الرئيسيةبحث

مجلة الرسالة/العدد 205/هكذا قال زرادشت

مجلة الرسالة/العدد 205/هكذا قال زرادشت

بتاريخ: 07 - 06 - 1937


للفيلسوف الألماني فردريك نيتشه

ترجمة الأستاذ فليكس فارس

مشاهير الحكماء

جميعكم أيها الحكماء المتمتعون بالشهرة، قد خدمتم الشعب وما يؤمن به من خرافات، ولو أنكم خدمتم الحقيقة لما كرمكم أحد، ومن أجل هذا احتمل الشعب شكوكم في بيانكم المنمق لأنها كانت السبيل الملتوي الذي يقودكم إليه. وهكذا يوجد السيد لنفسه عبيداً يلهو بضلالهم الصاخب. وما الإنسان الذي يكرهه الشعب كره الكلاب للذئب إلا صاحب الفكر الحر عدو القيود الذي لا يتعبد ولا يلذ له إلا ارتياد الغاب

إن ما حسبه الشعب في كل زمان روحاً للعدل إنما هو العدو الكامن المترصد لروح الحرية يستنبح عليها أشد كلابه افتراساً وقد قيل في كل زمان (لا حقيقة إلا في الشعب فويل لمن يطلبها خارجاً عنه)

لقد أردتم أن تؤيدوا الشعب في ما يبدي من خشوع وإجلال، فدعوتم هذه المذلة (إرادة الحق) فيالكم من حكماء

غير أنكم كنتم تقولون في أنفسكم لقد نشأنا من الشعب وصوت الشعب هو صوت الله فكنتم كالحمار الصبور المراوغ تعرضون وساطتكم على الشعب، ولكم من ذي سلطان أراد أن توافق عجلته ذوق الشعب ففطر لجرحها حماراً صغيراً، حكيماً مشهوراً. . .

فيا مشاهير الحكماء، إنني أطلب منكم أن تخلعوا عنكم ما تتلبسون به من جلود الأسود وجلود الوحوش الكاسرة المخططة وفراء المستكشفين للمجاهل والفاتحين. إذ لا يسعني أن أؤمن بالحقائق التي تنادون بها ما لم تقلعوا عن بذل التبجيل والتعظيم، فما رجل الحق إلا الضارب في القفار ولا إله له لأنه حطم بين جنبيه قلب التبجيل والتعظيم وإذا هو تلفت ورمال الصحراء تحرق قدميه إلى الواحات حيث يتدفق الماء الزلال، ويمتد وارف الظلال، وترتاح الحياة ملقية عصا الترحال، فلا يقتاده الظمأ إلى الاتجاه نحوها طلباً للاغتباط بين المغتبطين لأنه يعلم أنه لكل واحدة أصنامها، وما يريد الأسد إلا الانف محرراً من عبودية الأرباب ومن سعادة المستبدين، بعيداً عن الآلهة والمتعبدين وعن الخوف ومنزليه في القلوب، ذلك ما يصبو رجل الحق إليه. وما عاش رجال الحق إلا في القفار يسودونها بانطلاق تفكيرهم في مجالها الوسيع. وهل في المدن إلا مشاهير الحكماء يتناولون خير الغذاء كذوات الضرع تغذى لتحلب. ويجرون عجلة الشعب وقد كُدنوا بها كالحمير

وما أنا بالناقم عليهم ولكن ليعلموا أنهم خدم مشدودون إلى عجلة وما يرفع من ذلهم توهج الذهب على العجلة التي يجرونها

ولطالما أخلص هؤلاء الناس في خدمتهم فاستحقوا الثناء لأن الحكمة تقضي بأن يفتش الخادم عن سيد يستفيد من خدماته

لقد وجب أن يتسامى عقل سيدك وتعلو فضيلته لأنك بهما تعلو أنت

والحق أنكم قد علوتم بارتقاء عقل الشعب وفضيلته، أيها الحكماء الخادمون للشعب كما اعتلى هو بكم. وما أعلن هذا لتمجيدكم، فإنكم قد بقيتم أنتم شعباً حتى في فضائلكم، وما تزالون شعباً لا بصيرة له، ولا يدرك للعقل معنى

إنما العقل حياة تمزق الحياة تمزيقاً، وما تزداد الحياة معرفة إلا بما تتحمل من آلام، فهل كنتم لهذه الحقيقة عارفين؟

لا يسعد العقل إلا إذا مسح بالدموع وتوج بالتضحية فهل كنتم لهذه الحقيقة عارفين؟

إن عماء الضرير وتلمسه لطريقه إنما هو شهادة لقوة الشمس، التي حدق بها فهل كنتم لهذه الحقيقة عارفين؟

على طالب المعرفة أن يتعلم البناء باستخدامه الجبال حجارة لإقامة صرحه، وما يصعب على العقل أن ينقل الجبال، فهل كنتم لهذه الحقيقة عارفين؟

إنكم لا تلمحون من العقل إلا ما يقذف به من شرر، فلا تعرفون، أي سندان هو هذا العقل، ولا تعرفون أيضاً قساوة المطرقة التي تتهاوى عليه

والحق أنكم تجهلون كبر العقل ويصعب عليكم احتمال تواضعه لو أراد تواضع العقل أن يعلن حقيقته

إنكم ما تمكنتم في أي زمان من إرسال عقلكم إلى مهاوي الثلوج، فما بكم الحرارة الكافية لاقتحامها، ولذلك لا تدركون لذة من تنعشه لفحات هذه المهاوي، غير أنني أراكم بالرغم من هذا تقدمون على مداعبة التفكير، وقد جعلتم الحكمة ملجأ ومستشفى للمتشاعرين. . .

لستم عقباناً أيها الحكماء المشتهرون، فأنتم إذاً لا تدركون ما يلد العقل من لذة في ارتياعه، فلا يحق لغير المجنح أن يخترق الهواء فوق الوهاد

ما أنتم إلا فاترون أيها الحكماء، وفي كل معرفة عميقة يهب تيار من الصقيع لأن ينابيع العقل الخفية باردة كالثلج ولا تلذ ببردها غير الأيدي الملتهبة بحرارة جهادها

إنني أراكم أمامي أيها الحكماء المشتهرون ملفعين بقساوتكم جامدين على غروركم فما للريح أن تدفعكم ولا للإرادة أن تهيب بكم إلى الإقدام

أما رأيتم على مضطربات الأمواج شراعاً خفاقاً يندفع وقد عصفت في ثنياته هوجاء الرياح. إن حكمتي تجتاز العمر خافقة كهذا الشراع وقد ملأتها عواصف التفكير، تلك هي حكمتي الشاردة النفور. فهل لكم أن تجاروني في اندفاعي أنتم يا من تخدمون الشعب، أنتم مشاهير الحكماء

هكذا تكلم زارا. . .

نشيد الليل

لقد أرخى الليل سدوله فتعالى خرير المياه المتدفقة، ولنفسي أيضاً ينبوعها المتفجر

لقد أرخى الليل سدوله فتعالت الأناشيد من أفواه جميع المغرمين، وما روحي إلا نشيد من هذه الأناشيد. إن في داخلي قوة ثائرة تريد إطلاق صوتها وهي شوق إلى الحب بيانه بيان المغرمين. أنا نور وليتني كنت ظلاماً، وما قضي عليّ بالعزلة والانفراد إلا لأنني تلفعت بالأنوار. ولو أنني كنت ظلاماً، لكان لي أن أتعلق بإسداء النور فأنقع من درها غلتي، لكان لي أن أرسل بركتي إليك أيتها النجوم المتألقة كصغيرات الحباحب في السماء إذ أتمتع بما تذرين عليّ من شعاع. غير أنني أحيا بأنواري فأتشرب اللهب المندلع من ذاتي وقد حرمت لذة الآخذين، وقد خطر لي مراراً أن في السرقة من اللذة ما ليس في الأخذ.

إن يدي لا تقف عن البذل وذلك هو فقري فأنا أنظر أبداً إلى العيون يملأها الانتظار وإلى الليالي تلهبها الأشواق، وذلك هو الحسد الذي يقض مضجعي

يا لشقاء الواهبين. . . يا لظلمة شمسي ويا لشوقي إلى الاشتياق ويا لشدة المجاعة في شبعي

إنهم يأخذون ما أهبهم ولكنني أبقى بعيداً عن أرواحهم فإن بين الباذل والآخذ هوة عميقة، ولعل أقرب الأغوار قعراً أصعبها ردماً

إن نوعاً من الجوع ينشأ في أحشائي فيحفزني إلى إيلام من أرسل إليهم أنواري. فأتوق إلى سلب من أغدق عليهم هباتي وهكذا أتعطش إلى إيقاع الأذية فأرد يدي بعد أن أكون مددتها وأتردد تردد الشلال في تدفقه نحو مراميه

إن مثل هذا الانتقام يراود عظمتي، ومثل هذا المكر ينشأ من عزلتي

لقد فقدت السعادة في العطاء لوفرة ما أعطيت وقد زهقت فضيلتي من نفسها ومن جودها، إن من يستمر على بذل الهبات مهدد بفقد الحياء. ولابد أن تتصلب راحته ويتصلب قلبه.

لم تعد مآقيّ تذرف الدموع على خجل المسترحمين وها إن يدي قست حتى امتنع عليها أن تشعر بارتعاش الأيدي إذا امتلأت.

أين هي دموع عيني وأين رقة قلبي. فيا لوحدة جميع الواهبين ويا لصمت كل متلفع بالسناء.

إن شموساً لا عداد لها تدور في قفار الأجواء مخاطبة بإشعاعها لبدات الظلام وأنا وحدي محروم من حديث هذه الشموس وبيانها.

ويلاه! أية علاقة يمكن أن تربط الأنوار بالأجرام المنيرة من نفسها؟ فإن الأنوار تمر عليها وهي تحدجها بلفتات الجفاء وتمضي ذاهبة في سبيلها، وهكذا تسير جميع الشموس في أجوائها نافرة من كل جرم منير باردة لا تحس أخواتها بحرارتها.

إن الشموس تندفع كالعاصفات في أبراجها متبعة ما اختطته إرادتها الجبارة وفي ذلك كتمان حرارتها وبرودتها.

هل غيرك أيتها الأجرام الملفعة بظلام الليل من يخلق حرارة من اللمعان؟ أنت وحدك ترضعين أفاويق القوة من أنداء النور.

ويلاه إن الصقيع يدور بي ويدي تحترق من لفحات الجليد، فأنا مشتعل بسعار لا يطفئ أواره غير عطشكم، لقد سادت الظلمة فلماذا قضي عليّ أن أكون نوراً منفرداً متعطشاً إلى الظلام؟ لقد سادت الظلمة فتدفقت كالجداول أشواقي وهي تريد أن تهتف بما تضمر.

لقد أرخى الليل سدوله، فتعالى خرير المياه المتدفقة، ولنفسي أيضاً ينبوعها المتفجر.

لقد أرخى الليل سدوله فتعالت الأناشيد من أفواه جميع المغرمين، وما روحي إلا نشيد من هذه الأناشيد.

هكذا تكلم زارا. . .