الرئيسيةبحث

مجلة الرسالة/العدد 212/تاج مصر

مجلة الرسالة/العدد 212/تاج مصر

بتاريخ: 26 - 07 - 1937


من (مينا) إلى فاروق

للأستاذ عباس محمود العقاد

اسم الملك في مصر القديمة دليل على عراقة النظام الملكي فيها، لأنه دليل الرسوخ والتوطد والعمران المستفيض على حين يعرف الملك في البلدان الأخرى بأسماء قريبة من البداوة أو من حالة البداية الفطرية.

فالملك في اللغات اللاتينية مأخوذ من كلمة الراجا الهندية وهي في الأصل بمعنى الربان.

والملك في اللغات السكسونية مأخوذ من كلمة جناكا الهندية وهي بمعنى الوالد، ولعلها كما يرى بعض الباحثين في اللغات القديمة قريبة من كلمة الخان وما إليها.

والملك في العربية وأخواتها بمعنى الاستيلاء، والأمارة بمعنى الأمر، وكلاهما يتحقق لأصغر الحاكمين ولو كانوا من رؤساء العشائر، لأن المرجع فيهما إلى الرآسة حيثما كان رئيس ومرؤوسون.

أما (بارو) أو فرعون كما نعرفها الآن فمعناها (الباب الكبير) أو (الباب العالي) وهو الاسم الذي كان المصريون الأقدمون يعرفون به ملك البلاد، وتسمية الملك به دليل على (تطور) الحكم عندهم من حالة الأبوة أو الزعامة البدائية أو الرآسة المستمدة من أواصر القرابة إلى حالة السياسة وتدبير العمران وقيام الدواوين ومراسم السلطان.

كذلك كان المصريون يعرفون التيجان ومعانيها السياسية إذ كان لا يتجاوزون عهد العصابة أو عهد الإكليل من النسيج والزهر، ثم من المعادن والجواهر، فكان لملك الوجه البحري تاجه وشعاره، وكان لملك الوجه القبلي تاجه وشعاره، ثم اتحد الوجهان فاتحد الشعاران؛ وظل الملوك حينا يلبسون هذا أو يلبسون ذاك للدلالة على الحقوق السياسية التي تناط بكل تاج وكل شعار.

وعراقة النظام الملكي معقولة طبيعة في بلاد كالبلاد المصرية تحتاج إلى نظام واحد في الرأي ونظام واحد في الحكومة، ويد واحدة تشرف على سقيها وتدبير معيشتها؛ ويساعد على استقرار (النظام) فيها أن أمورها كلها مستقرة تجري على مثال واحد قليل التغيير والتبديل.

قال الأستاذ ألفرد فيدمان الألماني في كتابه (ديانة قدماء المصريين): (إن الهيمنة على جداول الأرض كانت بطبيعتها أقرب إلى التركيز والتوحيد من سائر المرافق الأخرى. إذ لا يتأتى تنظيم الري في مصر على نحو مضمون مكفول بغير هيمنة واحدة تمنع الأفراد أن يجوروا على المصلحة القومية في سبيل المنافع الفردية)

وتناول الأستاذ اليوت سميث هذا الرأي فشرحه وفصله في كتابه (التاريخ الإنساني) وأيد فيه ما سبقه إليه العالم الألماني من تعليل عبادة الملوك في مصر القديمة، إذ كان المالك عندهم لزمام النيل ومقادير الماء مالكا في ظنهم لمصادر الحياة، خليقاً أن يحاط بمظاهر من التعظيم ومناسك من التقديس لا يحاط بها الإنسان، ولا تكون لغير الأرباب.

ويزكي هذا الرأي أن (مينا) رأس الملوك الذين وحدوا البلاد وجمعوا بين حكم الوجهين إنما كان في معظم أعماله مهندساً يسوس الماء ويدري من ثم كيف يسوس البلاد، وإليه ينسب المؤرخون الأولون تحويل مجرى النيل وإقامة في أقاليم منف والفيوم.

ثم جاء عهد الحضارة العربية وهي الحضارة الثانية التي بقي لها بعد الحضارة الفرعونية أخلد الآثار في تكوين الشعائر وتقرير نظام الحكومة بين المصريين.

والفرق بين مظاهر الملك فيها ومظاهر الملك في الحضارة الفرعونية هو الفرق بين حاكم يقول: إنه (عبد الله) وحاكم يقول ويقال له: إنه هو الإله وسيد الخلق والأمر وباعث الخير من الأرض والسماء.

فليس للملك العربي (تاج) ولا يحب الملوك العرب أن يتشبهوا بالأعاجم في هذه المراسم. مدح عبد الله بن قيس الخليفة عبد الملك بن مروان بقصيدة من جيد شعره فيها.

إن الأغر الذي أبوه أبو العا ... صي عليه الوقار والحجب

خليفة الله فوق منبره ... جفت بذاك الأقلام والكتب

يعتدل التاج فوق مفرقه ... على جبين كأنه الذهب

فقال له عبد الملك: يا ابن قيس! تمدحني بالتاج كأني من العجم وتقول في مصعب (ابن الزبير):

إنما مصعب شهاب من الل ... هـ تجلت عن وجهه الظلماء

ملكه ملك عزة ليس فيه ... جبروت وليس فيه رياء أما الأمان فقد سبق لك، ولكن والله لا تأخذ مع المسلمين عطاء أبداً. . . هذا وعبد الملك بن مروان كان من ملوك العرب الذين أكثروا من اقتباس الأزياء والشارات الفارسية، إلا مراسم التيجان التي بغضتها إليه النعرة العربية كما بغضتها إليه موجدته علي ابن الزبير ومن مدحوه وجنحوا إليه!

وأيا كان سر الإنكار في نفس عبد الملك فقد ظل الملوك المسلمون يؤثرون العمامة على التاج ويتخذون آثار النبي عليه السلام - ومنها البردة والخاتم - شعاراً للخلافة أعز عندهم وعند الرعية من كل شعار.

ثم جاء خلفاء الترك فاختاروا العمامة على التزين والترصيع، حتى لبسوا الطربوش وميزوه على سائر الطرابيش بحلية من حلي التجميل، كراهة منهم أن يتخذوا التاج ويتشبهوا بالملوك الأوربيين

أما ملوك مصر فقد لبثوا يتخذون الآثار النبوية شعاراً للخلافة حتى زالت عنهم هذه الآثار فعوضوها بما يشبهها، ثم جروا على سنة الولاة العثمانيين حين دخلت مصر في حوزة الدولة العثمانية.

ثم قامت الأسرة العلوية على أساس الانتخاب والتولية في وقت واحد: فقد أساء الوالي العثماني الحكم فاجتمع العلماء والنقباء بدار المحكمة واستقر رأيهم على اختيار محمد علي الكبير والياً عليهم وإبلاغه ذلك والكتابة إلى الآستانة في هذا المعنى. وانتقلوا إلى دار محمد علي باشا هاتفين: إننا لا نريد هذا الباشا - يعنون خورشيد باشا - والياً علينا. وقال السيد عمر مكرم: (إننا خلعناه من الولاية). . . فقال محمد علي باشا: ومن تريدونه والياً عليكم؟ فقالوا بصوت واحد: إننا لا نرضي إلا بك لما نتوسم فيك من العدالة. قال بعد تردد: إنني لا أستحق هذا المنصب وقد يكون في التعيين مساس بحق السلطان. فعاد العلماء والنقباء يقولون: إن العبرة برضى أهل البلاد وقد أجمعنا على اختيارك.

فقبل محمد علي وألبسه السيد عمر مكرم والشيخ الشرقاوي الكرك والقفطان وهما خلعة الولاية. ولم يمض على ذلك شهران حتى جاء الفرمان من قبل السلطان بإقراره في منصبه وتعزيز ما اختاره الشعب لنفسه، فكانت هذه هي بيعة الشعب المصري لمحمد علي الكبير ولأسرته من بعده وكانت النهضة المصرية وشاء الله لمصر أن تكون ولاية مليكها المحبوب (فاروق الأول) فتحاً جديداً في تاريخها لا مثيل له في جميع هاتيك العصور، وقدوة للاحقين جمعت كل حسن سائغ من الماضي وتنزهت عن كل ما يأباه المليك ويأباه رعاياه:

استقلال الفراعنة بغير شوائب الوثنية، وملك العرب بغير رعاية أجنبية، واختيار الشعب بغير الولاية العثمانية. وقد كانت الدولة البريطانية تزعم لنفسها المزاعم في إبان الحرب العظمى، فبطلت هذه المزاعم وقام الملك الفاروق بالأمر بيننا أول ملك خلص لمصر عرشه وخلص له حبها واختيارها. فلا نظير لهذا الملك في عهد الفراعنة ولا في عهد العرب ولا في دولة العثمانيين ولا في دولة الإنجليز. وهنيئاً لمصر هذه البداية، وهنيئاً للفاروق هذه المزية، وهنيئاً للمستقبل ما يرجى له من طوالع هذا الفأل الحسن وهذا البشير السعيد

وإن من الخير لمصر أن يكون تاجها هو التاج الذي اختاره الله للمليك الفاروق الفارق بين جيلين وعصرين:

تاج محسوس بالقلوب مثاله هو شخص المليك المحبوب، ورمز تراه الأفكار قبل أن تراه الأبصار، وطلعة كما قال عبد الله ابن قيس:

. . . شهاب من الل ... هـ تجلت عن وجهه الظلماء

ملكه ملك عزة ليس فيه ... جبروت وليس فيه رياء

عباس محمود العقاد