مجلة الرسالة/العدد 212/تتويج رعمسيس الثاني
→ إلى سدَّة المليك الشاب | مجلة الرسالة - العدد 212 تتويج رعمسيس الثاني [[مؤلف:|]] |
إبراهيم باشا ← |
بتاريخ: 26 - 07 - 1937 |
فرعون مصر الشاب
للأستاذ عبد الرحمن صدقي
كانت وفاة الملك سيتي الأول والد رعمسيس فجيعة للبلاد جزعت لها ولبست من أدناها لأقصاها ثياب الحداد. وقد قضى نحبه في عنفوان العمر واكتمال الرجولة بعد حكم مجيد زاهر. فامتد سلطانه واتسعت رقعة ملكه شمالا حتى دانت له الشام كلها، وبلغ حدود الحثيين في آسيا الصغرى وممالك بابل وأشور إلى أعالي الفرات، واستتب له الأمر جنوباً في النوبة، وضرب على أيدي قبائل البدو في الصحراء الغربية فكف عن الوادي الخصيب غاراتهم المتكررة. ثم جعل همه إلى صلاح البلاد وعمرانها؛ وأمامنا حتى اليوم على علو همته شهود ناهضة ناطقة، منها ضريحه الرائع ومعبد العرابة وبهو الكرنك الشاهق مرفوع السمك على عُمُده الفخمة وقد ازدانت جوانبها بتهاويل منقوشة تمثل انتصاراته وتروي وقائعه تخليداً لعظمته ومجده.
ولكن كان العزاء عن فقده ما يبدو من المخايل على ولده وإن كان بعد في سن الحلم.
فانظر إلى المليك الشاب من ذا الذي لا يعنو لفتنة طلعته! فأنه ليروعك أول ما يروعك - بالقامة الفارعة وجمال الوجه واستواء الخلق، وهو ممشوق لطيف الأوصال لدن الأعطاف حلو الشمائل، ومع ما يلحظه المتأمل في ملامحه من القوة والتفاوت كضيق الجبين وقنى الأنف ومتانة الفك وشدة الذقن فإن هذه جميعاً تكسوها سماحة ودماثة. كما أنه ليس من ذوي الطبائع الحزينة المسترسلة في سبحات التفكير الهائمة في أودية الأحلام، وإن كانت له سيماؤها لفرط ما صقلته التربية وهذبت حواشيه، وإنما طبعه الغالب هو الإقدام والعزيمة يعمران هذا الجسد الذي ارتاض على المشقة والجهد من سباق العجلات إلى الرماية والصيد فضلا عن المعارك الحربية، فتوفرت له منها مزايا سرعة الحركة ورباطة الجأش والاستخفاف بالخطر. وشد ما كانت تستجيشه أوصاف الشعراء لوقائع أسلافه. ثم هو يحس منذ نعومة أظفاره بأنه مولود للرياسة الملك. وكان يطيب له أن يستذكر المراسم التي هيأته لوراثة السلطان، فيذكر شعائر التطهير وكيف ضمه والده إلى صدره على مشهد من كبراء الدولة ورجال القصر لتسري إليه نفحات الحياة، ثم نادى به ملكا من بعده في وسط الهتاف المتصاعد والمديح المرتل.
ولقد كانت التقاليد الدينية والسياسية حافزاً للفراعنة على رعاية مملكتهم بهمة وصدق، فهم على العرش خلفاء الآلهة، وهم مسئولون عما يفعلون بين يدي أوزيريس في يوم الحساب. فلا جرم يكونون في مقدمة خدام الدولة الساهرين على تدبير شئون مصر وممتلكاتها وتفقد أحوالها. وإن رمسيس لم يكد يشب عن طوقه، ويتجاوز طور الطفولة حتى تولاه أبوه يدربه ويخرجه على يديه. فصحب الابن أباه في حرب الشام، وكان يعاونه في الحفلات الدينية ويطلع على كافة شئون الملك وتدبير إدارته. فهو لما توكله إليه الآلهة اليوم من واجبات وتبعات غير هياب.
ولقد انقطع بين عشية وضحاها عهده بالصبا الغرير حين اجتز حلاق القصر طرته المتهدلة على صدغه الأيمن شارة عليه. وعما قريب تضاف إلى قدرته الإنسانية على عظمتها قوى الهيبة تنتقل إليه مع شعائر الملك. وهذي رعاياه كبيرة الأمل كشأنها في مستهل كل عهد بأنه وإن كان الأخير زمانه لآت بما لم تستطعه الأوائل.
ولقد جرت العادة منذ ألفي سنة بأن تجري مراسم التتويج في منف عاصمة الوجه البحري بمقتضى احتفال مقرر منذ أقدم عصور المملكة المصرية المتحدة. ولكن فراعنة الدولة الحديثة قد آثروا أن يكون تتويجهم في طيبة عاصمة الصعيد وهو منشؤهم ومنبت أعراقهم تحت رعاية الإله آمون. فلما جاء رعمسيس عاود السنة القديمة لأن أسرته من الدلتا ولأنه فوق ذلك موقن بأن الوجه البحري يرتفع كل يوم شأنه ويعظم خطره من الناحيتين الحربية والاقتصادية.
وهكذا استهلت أعياد تتويج رعمسيس في منف بعد الفيضان. ومنف مدينة عريقة في القدم واقعة فيما يلي ملتقى فرعي الدلتا وهي عامرة بالأهلين تطوقها خمائل النخيل الباسقة، وتقوم في أفقها الغربي مثلثات الأهرام، وتسطع شمسها المتجددة على الحقول فتشيع في فلاحيها النشاط والطرب كما تهب من ناحية بحر الروم نفحة باردة تنعش الأبدان.
ولما كان المصريون الأقدمون يؤمنون بأن الاسم - سيان المنطوق والمكتوب - يقوم مقام المسمى وله قوة رهيبة تخلق الأحياء والأشياء، فقد عكف الكهان على اختيار الأسماء الملكية الأربعة ليكمل بها اسم الملك. وتم بسرها لرعمسيس سلطة الملوك وجبروت الأرباب.
ثم تعاقبت المراسم تنقل للملك الجديد القوى السحرية المقترنة بتاجي مصر. فترى الملك بعد التطهر يتلقى على هذه المنصة التاج الأبيض شعار الوجه القبلي، وعلى منصة أخرى التاج الأحمر شعار الوجه البحري، ويسمون هاتين الحفلتين إشراق ملك الجنوب وإشراق ملك الشمال. ويقوم بالتتويج كاهنان مقنعان يمثل أحدهما الإله حوريس في صورة صقر، والآخر الإله ست في صورة سلوقي. ثم يتوج الملك بالتاج التؤام للوجهين القبلي والبحري معا، ويجلس على العرش وعلى جانبيه إله الجنوب وإله الشمال وقد وضع الكاهنان إلى دعامة العرش أزهار اللوتس وهو نبات جنوبي، والبردي وهو نبات شمالي، وربطا النباتين بعضهما إلى البعض بأربطة متقاطعة. وهما مع هذا لا ينفكان يشدان فضول الأربطة بيديهما ويسندان برجليهما عراها حرصاً على توثيقها؛ وأخيراً ينهض الملك والتاج على رأسه وهو متشح بالطيلسان وفي يديه المحجن المعقوف وسوط أوزيريس ويؤدي فريضة (الطواف بالحائط) حول المحراب إشارة إلى أنه يتسلم ملك حوريس وست ويتكفل بصيانته ودفع العدوان عنه.
ولم يبق بعد ذلك إلا اتخاذ الضمانات الرسمية. فإن الآلهة تتخذ سجلات مستوفاة تحصي فيها كل شيء تجنباً للملاحاة والخلاف. وهذان كاهنان يمثل أحدهما إله العلم تحوت، ويمثل الآخر إله الكتابة سخت، يحرران الصكوك بالصيغة الملكية ويودعانها ديوان السماء. وأخيراً يدونان اسم رعمسيس على ورقة من نبات السبط المقدس تخليداً لحكمه.
ولقد كان لتراتيل الكهنة في وسط السكون الرهيب فعل الرقى والتعازيم السحرية في نفس رعمسيس، فضلا عما كانت مصحوبة به من الحركات الموزونة والوقفات النبيلة والإشارات الملتوية في ترسل ويسر. فامتلأ يقيناً بالرسالة الموكولة إليه وبقدرته على تأديتها وبأن التوفيق ملازمه طيلة حياته. ونهض بعد انتهاء المراسم وقد سرت في أعطافه النفحة الإلهية.
وحكم رعمسيس فرعوناً على مصر.
وقد ذهب بعدها إلى طيبة حيث جرى شبه تتويج ثان له، وكان ثمة عيد الإله (مين) في آخر مارس عقب موسم الحصاد. وعبادة (مين) لها شأنها الأكبر في بلاد مصر الزراعية، فهو إله الخصب وحامي الحقول والبساتين، وهو يقرن أحياناً بآمون إله طيبة الأعظم ورب الأرباب والبشر وأب الفراعنة. وفي هذا العيد قدم الملك إلى (آمون - مين) قربانا من الحصاد في ذلك الأوان
وقد غادر رعمسيس قصره في طيبة كما تطلع الشمس باهرة اللألاء من مشرقها، وشخص إلى هيكل (مين) في محفته الفاخرة يحملها ويحمل المراوح إلى جانبيها عظماء الدولة، ويتقدم المحفة الملكية كاهنان يمسكان مجامر البخور، وكاهن آخر يرتل الأناشيد وهو ممسك بيده قرطاساً من البردي. وفي طليعة الموكب تعزف الطبول والأبواق عزفها الهاتف الآمر، ويسير وراءه في نظام جليل رائع أكابر رجال القصر تتبعهم فيالق من جنود الحرس البواسل. ولكن الإله (مين) يخرج من محرابه محمولاً على أكتاف ثلاثين كاهناً يصحبه عجل أبيض باعتباره الصورة الحية التي يتجسد فيها، ويتقدمه صف طويل من الكهنة يحملون الشارات الدينية وتماثيل السلف الصالح من الفراعنة الراحلين، ويتقدمون إلى المذبح حيث الملك واقف. وهنا يتعرف الإله مين على ابنه فيدخله في عداد الأرباب كسائر أسلافه. وإنه لحدث عظيم. وإذ ذاك يطلقون طير الإوز في جهات الأفق الأربع لاذعة البشرى في أركان المعمورة كما فعل الإله حوريس نفسه عند تتوجيه. ويجري الاحتفال ويتم في وقار ودقة على حسب الأصول المرعية. وفي النهاية يقدم الملك القرابين لتماثيل أسلافه ويقتطع بمنجل قصير جرزة مصطنعة فيقدمها للآلهة باعتبارها باكورة الحصاد في عهده
ويعود فرعون إلى القصر، فيقبل عليه رجال البلاط ووزيره باسار وجميع الموظفين يحيون مليكهم وينشدون في مديحه: -
أقبل عليّ بوجهك أيها الشمس المشرقة
يا من تضيء القطرين بسنا جمالك
أنت شمس الورى
تنفي عن مصر الظلمات
ولك طلعة أبيك رع
الصاعد في معارج السماء وإليك يوحي بكل ما يجري في بلدان الأرض
وأنت راقد في قصرك
وإنك لتسمع ما يدور في الخافقين من أحاديث
لأن لك الألوف من الأسماع
وعينك أنفذ من نجوم السماء
وتبصر ما لا تبصره الشمس
وكل ما يقال ولو كان همساً ونجوى
يقع لا محالة في سمعك.
وكل ما يفعله امرؤ في الخفاء
فإن عينك تراه.
يا رعمسيس يا رب الجمال ورب الحياة!
وكذا كانت أعياد التتويج عند قدماء المصريين تمتزج فيها عبادة فرعون بعبادة الآلهة لاعتبارهم أن الملك العظيم هو حمى الدولة وحمى الدين.
عبد الرحمن صدقي