مجلة الرسالة/العدد 207/رسالة الفن
→ هكذا قال زرادشت | مجلة الرسالة - العدد 207 رسالة الفن [[مؤلف:|]] |
البريد الأدبي ← |
بتاريخ: 21 - 06 - 1937 |
في فن التصوير
يقف الإنسان أمام صورة من الصور ويلقي عليها نظرة عارضة عاجلة فيصدر في الحال حكمه عليها أعجب بها أم لم يعجب؟ أنالت من نفسه ارتياحا؟ أسكن وجدانه إليها؟ ولماذا أعجب بها؟ ولماذا لم يعجب؟ وما هي العاطفة الكامنة التي تصدر هذا الحكم بتلك السهو لها أو عليها؟ أهو الذوق؟ وما هو الذوق؟ أهو العقل؟ وعلام يستند العقل؟ هذا ما نحاول شرحه في هذا المقال متوخين الإيجاز في تناول موضوع التصوير بصفة عامة لأنه فن واسع الأفق لا يحيط به مقال واحد ولا كتاب واحد.
ليس التصوير إلا لغة للتغيير وأسلوباً من أساليب الوصف والإفضاء
عن الشعور والعاطفة، فكل مصور درس أصول التصوير وقواعده هو
ككل إنسان تلقن قواعد الكلام وأصول الصرف والنحو ليستطيع
التخاطب بلغة سليمة متآلفة، ولكن على قدر انتشار اللغة سليمة
صحيحة غير مشوبة باللحن لا نجد كل متكلم أديباً ولا شاعراً، فكذلك
ليس كل من تناول ريشة الفن وأتقن مزج الألوان فناناً موفقاً، وكذلك
على قدر التفاوت بين طبقات الأدباء والشعراء يتفاوت الفنانون مقدرة
وعجزاً.
فلغة التصوير على ذلك ليست إلا أداة أو وسيلة لغاية بعيدة يريد المصور أن يبلغها، ونحن إذ ننظر إلى الصورة يجب أن نبحث أولاً عن هذه الغاية - ماذا يريد صانعها أن يقول.
فإذا لم نجد من وراء صورته فكرة أو غاية مفيدة فالصورة لغو لا طائل تحته، إذ لكل صورة قصة يجب أن تقصها وإلا فهي بكماء صماء أو هراء من القول وهذر مخطوط ومضيعة للجهد والوقت بالغة ما بلغت أداة التعبير من إتقان. وأقل ما نلتمسه في صورة من الصور أن نستخرج لها ميزة تميزها وشخصية تتسم بها. هل سجلت شيئاً جديداً كان خافياً علينا؟ أو هل فسرت معنى مجهولاً؟ أو هل مهدت خطوة في سبيل غرض سام؟ أو ه ألقت بصيصاً ولو ضئيلاً من النور على ظلام الحياة؟ أو هل أضافت نغمة ولو خافتة إلى موسيقى الكون؟ إذا التمسنا شيئاً من ذلك ووجدنا له أثراً يشير إليه أو لمسنا صدى له في نفس المصور كان لنا أن نأمل من هذا الفنان شيئاً.
المصور العبقري كالشاعر العبقري كلاهما كالنبي المعجز غرس الله في قلوبهم بذرة الخلود تجمع بينهم رابطة الروح السماوي والنور الإلهي وهم يصدرون عن إيمان صادق ووحي أمين وإن كان لكل وجهة يوليها وعالم يكشفه.
والمصور الصادق قطعة من الحياة تهذبت وتثقفت، يرتاد سبيله ملهماً ببصيرة سماوية وقلب دافق ألا حساس مرهفه، ومهجة فياضة الشعور، ووجدان بالغ الدقة منته في اللطف؛ فهو روح مجرد يطير في كل أفق، ويحوم في كل خميلة، ويرد كل غدير، ويعتلي كل فن، ويدوم فوق كل منظر بهيج فيحيطه بفؤاد خفاق، ويلتهمه بعين حديدة، ويحيله أشعة وظلالا ويحمله روحا بروح تسجله للأبصار في أسلوب ناطق وخفي، ويحده بإطار من شعوره وفيض إحساسه.
فإذا كان هذا قدر المصور الفنان الصادق الأمين. إنسان بالغ النبل نقي الروح زكي النفس عظيم السمو لزم أن يكون أسلوبه الذي يضمنه روحه نبيلاً على قدر نبله سامياً على قدر سموه، ولزم أن تكون موضوعاته التي يختارها لأداء فكرته وحكاية قصته ولشرح عاطفته أو غير ذلك من الأغراض، لزم أن تكون على قدر نبله وسامية على قدر سموه؛ فالفنان الذي يصور البعث أو الوحي أو الصلاة أو الحنان أو الحب أو الأمومة وما يدخل تحت فصل الجمال الروحي أنبل من المصور الذي يصور الحقد والدمامة أو التبذل والوحشية أو الرذيلة للاستمتاع بتصويرها لا للنهي عنها، هذا تدور خواطره على مشاغل الناس اليومية المادية، وذلك لا تتعلق نفسه ولا يحس في قلبه إلا بكل جليل الشأن. ويلي هذين من يعني بتصوير الصغير من الأمور والتافه الحقير كلعب الأطفال وأعمال المهرجين وما إلى ذلك ولا ينبغي أن تضيق هذه الحدود إلى أقصى تخومها فنحكم بمقتضاها حكماً قاطعاً لا نقض فيه، إذ أن الفنان النبيل قد يتناول موضوعاً يقل عن مستوى موضوعاته فيسبغ عليه من روحه ويفضي عليه من قدرته وبراعته، ولكن كثيراً ما يشرئب النقاش الصغير غير الموهوب والمشغول بحقير الأمور إلى تقليد جليلها فلا يبلغ منه مبلغاً ولا يخرج عن الدائرة التي يدور فيها، وينتهي حيث يبتدئ، بل أنه يكشف عن عجزه ويدل على ضعفه ولا يتمخض بعد الجهد الشاق والعناء العنيف عن غير ما تطيقه مؤهلاته وما تنتجه قريحة مثله، ومثل هذا النقاش يحسب غروره وحياً وطمعه عظمة الروح وعلواً في النفس
وشتان بين الاثنين! إحداهما كالنحلة لا يغذيها إلا الرحيق ولا تهيم أو تسعى إلا وراء الشذى الذكي والعبق النقي والعرف الندي، ولا يستهويها إلا الزهر المنور والجو المعطر؛ والآخر كالزنبور الطنان يقع على الأقذار ويستطعم الأدران ويأكل الحشرات والديدان.
والنحلة تنتج رحيقاً من رحيق، والزنبور أذى وشرا. تلك رمز التضحية والغيرية، وهذا عنوان الأنانية والأثرة؛ تلك متواضعة خجولة تعمل في رصانة وسكون، وذلك مدّع مغرور صخاب طنان بهرجت الطبيعة من ألوانه وعددت فيها للنميمة عليه والإيقاع به أو لتفاديه
فلا تستصغرن من النحلة اندماج لونها وهدوئها؛ ولا يغرنك من الزنبور بروزه وطنينه.
وكذلك لا يغرنك من الصورة بهرجة الدعاية لها بل ابحث عن الغاية المجيدة وعن التعبير الصادق الجميل.
كثيراً ما يتفق الناس على أن هذه المرأة جميلة، وأن تلك دميمة، ويكادون لا يختلفون في حكمهم، فما الذي جمع بينهم على رأي واحد؟ قد يحتج بأن هذه هي أذواقهم وهذه أمزجتهم وأنهم يرون أنها جميلة لأن هذا إحساسهم فلا تطلب تعليلا ولا تحليلا، وفي الحق أن المرأة الجميلة تعجبنا لأول ما نراها لأن قلبنا يهفو إلى حسنها، ونفوسنا تصبو إلى جمالها، ولكننا نتفق في النزوع إلى جمالها والصبابة إليها بدافع من الغريزة فالغريزة هي في الواقع التي تؤلف بين الرجال على الإعجاب بجمال المرأة أو هي على الأصح التي كانت منذ الزمن الأول ترغب الرجل في المرأة؛ فلما ارتقى وهذب من غرائزه وتسامى بها عن أن تكون مطلقة الحيوانية تغير إلى حد كبير نظره إلى المرأة فأصبح يجل جمالها لذاتها مجرداً عن دافع الشهوة، وبعدت عن خياله تلك الصور التي كانت تجسمها الغريزة الجنسية وتمثلها الرغبة الحيوانية، فلم نعد نسمع شاعراً يتغنى بثقل الردفين وانقطاع الخصر وكثيب الرمل ولم نعد نسمع قول بشار بن برد:
أو عضة في ذراعها ولها ... فوق ذراعي من عضها أثر
أو لمسة دون مرطها بيدي ... والباب قد حال دونه الستر ولم نعد نسمع تلك النواسيات الماجنة وما إليها من دلائل الاحساسات البهيمية، وإذا بنا تطرق قلوبنا هذه الأغاني الخالدة التي تسمو بأرواحنا، إذا بنا نسمع قول العقاد يقول:
أغلى جمالك في النواظر أنه ... عوض لشين في النفوس كثير
وأنا له منها المقادة أنه ... في الأرض رمز كمالها المحظور
وقوله: -
أن التعاطف بالأرواح بغيتنا ... وفي القلوب على الأرواح عنوان
وقوله: -
فعش في جوار الناس شخصاً مجسماً ... وعش في فؤادي صورة تتخيل
فالغريزة هي الأصل في الإعجاب بشيء دون شيء، ولما تهذبت وارتقت استحالت إلى ما نسميه نبلاً أو ذوقاً رفيعاً وإن بقيت للغرائز الأولى بعد نزعاتها.
ولكن هذا الذوق له فصول وأسس، وله قواعد وقوانين تظبطه وتحده، فلم يعد جمال الجسم الإنساني صباحة وجه، وسطوع جبي، وامتلاء جسم أو نحافته، أو غير هذه الأوصاف من المعاني المطلقة، بل وضعت له مقاييس وأطوال - وإلى هنا يكون للذوق ضابط يحفظه في حدود مرسومة، ولكنه لا يخضع لها خضوعاً مطلقاً ولا ينكمش بين تلك الأعلام والأوضاع الضيقة إذ أنه يكون بذلك جامداً كزاً ذا وجه واحد. ولكن ذلك الجمود يتحرك ويحيا بما ينفخ فيه من روح، وما ينفث فيه من سحر، فيتخذ صوراً متباينة مختلفة، وإن كانت كلها تدور في حدود هذه الأوضاع، ولكل وجه سيماه ضربت المثل بجمال الجسم الإنساني ممثلاً في المرأة لأنها مركز اهتمام الرجل، ولأن الاتفاق على مقياس الجمال فيها يكاد يكون مفروغاً منه. وكلما بعد موضوع الحكم عن أن يكون ذا صلة بغريزة من الغرائز، أو بعلاقة مباشرة بعاطفة فسيولوجية أو نفسية، تعقد الموضوع، وصعب الاتفاق على حكم واحد فيه، واختلفت الأذواق: فهذا ذوق جميل يصدر حكماً صائباً، وذلك ذوق فاسد مضطرب الحكم، ولهذا السبب كان لا مناص من أن يوضع لكل شيء حدود يصدر الحكم على أساسها، فالشجر والنبات، والنهر والشلال، والغدير والبحر، والمحيط والجبل، والسماء والسحاب، والأبنية والعمائر. لكل هذه المظاهر أصول وقواعد يؤدى الفن في حدودها، وكانت هذه الأصول على ذلك ضابط الذوق إلى حد محدود، فكأن الذوق الجميل لم ينشأ نشأة لدنية، بل هو في الحقيقة غاية الثقافة والتهذيب، وهو عندما يقبل شيئاً أو يرفضه يظهر لنا أنه أتى ذلك في التو بغير سند واضح، ولكن عمل الذوق في الحقيقة نتيجة طبيعية لما وعته النفس وكسبه العقل من قضايا مختلفة ومقدمات منطقية وتاريخ حافل من تجارب الحياة
وليس من شأننا هنا أن نعدد الأصول التي تراعي في التعبير عن هذه المظاهر الطبيعية السالفة الذكر فلها مجال آخر نرجو أن يتاح لنا في المستقبل، ولكنا هنا سنبسط الشرائط التي يجب توفرها في الصورة، بوجه عام، وفي الفنان أيضاً والتي يمكن بمقتضاها أن نصدر حكماً أدنى للصواب فيما نشاهده من صور الفنون هذه الشرائط هي كما ذكرها جون راسكن:
1 - الصدق والحقيقة
2 - البساطة
3 - نوع من الإبهام السحري
4 - أيجاز التعبير
5 - الجرأة
6 - السرعة
هذا ولكي يكون تقديرنا لجمال المظاهر الطبيعية أتم وأوفى يجب أن نجردها من النفعية وننظر لها نظرة خالصة للفن ذاته وللجمال ذاته. فعندما نرى نهراً جميلاً يجري بين شاطئين بسقت عليهما الأشجار وغطاهما بساط سندسي من العشب يجب أن تقبل أذواقنا جمال هذا المنظر كما خططته يد الله بعيداً عن تدخل يد الإنسان في التحكم فيه والسيطرة على أجزائه - فنخفي عن ذوقنا أنه أقيم هنا سد اعترض من النهر انسيابه الجميل - وأن هناك آلة رافعة وضعت لتختلس من مائه بضجيجها وصريرها، وقامت على جانبه شوهاء كالقرحة في الجسم الغض. وننفي عنه أن هناك حطابا قويا يعمل فأسه في جذع شجرة ليسقطها وليأخذ خشبها ليصنع منه بابا أو نافذة.
الينبوع إذ يتسلسل ماؤه على الحصى ويتدفق على الثرى أجمل مما لو أحطناه بسور من البناء لنحصر ماءه، والسياج الحديدي حول مجموعة من الأشجار مشوه لجمالها، والعصفور الطليق أجمل من العصفور الحبيس في قفص ضيق. وهكذا فإن القلب يحس إحساساً خالصاً بجمال الطبيعية ويندمج فيها ويخفق لها لأن طبيعة الإحساس العاطفي المحض في القلب وهو تامورة الحياة في الجسم الإنساني، أجل وهو الذي يستجيب ويلبي كل شيء جميل حي
وإذا أصاب القلب مرض أو تعطلت وظيفته النبيلة لسبب ما كأن كدر صفاءه غضب أو اهتياج أو حقد أو غيرها من الحالات التي تخرجه عن طبيعته انبتت علاقته بالحياة فلم يعد يستجيب لها ولا يحس بها إحساساً سليماً صحيحاً. وكذلك الحال عندما نرى مظهرا من مظاهر الطبيعة قد طرأ عليه ما يعطل من طبيعة الحياة فيه. فالزهرة النظرة يعجبنا منها رونقها واتساقها وزهاء لونها ونورها وهي بذلك حية سليمة، وهي لحياتها جميلة غاية الجمال، فإذا رأيناها ذاوية خبا رونقها ومالت إلى العدم؛ والظبي رشيق الحركة وهو سليم صحيح، فإذا أصيب في ساقه بعرج فهو سقيم ثقيل، والطير جميل وهو قوي الجناح سليمة، فإذا كسر جناحه فهو ضعيف ذليل - وكل هذه المخلوقات سعيدة ما دامت وافرة الحياة سليمة الوظائف وهي بذلك جميلة غاية الجمال
ولا ينبغي أن نقرن النظر لشيء الجميل بتحليله إلى عناصره وتعليل مظاهره فنبحث في أن ماء النهر يكون من عنصري الهيدروجين والأوكسجين، وأن النهر ينحدر ماؤه بالجاذبية، وأن الشجر يمتص بجذوره من الأرض عناصر التغذية، وأنه يحيل ثاني أوكسيد الكاربون إلى أوكسجين نهاراً والعكس ليلاً.
فالنظرة إلى الجمال يجب أن تكون مجردة من جميع هذه العوامل وإلا طغى الفكر المحلل على الذوق السليم وسكتت العاطفة وقد تكلم العقل وانتقلنا إلى عالم مادي وبعدنا عن عالم الروح والكمال.