مجلة الرسالة/العدد 205/ساعة في هياكل الشعراء
→ هكذا قال زرادشت | مجلة الرسالة - العدد 205 ساعة في هياكل الشعراء [[مؤلف:|]] |
رسالة العلم ← |
بتاريخ: 07 - 06 - 1937 |
طاغور
شعره، تأمله وتساؤله، مناجاته، الشرق والغرب
للأستاذ يوسف البعيني
كأني بالقارئ وقد أثاره حب الاستطلاع فقال يطالبني بشوق واهتمام قائلاً: أراك قد اخترت - طاغور - موضوعاً لبحثك وحديثك دون سواه من الشعراء اللامعين على كثرتهم وتعدد نواحي الاستقراء في شؤونهم وشجونهم. وأنا حتى أجيبك إلى طلبك وأبين لك الغاية من اختياره لحديثي هذا، أريدك أن تعلم أن طاغور هو شاعر عبقري متصون ذو خيال رقيق تسربل بالرشاقة والفخامة والتوت عنه عواتير العقم والخشونة. وهذه مزية سامية لم يتصف بها شاعر من شعراء هذا العصر
على أن إذاعة البحث في شاعرية طاغور تتطلب أمراً هاماً وهو أن نلقي نظرة بعيدة على شخصيته لنعلم ما إذا كان مثالاً صادقاً للعصر الذي يعيش فيه، وما إذا كان مرآة صافية لأخلاق البيئة التي ترعرع فيها. أم هو شاعر محلي محصور الثقافة والإحساس لا ينقل لقرائه سوى أصداء أوهامه، ولا يرسم شعره إلا المواضيع التافهة والصور الباهتة فحسب
أما أنا فأرى أنه يمثل عصره تمام التمثيل لأنه يعيش في عهد التجديد ونهوضه وبعثه، وفي عهد يقظة الروح بالشرق الأقصى وإذاً فأحلامه التي تلمع في شعره هي أحلام الجيل الذي يعاصره، ذاك الجيل الذي روعته الثورات والحروب، وأبهضته مخاوف الألم والموت
شعره
قرأت لطاغور كثيراً من شعره، وكنت قبل أن أقرأ ذلك الشعر أعتقد أن الشاعر الحقيقي هو من يحسن حبك القوافي وسبك الألفاظ وتحكيم الأوزان. ولكن بعد أن قرأته وتذوقت أقواله وتصوراته أصبحت أعلم أن الشاعر هو ذلك المفن المتقد الإحساس الذي يحرق نفسه بخوراً فوق محاريب البشرية لينير تلك الأرواح العامهة في دياجي آلامها وبلاياها
وتأكدت أن الشاعر هو من يرهف أذنيه لاستماع خشخشة العبودية تجرها الأقدام الدامية في سيرها إلى أعماق السجون، ونحو أعواد المشانق! هو من تحزنه الزهرة الذابلة، وإنه يشاهد في ذبولها صفحة حياته البالية. . .
هو من يخيفه قصف الرعود لأنه يعيد إلى ذهنه ذكرى الحروب والثورات. . .
بلى. . . في شعر طاغور شاهدت كيف يحرق الألم نفس الشاعر، وسمعت زفرات قلب متفطر ينسحق في قبضة الأسى والحنين، ويتبعثر بين غمائم التذكار والكآبة!
وطاغور شاعر متفنن ذو رقة لذيذة وخيال طافح بالعذوبة، وأنت إذا قرأت قطعة من شعره فكأنك تقرأ روحاً تذوب في مرجل آلامها وحسراتها، أو تشرب كأساً من الدموع المريرة
إذا حدثك عن حب مستتر في كهوف الماضي، فأنت ترى ذلك الحب بعينيك. وإذا رسم لك ما ينهش قلبه من أسى وحنين فتكاد تسمع ذلك بأذنيك فتحترق شفقة عليه!
يداعب ميولك ومشاربك فتحس به قد دخل عليك واحتل ذاتيتك، فتتعشقه راكضاً وراء الفراشة في الحقل، أو صاعداً إلى النجوم على سلم منسوج من ضوء القمر
وهو خيالي. . . ولكن ياله من خيالي رائع يحاول أن يملأ كأسك من عصير روحه الساحرة. لكنه يعترف لك بأن هذا الذي يرشحه في مراشف سطوره وتعابيره ليس سوى أنداء هابية سكبتها الطبيعة في روعه الخافق ليفرغها في محاجر الإنسانية التي تريد التملص من قيودها وأغلالها
فمن هذا يستدل القارئ على بعد غور شاعريته، وصفاء مصدره، وصدق عقيدته، ورحابة آفاق تأملاته وأحلامه!
تأمله وتساؤله
لم يعرف الأدب العالمي في أوائل هذا الجيل شاعراً كثير التأمل والتساؤل إلا - بيير لوتي - الأديب الفرنسي المشهور، هذا الشاعر الحساس أخرج للناس طائفة من القصائد والقصص هي غاية في الاستغراق والتحالم بينها كتاب (موت أنس الوجود) الذي رسم فيه ليالي مصر المقمرة البيضاء رسماً يغمر القلوب بموجة من السحر والجمال، وينبه في سراديبها المظلمة أشباح الشجن والحنين، ويعلم الناس أن بيير لوتي لم يفعل ذلك إلا ونفسه مستبشرة بنور الفن، ثملة بلذة المذهب الوجداني وفتونه. ولكن طاغور، أي حافز، بل أي داع دفع به إلى اجتناء تلك الزهرة اليانعة وهو رجل يعيش في معترك بعيد من الفن والنضج والألمعية. إذا لم يكن ذلك دليلاً واضحاً على أن الروح العظيمة، الروح المستنيرة بنور الآلهة، لا يقعدها المحيط الصاخب عن تغريدها، ولا تؤثر بها عوامل الحياة
ولكي يقف القارئ على صحة ما أقول، أورد له مثالاً من تأمله وتساؤله. قال في قصيدة جزلة مؤثرة تحت عنوان (المنشأ) أنالته مع غيرها جائزة (نوبل) في عام 1914:
(سأل الطفل أمه ذات مرة: أين كنت يا أماه، وفي أي مكان كنت تحتفظين بي؟
فارتعشت عواطف الأم حنواً وضمت طفلها إلى صدرها وأجابت:
كنت يا حبيبي مستتراً في أعماق فؤادي، بل كنت ماثلاً بين ألاعيب طفولتي. . فعندما كنت أنهض في الصباح لأجبل مثال الله العجيب من الطين لم أكن أجبل سواك
كنت يا بني في هيكل بيتنا المقدس سراً أعبده فأعبدك فيه. وهكذا نشأت في حياتي وحياة أمي من قبلي. فبآمالي ورغائبي كنت أغذيك، وبحرارة الروح الكامنة فيّ كنت أهيئك للحياة!
وبينما كنت لا أزال عذراء، كانت روحي تفتح كمائم زهرتك المزممة لتلفك بعبير الشوق والحنين. يوم ذاك كنت يا بني نوراً ضئيلاً يلمع في أحشائي كسنا الشمس عندما تنحسر عنه سجوف الظلام.
فيا حبيب السماء ووليد الصباح المشرق في وهاد قلبي: إني كلما تأملتك يغمرني فيض من العاطفة فأحس أنك لي وحدي، وأننا متحدان دائماً بالشعور والعاطفة
ولكن ليت شعري، أي القوى هي تلك التي جعلتني أحتفظ بك أيها الكنز الثمين؟
وفيما هو مصغ إليها، دب الموت في فؤاد الطفل فقال متمتماً:
- ها قد دنا الموت يا أماه ليذهب بي حيث يذهب الموتى أجمعون. . ولكن عندما يأتي المساء وتمدين يدك لكي تطبعي على شفتي قبلة ناعمة يمازجها العطف والحنان سيهتف بك هاتف من الظلام مغمغماً بأن لا تجدينني ههنا!
ولكن ثقي يا أماه بأني سأتحول نسيماً يقبل ثغرك كل حين، أو نوراً يضيء مأواك في الليالي الداجية المفعمة بعويل العواصف وأنين الرياح
وفي الليل، في ذكرياتك المحرقة عندما تناجين طفلك الحبيب، سأقول لك نامي يا أماه ولا تذكريني. فإني عندما يمسي البدر هلالاً أسيل مع الشعاع لأنام في حضنك الأمين!
وسأغدو حلماً يدخل من فتحات عينيك لأنزع من قلبك حزنه القاتل الساحق. ولكن إذا أفقت مذعورة ترين حولك فراشة بيضاء تؤنسك بطنين أجنحتها الصغيرة
ومتى أقبل عيد (جايا) وترنحت عذارى الهيكل مخففات بأنغامهن العذبة وحشة حياتك، سأهربق نفسي في تلك الأنغام حتى إذا لامست قلبك محت عنه كل الأحزان
وإذا جاءتك خالتي حاملة إليّ هدية جميلة وسألتك أين طفلك يا أختاه فإني أذوب شوقاً إليه. . . فأجيبي أختك يا أماه بأني توسدت عينيك، وامتهدت روحك التي لا يستطيع أن يلحدها الموت)
أجل. . . إن في هذه القطعة الفاتنة التي يسأل فيها - رابندرانات طاغور - أمه الطبيعة عن كيفية مجيئه إلى هذا العالم
نعم إن فيها عصارة من جيد الشعر لا تأتي بمثلها إلا نفس انحدرت إلى قلب الحياة حيث التقطت كل ما فيها من ألم وبؤس، وفرح وسعادة، وابتسامات ودموع. . . ولعمري إن نفساً تنتهي بك إلى هذا الحد العميق لهي نفس جبارة تجابه الدهر بشعاعها الوضاح، فتملأ الأيام هيبة وجمالاً، والليالي سحراً ونوراً!!
مناجاته
وطاغور شاعر عالمي قبل كل شئ. فإن آراءه أصوات مرتلة تلعب بالقلوب والمشاعر، وتحمل الإحساس على أجنحة من الخيال، فترود به معالم الخلود وتغذيه بمواد الجمال الأزلي، وتطبعه بطابع الجمال الإلهي
ومما يمتاز به طاغور هو أنه شاعر متصوف كثير التأمل، عميق المناجاة. وإن الإنسان لبحار عندما يقرأ قطعة له فيرى المعاني موشحة بغلاف رقيق من الفلسفة الوجدانية. وقد نجح تصوفه أخيراً إلى حد أصبح يحب فيه أن يرى الله في كل مكان تحتضنه عيناه، فهو يود أن يشاهده في الوردة الخضراء، وفي طلعة الفجر، وفي مغرب الشمس، وفي سكون الليل، وفي سر الموت والحياة
نجوى
(ألا شرفني يا إلهي، وجرد حياتي من تلك المساوئ المعيبة التي تسود دائماً ابن الطينة. ضعها تحت رعايتك، وأخبئها بين ظلال الموت والنور، أو في مكمن الليل بين نجومك. ثم أطلقها في الصباح بين الزهور لتشدو كالبلابل بتسابيحك وترانيمك!!)
حنين
إيه أيها القدر العاتي! لقد حجبها القبر عني فما اكتأبت. ولكن أبت إرادتك إلا أن تبقى ساقية حبها سارية في أودية قلبي لا ينضب لها معين، ولا ينقطع لها خرير
ولكن الزمن قاس جداً، فهو لا يحنو على النفوس المعذبة. وإنه ليهزأ من ألم القلوب كلما لج بها تذكار الماضي الدفين
آه!! إني أذكر. . . ولكن الحياة كلها نسيان. إنها سريعة الخطى نحو الموت. . . إنها تختفي ولكنها تترك للخيال مرارة الذكرى وتباريح الشوق والحنين
وفي اعتقادي أن هذه المقاطع هي من أروع المناجاة. وأنت إذا قرأت باقي مناجاته ترى رجلاً حائراً مرتعشاً قد شمله ظلام ليل الأسى. فهو يبكي، وهو يرجو (القدر) أن يرحمه في دجى الليل البهيم بخلود ذكرياته الماضية. ويالها من ذكريات رقيقة عارية من أثواب الادعاء والكبرياء، حافلة بمعاني اللوعة والحزن هي ذكريات الشاعر الحنون
والحقيقة أنك لا تكاد تقرأ هذه المناجاة حتى تجري الدموع من عينيك ويغمرك سكون رهيب طافح بالجبن والكآبة، وحتى يأخذك شئ من اليأس والسخط على الحياة والاستمساك بها!!
الشرق والغرب في نظر طاغور
ولطاغور رسالة قيمة يبشر فيها بانتشار السلام والمحبة بين الناس على اختلاف مشاربهم ومنازعهم وميولهم. وهذا لعمري عمل جليل يدل على عظمة هذا الشاعر الجبار. فهو رجل عالمي جامع، وبخلاف (كتابنا وشعرائنا) الذين يكتبون للدين والأحزاب والجنسية أو لفئة جاهلة متعصبة من الناس. . . ومن المضحك أن هؤلاء الأدباء المزيفين الذين يقلقون الشرق العربي بكتاباتهم وأشعارهم ينعون على البشرية عدم اكتراثها بهم. . .
لقد قرأت كثيراً من مؤلفاته. ففي كتابه - سيد هانا - يتغنى بالمحبة ويدعو الناس إلى اعتناقها. ولطالما نادى بتوثيق عرى الحب ليعيش العالم في سعادة وهناء. ومن قوله:
(إذا كانت الأمهات يلدن والقبور تبتلع، فلماذا الحروب والثورات التي تدمي فؤاد الإنسانية وتقلق روعها؛ ولماذا لا يعيش الإنسان تلك المدة القصيرة في حب وسلام؟)
فمن هذه الجملة الوجيزة يستخلص القارئ صورة صحيحة لنفسية طاغور
وأما الشرق والغرب فهما في نظره أخوان توأمان يجب عليهما التقيد بقانون العدل والمساواة. وأنه ليس حقاً أن يظل الشرق عبداً للغرب كما هي الحال اليوم، فيسومه جميع أنواع الذل والعبودية
في عام 1920 طاف طاغور في أنحاء العالم، ثم عرج أخيراً على - نيويورك - المدينة المنتعلة أجنحة الروح، والهازئة أبراجها الحديدية الصماء بأحلام الشرق وعوائده القديمة. . . فألقى هناك محاضرة فخمة عن مدينة الشرق وطابعها الفلسفي جاء فيها ما يأتي:
(الغرب يكون للشرق عوامل الحياة الراحلة، والشرق يعطي الغرب تعاليم الروح الخالدة. فيالله انظر أيها الغرب وتأمل. ألا يستطيع الشرق المستعبد أن يقدم لك غير أرضه ورقاب أبنائه؟
فإلى متى ينظر الغرب إلى الشرق نظرة السخرية والاحتقار، ومتى يستيقظ الغرب من نشوته العمياء؟
لا تصدق يا غرب عنا كل ما تسمعه من دعاة الاستعمار، فإن هؤلاء يصورون لك الشرق صورة متناقضة ينهش حقائقها التعاظل الممقوت. بل تعال أنت أيها الغرب الحر المتسامي، غرب أجناد الحق وأبناء الخلود، وادرس حياة الشرق الجميل. . . تعال بروح الحرية التي بنيت عليها حضارتك الأولى، فترى حينئذ كما نرى نحن أن الشرق الضعيف أهل للحرية، وأن في أعماق أخلاقه ومبادئه وميوله حكمة خالدة أسمى من الحياة المادية)
وكأني هنا - بطاغور - وقد رأى بعينيه جشع الغرب وتكالبه على امتلاك قطعة من الأرض، وشاهد انتحار الفضيلة فيه، واستيلاء الحياة المادية على عقول أبنائه، وتقلص الشعور من النفوس، وتلاشي حرارة الشعر، وتمشي الأطماع والأكاذيب في سننه وقوانينه فهو يقول (إن في أعماق روح الشرق وميوله جمالاً أسمى من الحياة المادية التي يعيشها الغرب) وإن ذاك الذي تضمه روح الشرق ومبادئه ليس سوى الوداعة المستحكمة من قلوب أبنائه، والطهارة الناشرة أجنحتها فوق قصوره وأكواخه، والنجوم التي تنير حقوله ووهاده. . . فتبدو الحياة في ذلك الشرق الشعري الخالب كأنها حلم من الأحلام الرائعة.
وفي الحقيقة أن طبيعة الشرق لهي عرس من أعراس الحياة. فعلى الشواطئ تمرح عذارى الحب والجمال، وفي الكهوف تمرح تخيلات الدهور والأجيال
إن في روح هذا الشاعر الهندي المتصوف الذي نشأ في ظلال الشرائع الشرقية القديمة مالئاً قلبه من عصير (النرفانا) وكتب أجداده الخالدة خيالاً يقظاً سوف يصغي الدهر إلى همسه المسكر مستمهلاً في فراره بين أكوام الموتى وساحات الحروب. . . ولكن إنسانية اليوم لن تصغي إلى حفيف أجنحة أطيافه، ولن تلمح ما في حكمته من نور، ولن تجرع ما في كآبته الصاحية من كوثر حي، لأنها إنسانية ثملة بأبخرة الدماء، وعبق البارود، وهزيم المدافع، وقلقلة القيود
ستبقى ثملة. . . وسوف لا تستفيق من نزواتها وخيلائها حتى تقتلها النزوات وتقهرها الخيلاء فتبصر عندئذ نجمة الحق لامعة في أفقها المعلى حيث تلتقي الأزلية والأبدية، وحيث يتعانق فجر الحياة ومساؤها.
(البرازيل)
يوسف البعيني