الرئيسيةبحث

مجلة الرسالة/العدد 207/هكذا قال زرادشت

مجلة الرسالة/العدد 207/هكذا قال زرادشت

مجلة الرسالة - العدد 207
هكذا قال زرادشت
[[مؤلف:|]]
بتاريخ: 21 - 06 - 1937


للفيلسوف الألماني فردريك نيتشه

ترجمة الأستاذ فليكس فارس

نشيد الرقص

ومر زارا بالغاب يوماً ومعه صحبه فاكتشف وهو يفتش عن ينبوع مرجاً منبسطاً بين الأشجار والأدغال، وكان هنالك رهط من الصبايا يرقصن بعيداً عن أعين الرقباء. وإذ لمحن القادم وعرفنه توقفن عن الرقص ولكن زارا اقترب منهن وخاطبهن قائلا.

- داومن على رقصكن، أيتها الآنسات الجميلات، فما القادم بمزعج للفرحين وما هو بعدو للصبايا. أنا من يدافع عن الله أمام الشيطان، وما الشيطان إلا الروح الثقيل فهل يسعني أن أكون عدواً لما فيكن من بهاء ورشاقة وخفة روح؟ وهل لي أن أكون عدواً للرقص الإلهي ترسمه مثل هذه الأقدام الضوامر الرشيقات. . .؟

لا ريب في أنني غابة اشتبكت فيها قاتمات الأشجار وساد الحلك على أرجائها ولكن من يقتحم ظلماتي بلا خوف ليجدن تحت سرواتي الرهيبات طرقاً تحف بجانبيه الورود، وليجدن أيضاً الإله الصغير الذي تشتاقه الصبايا منطرحا بسكون قرب الينبوع وقد أغمض عينيه

لقد نام في وقت الظهيرة، هذا الإله المتراخي، ولعله سعى طويلا ليصطاد من الفراشات عدداً كبيراً. .

لا يكدركن مني أيتها الراقصات الجميلات تأديبي لهذا الإله الصغير، ولعله يصيح ويبكي ولكنه إله يجلب المسرة حتى في بكائه. فلسوف اقتاده إليكن والدموع سائلة على خديه ليطلب إليكن أن ترقصنه، وإذا ما رقص فسأرافقه أنا بإنشادي فما تجيء نغماتي إلا هزيجاً أصفع به الروح الثقيل، روح الشيطان المتعالي الذي يقول الناس إنه يسود العالم

وهذه هي الأغنية التي رفع زارا صوته بها بينما كان (كوبيدون) إله الحب يرقص مع الصبايا الفاتنات:

(لقد حدقت يوماً في عينيك، أيتها الحياة، فحسبتني هويت إلى غور بعيد القرار، غير أن سحبتني بشابك من ذهب وأطلقت قهقهة ساخرة عندما قلت إن غدرك لا قرار له. وأجبتني: - هذا ما تقوله الأسماك جميعها، فهي إذ تعجز عن سبر الأغوار تحسبها لا قرار لها. وهل أنا إلا المتقلبة النفور؟ وهل أنا إلا امرأة، وامرأة لا فضيلة لها. لقد تقول الناس كثيراً عن صفاتي ولكنهم أجمعوا على أنني غير المتناهية، المليئة بالأسرار

أيها الرجال، إنكم ترون في فضائلكم، فأنتم لا قبل لكم بادراك شيء آخر غيرها أيها الفضلاء. . .

هذا ما كانت تقهقه به في سخريتها تلك الحياة، غير أنني لا أثق بها ولا أصدق ضحكها عند ما تهجو نفسها

وناجيت يوماً حكمتي النفورة فقالت لي غاضبة: - إنك تطلب الحياة وتشتاقها وتحبها وذلك ما يحفز بك إلى بذل الثناء عليها

ولولا أنني تمالكت نفسي لكنت رددت بعنف على حكمتي وأعلنت الحقيقة لها وهي تغاضبني وهل من جواب أشد وقعاً على الحكمة من أن تهتك سرائرها

ما أحب شيئا ًمن صميم الفؤاد إلا الحياة، ولا يبلغ حبي لها أشده إلا حين أكرهها. وإذا ما أنا اندفعت إلى الحكمة وأغرقت في الالتجاء أليها فما ذلك إلا لأنها تبالغ بتذكيري بالحياة. فان للحكمة عيني الحياة لها ولها ابتسامتها. بل لها أيضاً شابكها المذهب، فما حيلتي بهما إذا تشابهتا إلى هذا الحد؟

وعندما سألتني الحياة عن الحكمة أجبتها: هي الحكمة يشتهيها الإنسان بكل قوته ولا يشبع منها. فهو يحدق فيها ليتبين وجهها من وراء القناع ويمد أصابعه بين فرجات شباكها متسائلا عن جمالها وما يدريه ما هو هذا الجمال ومع هذا فان أقدم الأسماء لا تنفك عن الانجذاب إلى طعمة شباكها فهي متقلبة شديدة المراس. ولكم رأيتها تعض على شفتها وتسرح شعرها، ولعلها شريرة ومخادعة، بل لعل لها صفات المرأة بأجمعها فهي لا تبلغ أبعد مداها في اجتذاب القلوب إلا عندما تهجو ذاتها. . .

وبعد أن قلت هذا عن الحكمة للحياة، مرت على شفتيها ابتسامة شريرة وغضت من جفنيها قائلة: - عمن تتكلم. . . لعلك تتكلم عني أنا. . . وهل للإنسان أن يعلن مثل هذه الأمور بوجه من تعنيه حتى ولو كان محقاً. فما قولك الآن في حكمتك يا هذا. . .؟ وفتحت الحياة المحبوبة عينيها فحسبتني عدت إلى التدهور في الهاوية البعيدة القرار)

هذا ما يتغنى زارا به وما انتهى الرقص وتوارت الصبايا عن أبصاره حتى تملكه حزن عميق فقال: لقد اختفت الشمس وترطب المرج وقد بدأ الغاب يرسل لفحاته الباردات. أن شيئاً مجهولاً يدور حولي ويحدجني قائلاً: - ألم تزل على قيد الحياة، يا زارا؟ ولماذا أنت حي بعد؟ وما هي فائدة هذه الحياة؟ ما هو مصدرك وإلى أين مصيرك أفليس من الجنون أن تبقى في الحياة؟

ويلاه، أيها الصحاب، أن ما يتناجى فيّ إنما هو الغسق فاغتفروا لي شجوني. لقد جاء المساء فاغتفروا لي قدوم المساء. . .

هكذا تكلم زارا. . . . . .

الكهنة

وتمثل زارا مرور رهط من الكهنة أمامه، فقال لأتباعه: هؤلاء هم الكهنة؛ فعليكم - وإن كانوا أعدائي - أن تمروا أمامهم صامتين وسيوفكم ساكنة في أغمادها فإن بينهم أبطالاً ومنهم من تحملوا شديد العذاب فهم لذلك يريدون أن يعذبوا الآخرين.

إنهم لأعداء خطرون، وما من حقد يوازي ما في اتضاعهم من ضغينة، وقد يتعرض من يهاجمهم إلى تلطيخ نفسه. ولكن بيني وبينهم صلة الدم وأنا أريد أن يبقى دمي مشرفاً حتى في دمائهم.

وعاد زارا يتمثل أنهم مروا وانصرفوا، فشعر بألم شديد قاومه لحظة حتى سكن روعه، فقال: - إنني أشفق على هؤلاء الكهنة، وأنا لا أزال أنفر منهم ولكنني تعودت الإشفاق مرغماً نفوري منذ صحبت بني الإنسان، ومع ذلك فأنا أتألم مع هؤلاء الكهنة لأنهم في نظري سجناء يحملون وسم المنبوذين في العالم، وما كلبهم بالأصفاد إلا من دعوه مخلصاً لهم، وما أصفادهم إلا الوصايا الكاذبة والكلمات الوهمية، فمن لهؤلاء من يخلصهم من مخلصهم. . .

لقد لاحت لهؤلاء الناس جزيرة في البحر على حين ثارت عليهم زوبعة فنزلوا إليها فإذا هم على ظهر تنين نائم على العباب

وهل من تنين أشد خطراً على أبناء الحياة من تنين الوصايا والكلمات الوهمية وقد كمن فيها المقدور طويلاً حتى حان وقت انتباه التنين؟ وهاهو يهب مفترساً جميع من بنوا مساكنهم على ظهره.

انظروا إلى المساكن التي بناها هؤلاء الكهنة، وقد أسموها كنائس وما هي إلا كهوف تنبعث روائح التعفن منها. وهل للروح أن ترتفع إلى مستواها تحت لآلاء هذه الأنوار الكاذبة وفي هذا الجو الكثيف، حيث لا يسود إلا عقيدة تصم الناس بالخطيئة وتأمرهم بصعود درجات الهيكل زحفاً على الركب

أنني لأفضل أن أنظر إلى اللحظات الفاحشة من أن أرى هذه العيون أطبقت أجفانها معلنة خشوعها واستغراقها.

من ذا الذي اخترع هذه الكهوف وهذه الدرجات يرقاها النادمون زاحفين، أهي من إيجاد من استحيوا من صفاء السماء فلجئوا إلى الاستتار؟

لن أعود بقلبي ألج مساكن هذا الإله إلا إذا انثلمت قبابها واخترقتها نور السماء الصافية لتتكشف عن الشقائق الحمراء النابتة على جدرانها المتهدمة.

لقد أراد هؤلاء الكهنة أن يعيشوا كأشلاء أموات فسربلوا جثثهم بالسواد فإذا هم ألقوا مواعظهم انتشرت منها رائحة اللحود.

إن من يجاور هؤلاء الناس فكأنما هو ساكن على ضفة الأنهار السوداء حيث لا يسمع إلا نقيق الضفادع الحزين

ليسمعني هؤلاء الناس نشيداً غير هذا النشيد لأمرن نفسي على الاعتقاد بمخلصهم، إذ لا يلوح لي أن أتباع هذا المخلص قد ظفروا بالخلاص.

لكم أتمنى أن أراهم عراة، وهل لغير الجمال أن يدعو الناس إلى التوبة، ولكنهم عبارة عن فجائع مستترة لا يسعها أن تجتذب إلى الإيمان أحداً.

والحق، أن مخلصي هؤلاء الكهنة أنفسهم لم ينحدروا من سماء الحرية وما وطئوا مسالك المعرفة قط، فما كانت حكمتهم إلا نسيجاً ملأته الخروق رقعوه بما أوجد جنونهم من آلهة. لقد أغرقتهم حكمتهم في بحيرة الإشفاق فهم كلما زفروا فيها أرسلوا بجثة عظمى تطفو على سطحها.

ولقد زعق هؤلاء الرعاة بقطعانهم فمضت متدافعة إلى فجوة واحدة وقد علا صراخها كأن التوصل إلى مخارج المستقبل ممتنع من غير هذه الفجوة الضيقة. أما والحق ما هؤلاء الرعاة إلا فريق من هذه السائمة وقد ضاقت عقولهم ورحبت نفوسهم وسرعان ما تصغر العقول إذا كبرت النفوس.

لقد تركوا على كل معبر اجتازته أرجلهم آثار الدماء، إذ كانوا يستلهمون جنونهم ليعلموا الناس أن الدماء تقوم شاهدة للحق. وقد جهلوا أن أفسد شهادة تقوم للحق إنما هي شهادة الدم، لأن الدم يقطر سماً على أنقى التعاليم فيحولها إلى جنون وإلى أحقاد.

أفتقيمون للحق دليلاً من اقتحام أحد الناس للهب في سبيل تعاليمه. وهل لمثل هذا التعليم ما للعقيدة التي تتولد متقدة من لهبها نفسه؟ إذا ما تلاقى رأس بارد بقلب مضطرم نشأت من التقائهما تلك العاصفة التي يدعوها الناس مخلصاً. ولكم وجد على الأرض من رجل أعرق منشأ وأرفع مقاماً ممن يدعوهم الشعب مخلصين، وما كان هؤلاء المخلصون إلا عاصفات كاسحات تهب متوالية على الأرض

إذا ما كنتم تنشدون سبل الحرية، أيها الاخوة، فعليكم أن تنقذوا أنفسكم حتى ممن يفوقون هؤلاء المخلصين عظمة ومجداً. فان الإنسان الكامل لم يظهر على الأرض بعد. لقد حدقت بأعظم رجل وبأحقر رجل عن كثب وهما عاريان فظهرا لعياني متشابهين، بل رأيت أعظمهما أشد توغلا في المعائب البشرية من الآخرين.

هكذا تكلم زارا. . . . . .