلحاحهم عليه أن يبقى لئلا يخلو موضعه.

وكان في صلته بموظفي المحكمة الذين يشركونه في عمله نبيلاً كريم الخلق إلى حد بعيد، فكان يتطوع ليحمل عنهم تبعة كل خطأ يقع فيه واحد منهم مهما كان مدى الخطأ ونتيجته؛ وقد رأيته مرة في صيف سنة 1934 وقد لزمه مفتش من مفتشي الحقانية ثلاثة أشهر أو أكثر، يستجوبه عن خطأ في تقدير الرسوم لأكثر من مائة وعشرين قضية، بلغ النقص في الرسوم المتحصلة عنها بضعة وتسعين جنيهاً؛ والرافعي يرد المفتش ويدافعه ويرى له الرأي ويصف له العلاج، والمفتش دائب الحضور كل يوم يبحث ويفتش ويستقصي وما ضاقت به أخلاق الرافعي؛ على حين لم يكن على الرافعي في هذه القضايا المائة والعشرين خطأ واحد، وما كانت إلا من أخطاء زملائه في المكتب حمل عنهم تبعتها حتى لا يتعرضوا لشرَّ هو أقدر منهم على الخلاص منهم.

وكان من اعتداده بنفسه وحفاظه على كرامته بحيث لا يسمح لرئيس مهما علا منصبه وارتفع مكانه أن يجحد منزلته أو ينال منه أيَّ نيل؛ وكان يفرط في ذلك إفراطاً يدعو إلى الشك أحياناً في تواضع الرافعي وكرم خلقه وحسن تصرفه.

ومن ذلك أنه لما كان هذا المفتش يؤدي عمله في المحكمة - وكان عمله التحقيق مع الرافعي - كان الرافعي يُلزم المفتش أحياناً أن يحضر هو إلى مكتب الرافعي في حجرته الغاصة بالموظفين ليسأله وهو جالس إلى مكتبه والمفتش على كرسيه إلى الطرف الثاني من المكتب. وكنت إحدى هذه المرات جالساً إلى جانب الرافعي - وكان يستدنيني ويشركني في عمله حين أذهب لزيارته في الديوان - فلما جاء المفتش هممت بالانصراف، فشد الرافعي ذراعي بعنف وهو يقول: (اجلس يا أخي. . .) ووجه إليه المفتش سؤالاً، فالتفت الرافعي إليَّ قائلاً: (فَهَّمه من فضلك يا شيخ سعيد أحْسن مُش قادر أفَهَّمه. . .) ثم ألتفت إلى المفتش قائلاً وهو يشير إليّ: (حضرته مدرس، يقدر يخلَّيك تفهم. .!)

لم يكن اعتداد الرافعي بنفسه يبلغ به إلى مثل هذا الشذوذ في كل أحواله، وإنما كان كذلك مع هذا المفتش بخاصته، لأنه كان يعتقد أنه يرمي إلى إحراجه والتضييق عليه لقضايا مدنية كانت بين الرافعي وبين أصهار هذا المفتش ولم يقبل فيها الرافعي شفاعته.

وكان من تقاليد المحكمة كلما نقل إليها قاض أو نائب جديد، أن يهرع إلى مكتبه موظفو المحكمة يهنئونه ويتمنون له؛ فما أكثر ما كان يتخلف الرافعي عن وفد الموظفين، ويظل وحده في مكتبه؛ فإذا فرغ القاضي أو النائب من استقبالهم، مضى إلى مكتب الرافعي في حجرته، فينهض الرافعي لاستقباله، فيقفان لحظة يتبادلان الشكر والتهنئة على هذا الاتفاق الذي هيأ لهما هذا التعارف. . . ثم يذهب إليه الرافعي بعد ذلك في مكتبه ليشكر له ويكرر التهنئة.

حتى مدير المديرية - ومحكمة طنطا هي جزء من ديوان المديرية - لم تكن صلته بالرافعي صلة المدير الحاكم بموظف صغير فكانت بينه وبين أكثرهم صلات من الود والصداقة فوق ما يعرف من الصلات بين الموظفين؛ ولكن منهم رجلاً واحداً كان أقرب قرابة إلى الرافعي من أهله ومن خاصته ومن. . ومن تلامذته هو صاحب السعادة محمد محب باشا أقدر مدير عرفته مديرية الغربية منذ كانت مديرية؛ وكان للصلة بين الرافعي ومحب باشا أثر كبير في أدبه سنتحدث عنه فيما بعد

لم يكن للرافعي ميعاد محدود يذهب فيه إلى مكتبه أو يغادره، فأحياناً كان يذهب في التاسعة أو في العاشرة، أو فيما بين ذلك، فلا يجلس إلى مكتبه إلا ريثما يتم ما أمامه من عمل على الوجه الذي يرضيه، ثم يخرج فيدور على حاجته، فيجلس في هذا المتجر وقتاً ما، وعند هذا الصديق وقتاً آخر، ثم يعود إلى مكتبه قبيل ميعاد الانصراف لينظر فيما أجتمع عليه من العمل في غيبته، وقد لا يعود. . .

وكان هذا منه يغضب زملاءه في العمل، فكانوا ينفسون عليه ويأكلون لحمه، ويبلغه عنهم ما يتحدثون به فيهز كتفيه ويسكت، ثم لا يمنعه ذلك من بعد أن يأخذ بيدهم عند الأزمة؛ وكان كتبة المحامين وأصحاب المصالح في المحكمة يسمونه بذلك عمدة المحكمة. . .!

وحدث مرة أن جاء إلى محكمة طنطا رئيس شديد الحول، فلما صعد إليه موظفو المحكمة للتهنئة، لم يجد بينهم الرافعي، فلما سأل عنه تحدث الموظفون في شأنه ما تحدثو؛ فاستاء الرئيس وأرسل يدعوه إليه، فلم يجده الرسول في مكتبه، فغضب الرئيس وثارت ثائرته، وأمر باستجوابه عن الاستهانة بنظام المحكمة ومواعيد العمل الرسمي؛ وجاء الرافعي فبلغه ما كان، فهز منكبه وجلس إلى مكتبه يمزح ويتحدث على عادته كأن لم يحدث شيء؛ ورفع الرئيس كتابه إلى وزارة الحقانية، يبلغها أن في محكمة طنطا كاتباً أطرش، لا يحسن التفاهم مع أصحاب المصالح على شدة اتصال عمله بمصالح الجمهور، وهو مع ذلك كثير التهاون بنظام المحكمة ومواعيد العمل ولا يخضع للرأي. . . وطلب الرئيس في آخر كتابه إقالة الرافعي من الخدمة. . .

وأرسلت وزارة الحقانية مفتشها لتحقيق هذه الشكوى، وليرى رأيه فيما طلبته محكمة طنطا؛ وكان المفتش المندوب لذلك هو الشاعر اللبق الظريف المرحوم حفني ناصف بك. ولم تكن بين الرافعي وحفني ناصف صلة ما إلى هذا الوقت، إلا ذلك النسب البعيد الذي يجمع بينهما في أسرة أبو لّون. . . وإلا. . . وإلا تلك الكلمة القاسية التي كتبها الرافعي بأسلوبه اللاذع عن (شعراء العصر) سنة 1905 ونشرها في مجلة الثريا وجعل فيها حفني ناصف ذيّل الشعراء. . .

وجاء حفني ناصف إلى الرافعي فحيا وجلس، وبسط أوراقه ليحقق. . . وقال الرافعي: قل لهم في الوزارة: إن كانت وظيفتي هنا للعمل، فليؤاخذوني بالتقصير والخطأ فيما يُسند إليّ من عمل؛ وإن كانت الوظيفة: تعال في الساعة الثامنة، واجلس على الكرسي كأنك مشدود إليه بحبل - فلا عليّ إن تمردت على هذا التعبد. . قل لهم في الوزارة: إنكم لا تملكون من الرافعي إلا هذين الإصبعين ساعات من النهار. . .!

واستمع الأديب الشاعر إلى حجة الأديب الشاعر، ثم طوى أوراقه، وحيا صاحبه ومضى، فلما كان في خلوته، كتب تقريره إلى وزارة الحقانية يقول:

إن الرافعي ليس من طبقة الموظفين الذين تعنيهم الوزارة بهذه القيود. . . إن للرافعي حقاً على الأمة أن يعيش في أمن ودعة وحرية. . . إن فيه قناعة ورضى، وما كان هذا مكانه ولا موضعه لو لم يسكن إليه. دعوه يعيش كما يشتهي أن يعيش، واتركوه يعمل ويفتنّ ويبدع لهذه الأمة في آدابها ما يشاء أن يبدع، وإلا فاكفلوا له العيش الرخيّ في غير هذا المكان. .!

وبلغ التقرير وزارة الحقانية، وانطوت القضية، وصار تقليداً من تقاليد المحكمة من بعد أن يغدو الرافعي ويروح لا سلطان لأحد عليه، وله الخيرة في أمره؛ ولكنه مع ذلك لم يهمل في واجبه قط، ولم ينس يوماً واحداً أنه في موضعه ذاك بحيث يرتبط به كثير من مصالح الجمهور.

قلت: إن الرافعي لم تكن بينه وبين حفني ناصف صلة ما. ولكن حفني تولى القضاء بعد ذلك مرة أو مرتين في محكمة طنطا فتقاربا وتوثقت بينهما أواصر الود؛ وكانت طنطا في ذلك الوقت حلبة من حلبت الشعر والأدب؛ فلا يمضي أسبوع حتى يقدم إليها أديب أو شاعر لزيارة الشاعرين: حفني والرافعي، فيقوم للشعر سوق ومهرجان. وكان بين الرافعي وحفني من التقارب في الصفات ما يؤكد هذه الصلة ويوثق هذا الود؛ فكلاهما شاعر، وكلاهما من دعاة القديم، وكلاهما أديب مرح يجيد الدعابة ويستجيد النكتة البكر، وإن كانت فكاهة حفني أظهر وأبعث على الضحك وتكشف عن فراغ القلب، وفكاهة الرافعي أعمق وأدل على قصد العبث والسخرية وامتلاء النفس. ولعل روح الفكاهة في الرافعي كان لها شأنها فيما كان بينها وبين المرحوم حافظ إبراهيم بك من صلة الود والإخاء.

حدثني الأستاذ الأديب جورج إبراهيم - صديق الرافعي وصفيُّه منذ حداثته - قال: لقد كانت الصلة بين الرافعي وحفني أكثر مما يكون بين الأصدقاء، وكانا يتزاوران كثيراً، أو يجتمعان في قهوة (اللوفر) بميدان الساعة، وكنت أغشى مجلسهما أحياناً. . . فكنت أرى حفني يتواضع للرافعي ويتصاغر في مجلسه، على مقدار ما يتشامخ الرافعي ويتكبر ويدعي الأستاذية، حتى ليرى له الرأي في القضايا التي لم يدرسها حفني بعد، فلا يحكم فيها إلا بما حكم الرافعي!

ظل الرافعي في وظيفته تلك، موزع الجهد بين أعماله الرسمية وأعماله الأدبية وما تقتضيه شئون الأب وشئون رب الدار، على المورد المحدود والبساط الممدود. . . وما زاد مرتب الرافعي الشاعر الكاتب الأديب الذائع الصيت في الشرق والغرب، الموظف الصغير في محكمة طنطا الكلية الأهلية، على بضعة وعشرين جنيهاً في الدرجة السادسة، بعد خدمة ثمان وثلاثين سنة في وظائف الحكومة. . .

على أن الرافعي كان له مرتب آخر من عمله في المحكمة، وهو ثمن ما كان يبيع من كُتبه للموظفين والمحامين وأصحاب القضايا الذين يقصدون إليه في مكتبه لعمل رسمي؛ فما كان أحد منهم يستطيع أن يظفر برضا الرافعي فيقضي له حاجته، حتى يبيعه كتاباً من كتبه. وكانت ضريبة فرضها الرافعي من طريق الحق الذي يدعيه كل شاعر على الناس!

ليت شعري أكان على الرافعي ملام أو معتبة أن يفعل ذاك. .؟ لنا الله أيها الأدباء في هذه الأمة التي لا تحفظ الجميل!

(لها بقية)

(طنطا)

محمد سعيد العريان