مجلة الرسالة/العدد 204/في الأدب المقارن
→ خاتمة المأساة الأندلسية | مجلة الرسالة - العدد 204 في الأدب المقارن [[مؤلف:|]] |
الحياة على الكواكب ← |
بتاريخ: 31 - 05 - 1937 |
المعنى والأسلوب في الأدبين العربي والإنجليزي
للأستاذ فخري أبو السعود
المعنى الصادق الرفيع والأسلوب المحكم الجميل هما قوام كل أدب خليق بهذا الاسم، لا يغني أحدهما إذا غاب الثاني؛ فلابد من شعور عميق، أو تفكير ثاقب جدير بعناء الإنشاء والقراءة، ولابد بجانب ذلك من عبارة منسجمة جميلة تعرض المعنى على أحسن وجه وأحبه إلى النفوس؛ وكبار الأدباء في شتى الأمم يجمعون دائماً بين الفكر الواسع المتصرف في شؤون الحياة، وبين المقدرة اللغوية التي تذلل لهم أعنة البيان، ويتصرفون بها في الألفاظ والتراكيب، ويكون لكثير منهم فضل ترحيب جوانب اللغة وإكساب تعبيراتها جدة ومرونة، وإعطاء بعض ألفاظها منزلة سامية لورودها مورداً حسناً في بعض آثارهم، وشأن الأديب الكبير في ذلك شأن غيره من رجال الفنون، فالمصور مثلاً لا يبلغ الذروة في فنه حتى يجمع إلى خصب مشاعره بصراً بتأليف الألوان والأصباغ، وكل فنان لابد له من الجمع بين رقة الشعور وبين البصر بالآلات التي يكون بها أداء ذلك الشعور
والفكر واللغة، أو المعنى واللفظ، شديدا التوثق والتوشج، فلا ندحة للأديب عن التأثر بروح اللغة التي يكتب فيها وتراثها على مدى الأجيال، ولا سبيل له إلى الإنشاء والنظم فيها حتى يختلط بروحها، وتمتزج أفكاره بالمفردات والأساليب التي تهيئها له اللغة؛ والأديب الصناع يختار من المفردات تلك التي تنهض بأفكاره ومشاعره في أوجز لفظ وأحكمه وأوضحه بياناً، بما تمتاز به تلك المفردات من أجواء من المعاني رحيبة تجمعت حولها على مرور الأجيال وتوالي الاستعمال، حتى غدت يثيرها مجرد ذكر تلك المفردات على نحو خاص، وذلك ما يجعل آثار بعض الأدباء المفتنين والشعراء المجودين متعذرة الترجمة إلى غير لغتها، لتعذر نقل هذه الأجواء المعنوية برمتها من لسان إلى لسان، بل يتعذر أحياناً التفريق بين المعاني والأساليب التي هي مفرغة فيها، لتمازجها تمازج الروح والجسد
ويبلغ الأدب كماله حيث يسود القصد والاعتدال بين اللفظ والمعنى، فإذا استبد المعنى بالأهمية كلها وتحيف اللفظ خرج الأثر المنشأ من حظيرة الأدب إلى حيز العلم؛ وإذا تحيف اللفظ المعنى وصار غاية في ذاته هبطت قيمة الأثر الأدبي، وأصبح أشبه بالزخ والصناعة منه بالفن السامي. ويغلب الاحتفاء بالزخرف اللفظي في عهد طفولة الأدب، إذ يكون الشعر مجرد أهازيج وقواف موسيقية تافهة المعانى، وفي عهود انحطاط الأدب حين ينصرف الأدباء عن لباب الحياة إلى القشور؛ وبالزخرف اللفظي والبراعة اللغوية والأسجاع والإيقاع الموسيقي يكلف الأديب الناشئ أول عهده بالأدب، وكلما نضجت نفسه وحصف ذهنه بتجربة الحياة واستيعاب المعارف تحول اهتمامه إلى المعاني والحقائق والتزم اللفظ في آثاره منزلته الصحيحة، وهي كونه وسيلة للمعنى لا غاية في ذاته
وقد عرف أقطاب الأدب الإنجليزي بواسع بصرهم بأسرار لغتهم، وإليهم يرجع فضل توطئة جوانبها وتعبيد مسالكها، ولكل منهم في هذا الباب أثر: فشكسبير قد استخدم في رواياته أكبر عدد من مفردات اللغة استخدمه أديب، وصرف تلك المفردات على شتى الوجوه؛ وسبنسر أعنى اللغة بما أدخل فيها من ألفاظ جديدة لم تعرفها قبله؛ وملتون أصبح اسمه علماً على ضرب من النظم عذب الموسيقى فخم الرنين؛ وبوب بلغ الغاية من إحكام الصناعة وجزالة الأسلوب؛ ووردزورث كان دائم التجارب في الأساليب يحاول أن يشق للشعر أسلوباً جديداً؛ وتنيسون تفنن في استخدام الألفاظ وتحوير التراكيب يؤلف بها روائع الصور الشعرية، ولا تزال مخطوطات بعض أولئك الأدباء موضع دراسة النقاد والأدباء، يتفقهون بها في أسرار اللغة ويزدادون بصراً بخصائص الألفاظ والتراكيب، ويرون كيف يحل لفظ محل لفظ فتشرق به ديباجة البيت من الشعر ويسفر به وجه المعنى جميلاً بعد خفاء والتياث
على أن أولئك الأدباء برغم احتفائهم بالأسلوب ذلك الاحتفاء لم يغلبوه على المعنى ولم يجعلوه غاية في ذاته، ولم يصبح الأدب في أيديهم براعة في اللفظ وتأنقاً في النسج، بل ظل اللفظ لديهم دائماً خادماً للمعنى، وظل غرضهم الأول من الإنشاء الإفصاح عن الفكر والشعور. ولم يسرف الأدباء في الاحتفاء باللفظ إلا في عهد انحطاط الشعر في بعض القرن الثامن عشر، في حقبة لم تنجب شاعراً كبيراً، ولم يحض بالشهرة في حياته والذكر بعد موته من أدباء الإنجليزية إلا من أهلته لذلك نظرة في الحياة صادقة عميقة، ولم تكن كل بضاعته أسلوباً مزخرفاً، منمقاً، بل عرف من كبار الشعراء من لم يكن يولي أسلوبه كبير احتفاء، ومع ذلك رفعه فكره الجوال في آفاق الحياة، ونفسيته الجياشة بأشتات الأحاسيس إلى قمة المجد، فبيرون كان كما قال عن نفسه لا يعاود النظر في بيت شعر خطه، ووردزورث نظم كثيراً من بدائع شعره في أبسط لفظ يستعمل في النثر والتحدث، وهاردي لم يكن شعره إلا نثراً جيد النظم عارياً مجرداً من تلك الألفاظ الشعرية ذات الأجواء المعنوية، ومن ثم لا يسمو به النقاد إلى طبقة الفحول كشكسبير وملتون، بل ينزلونه الطبقة الثانية بين الشعراء، وهذا الأسلوب العاري المجرد يزداد شيوعاً في العصر الحديث
أما في العربية فكان الأمر على نقيض ذلك: فلم يكد يكون بين كبار أدبائها بعد دخول الأدب طوره الفني من أهمل الأسلوب واحتفى بالمعنى وحده، وإن كان أكثرهم ليقدم الأسلوب على المعنى ويحتفي للفظ ورنينه أي احتفاء وإن تضاءل المعنى وتفه، فإذا كان النثر العربي يبلغ ذروته من الكمال على أيدي ابن المقفع والجاحظ، والشعر العربي يجري إلى غايته في آثار المتنبي وابن الرومي والمعري، حيث يجتمع صدق النظرة وجمال الأسلوب فإن غيرهم من مشهوري أدباء العربية إنما نبه ذكرهم لبلاغتهم اللفظية، لا لفلسفة في الحياة معدودة، ولا لرسالة في الأدب عتيدة. ومن أولئك البحتري ومن نحا نحوه من الشعراء والمداحين، والصاحب ابن عباد ومن سلك دربه من المنشئين المسجعين؛ فالناظر في الأبيات الآتية من نظم أشهر شعراء العربية، يرى أن حظها من المعنى ضئيل ونصيبها من جزالة الأسلوب ورنين اللفظ وعذوبة الموسيقى كبير، قال أبو نواس في مدح بعض الوزراء:
عباس عباس إذا احتدم الوغى ... والفضل فضل والربيع ربيع
وقال البحتري في النسيب:
لما مشين بذي الأراك تشابهت ... أعطاف قضبان به وقدود
ومتى يساعدنا الوصال ودهرنا ... يومان يوم نوى ويوم صدود
وقال أبو تمام في رثاء طفلين:
مازالت الأيام تخبر جاهلاً ... أن سوف تفجع مسهلاً أو عاقلا
بدران شاء الله أن لا يطلعا ... إلا ارتداد الطرف حتى يأفلا
إن الفجيعة بالرياض نواضرا ... لأجل منها بالرياض ذوابلا نصيب هذه الأبيات جميعها من الفكرة البعيدة أو النظرة المستقلة أو الشعور الصميم ضئيل. وماذا في قول أبي نواس إن العباس عباس والفضل فضل والربيع ربيع، إلا إنه ظرف وأحسن نظم تلك الأسماء مزدوجة في سلك البيت؟ وأي الناس لا يعبس إذا احتدم الوغى؟ ولو قال: عباس بسام لكان وصفه بالشجاعة التي لا تحفل بالموت المحدق. ثم ماذا من جديد في جمع البحتري بين الغصون والقدود وشكواه النوى والصدود، أو في تشبيه أبي تمام للطفلين بالبدرين الآفلين مرة وبالروضين المصوحين أخرى؟ إنما فضيلة هذا الشعر كله حسن اختيار اللفظ النقي وجمال الموسيقى ولطافة التقسيم والمقابلة، أما المعنى فلا عمق فيه ولا ابتكار
فالاحتفاء باللفظ ولو على حساب المعنى قد تزايد في العربية تدريجاً مع دخول الأدب طوره الفني، طور التدوين والتجويد، وتزايد الولع بالتسجيع والمطابقة وغيرهما من المحسنات اللفظية. وكاد الولع بالسجع عند الصاحب بن عباد فيما روي يبلغ حد الجنون، حتى قيل إنه عزل قاضياً بناحية يقال لها (قم) لأنه أراد أن يتم سجعة فقال: أيها القاضي بقم، قد عزلناك فقم. وتكلف في بعض أسفاره كما حدث عنه ابن العميد أن يذهب إلى قرية غامرة ذات ماء ملح يقال لها النوبهار لا لشيء إلا ليكتب إليه: كتابي هذا من النوبهار، يوم السبت نصف النهار، ومازال اللفظ يستبد باحتفال الأدباء ويطغى على المعنى، حتى ارتد الأدب في عصور التدهور زخرفاً لفظياً صرفاً، ولم يبق من المعنى إلا هذيان كهذيان المخالطين
فلا نبالغ إذا قلنا إن المعنى كان في أزهر عصور الأدب العربي يحتل المكان الثاني بعد اللفظ، وهذا واضح في أقوال النقاد. قال الآمدي في موازنته بين الطائيين: (وليس الشعر عند أهل العلم به إلا حسن التأني وقرب المأخذ واختيار الكلام ووضع الألفاظ في مواضعها. . . . فإن اتفق مع هذا معنى لطيف أو حكمة غريبة أو أدب حسن فذلك زائد في بهاء الكلام، وإن لم يتفق فقد قام الكلام بنفسه واستغنى عما سواه). وقال الخليلي في سياق حديث له أورده ياقوت في ترجمة الصاحب بن عباد: (الشاعر يطلب لفظاً حراً ومعنى بديعاً ونظماً حلواً وكلمة رشيقة ومثلاً سهلاً ووزناً مقبولاً)، فكل الاهتمام هنا موجه إلى لطافة النسج والتجويد لا إلى عمق الفكرة والشعور كان الشعراء في الجاهلية وصدر الإسلام يرسلون القول على سجيته في نسج محكم يرمون به إلى بيان أفكارهم وشعورهم على أقصد سبيل وأقربه، فلما كان عهد التحضر والتثقف أحاطت بالأدب عوامل أدت إلى تقديم اللفظ على المعنى، منها فساد اللغة بمخالطة الأعاجم فاشتد الحرص على طلب اللغة الصحيحة وإتقان أساليب العرب الأقحاح وتقليد فحول المتقدمين. وزاد هذا الحرص شدة اشتغال الأعاجم أنفسهم بالأدب وجدهم في تحصيل لغة العرب ولسان الكتاب المنزل، وسبقهم في العلوم والتأليف، وتفاصحهم بمحاكاة أدب الجاهلية وصدر الإسلام، وتظاهرهم بالقدرة على التصرف في الألفاظ والتراكيب، فكان همهم صحة التعبير وبلاغته قبل صدق المعنى وعمقه
ومما زاد الأدباء انصرافاً إلى اللفظ وتجويده واختيار الأسلوب والافتتان في صياغته وتحويره، انتشار المدح والتكسب بالأدب، فإنه لما كانت الفضائل الإنسانية، ولاسيما تلك التي كانت مشهورة مطلوبة في المجتمع الإسلامي، محدودة معروفة، كان مجال القول فيها محدوداً ومجال الابتكار ضيقاً، فطلب الشعراء المداحون السعة في جانب اللفظ، يتأنقون في تزويقه وترصيعه، ويعتاضون عن الابتكار في المعاني بالأوزان الرشيقة والقوافي الرخيمة والتشبيهات اللبيقة، والتقسيم والمقابلة والسجع والتجنيس. وبهذه المحسنات البديعية - ما راق منها وما سمج - تحفل مدائح أبي نواس وأبي تمام والبحتري والمتنبي وابن الرومي، إذا جردت من زيناتها اللفظية لم يبق من نسيبها الاستهلالي ومدحها المغرق شئ ذو بال؛ من ذلك قول أبي تمام في مدح بعض القواد، ولا داعي لذكر اسم ذلك القائد أو صفته، فما كان لكل ذلك أي دخل في نظم مثل ذلك القصيد:
وجرد من آرائه حين أضرمت ... به الحرب حداً مثل حد المناصل
وسارت به بين القنابل والقنا ... عزائم كانت كالقنا والقنابل
وقد ظللت عقبان أعلامه ضحى ... بعقبان طير في الدماء نواهل
فكل هذه المعاني الدائرة حول شجاعة القائد وأمرائه التي تفوق الجيوش، وعزائمه التي تفل السيوف، والعقبان التي تتبع أعلامه لتنهل من دماء أعدائه، كل هذه المعاني مطروقة من قبل أبي تمام، مذكورة بعده في ميمية المتنبي المشهورة وغيره من مدائحه لسيف الدولة، ولا غرو فقد غدت أكثر معاني الأدب في أبواب المدح والهجاء والفخر والوصف والحكمة وغيرها، تراثاً متداولاً بين الشعراء من جيل إلى جيل، إذا تفنن الشاعر صاغ بعضه صياغة جديدة أو ولد منه بعض التوليد، فإذا اتفق له أن صاغ معنى قديماً صياغة جديدة يفوق صياغة صاحبه الأول صفق له النقاد وقالوا سرقة مغفورة ولص ظريف هو أولى بالمعنى من صاحبه لأنه أجود لفظاً، كما قيل في بيت البحتري في مدح المتوكل:
فلو أن مشتاقاً تكلف فوق ما ... في وسعه لمشى إليك المنبر
أخذه وتصرف فيه من قول أبي تمام:
تكاد مغانيه تهش عراصها ... فتركب من شوق إلى كل راكب
كان الشعراء إذا صرفوا القول إلى المديح أتوا بالمعاني الجوفاء الهزيلة، واحتفوا باللفظ يدارون بزخارفه ركاكة المعنى، وكان أكبر شعراء العربية في طور الأدب الفني مداحين، فامتلأ الأدب العربي بذلك الضرب السقيم المعاني الطنان الألفاظ؛ وإنما كان الشعراء يبتكرون المعاني الجيدة يلبسونها من اللفظ أجمل لبوس حين ينظمون في غير المديح من الوجوه التي يدفع إلى النظم فيها شعور صحيح وفكر ثاقب، فكانت من ذلك حكم المتنبي وأوصاف ابن الرومي ونظرات المعري، كما ظهرت في الأدب العربي تلك الظاهرة الفريدة، وهي أن أشعار كثير من المقلين وممن يعدون في الطبقة الثانية من الشعراء كالصولي والإمام الشافعي، تروع النفس بصدقها وحصافتها، أكثر مما تروعها أشعار المكثرين المشهورين، لأن أولئك المقلين كانوا لا ينظمون الشعر إلا تلبية لحافز نفسي، وهؤلاء المكثرين كانوا ينظمون ابتغاء التوال
ومن عوامل احتفاء أدباء العربية باللفظ أيضاً، أن الأدب العربي في ظل الدولة الإسلامية كان أكبره أدباً بلاطياً وأرستقراطياً، مكفوفاً عن شؤون المجتمع، منزوياً عن أكثر مواضيع القول ومجالات الفن ومسارح الأدب، من وصف الطبيعة والتأليف التاريخي الفني ووصف آثار الأقدمين في عالم الحضارة والفنون، وسبحات الخيال في عوالم الحقيقة والخرافة، وتصوير آثار الرحلات والمغامرات، فلما حرم الأدب طرق هذه المواضيع الجمة الخصبة الحافلة بمنادح التفكير والشعور والقول، لم يبق لديه كبير مجال للابتكار في المعاني، فتوفر على الافتنان في الألفاظ يدور بها في مجالاته المحدودة الموروثة عن المتقدمين.
وزاد مجال القول ضيقاً حرمان الأدب العربي من الاطلاع على الأدب اليوناني؛ فلو كان على اتصال مستمر بذلك الأدب، لتمهدت أمامه منادح للقول من جهة، ولانصرف اهتمامه من جهة أخرى إلى المعاني دون الألفاظ، لأن المعاني دون الألفاظ هي التي تتشارك فيها آداب الأمم المختلفة، أما أدباء العربية الذين لم يطلعوا على أدب أجنبي راق، فكان اعتدادهم بتفوق اللغة العربية على اللغات شديداً، وكانت ألفاظها وتعبيراتها تقوم في مخيلتهم مقام الحقائق المتحجرة، وكان التجويد في استخدام تلك الألفاظ والتعبيرات في الأبواب المطروقة من قديم غاية الأديب، فظل بيت زهير بن أبي سلمى الذي قاله في عهد البداوة، يصدق على شعراء العربية في أوج عهد الحضارة والثقافة:
ما أرانا نقول إلا معاراً ... أو معاداً من قولنا مكروراً
ثم لاشك في أن حياة الترف وزخارف العيش التي انغمس فيها العرب بعد الفتوح، وأبهة البلاط التي كان الأدباء يحومون حولها ويتزاحمون في مواكبها، كانت من أسباب شيوع الزخرف في الأدب الذي هو مرآة للحياة المحيطة به، فإذا كان الأدب الفارسي قد كان في ذلك العهد من الضآلة بحيث لم يؤثر كثيراً في أدب العرب، فقد أثر الفرس في الأدب العربي بمظاهر الترف والبذخ المادية التي نقلها عنهم العباسيون وتركت آثارها في الأدب، وهذا الترف الأدبي كالترف المادي دليل الرخاوة والضعف، والسير إلى الانحلال.
وقد ساعدت طبيعة اللغة العربية ذلك الميل الذي غلب على أدبائها، الميل إلى التأنق في اللفظ، وتثقيله بالمحسنات التي ينوء المعنى تحتها ويتضاءل، وذلك لما للغة العربية من بلاغة أصيلة وموسيقى فخمة، وما لألفاظها وتراكيبها في النفوس من روعة وبهاء، وما لأوزان الشعر العربي وقوافيه من رصانة وجلال، وما للغة من ثروة طائلة وغنى بطرق الاشتقاق وامتلاء بالمترادفات، واتساع لصنوف التشبيهات والمجازات، بحيث يستطيع المتمكن من كل هذا أن يجمع حوله المستجيدين ويستولي على الألباب، دون أن يبتدع في المعنى أو يتعمق في الشعور. كما تصرفك عذوبة اللحن الموسيقي عن تفاهة المعنى المتغنى به؛ وقد استغل كتاب العربية كابن العميد والصاحب والبديع والحريري ثروة اللغة هذه أبعد استغلال، وجاءت رسائلهم ومقاماتهم معارض مائجة بتلك الكنوز العظيمة
ففي الأدبين العربي والإنجليزي آثار بالغة حد الفن من الصدق والعمق والجمال، تجمع بين حرارة الشعور وجودة الأسلوب؛ غير أن الأدب العربي لإحاطة تلك الظروف والعوامل به، أحفل من الأدب الإنجليزي بالآثار التي يغلب فيها اللفظ على المعنى، وتظهر الصنعة على الطبع، وتبدو في دلائل الاحتفاء بالأسلوب واضحة، حتى في مخلفات أكبر أدبائه وأعظمهم حظاً من النبوغ والشاعرية. ويعد بين أقطابه أفراد لم تؤثر عنهم فلسفة في الحياة خاصة أو شخصية مستقلة، ولم يرفع ذكرهم إلا اقتدارهم على تصريف الكلام، ويمتلئ الأدب بآثار أولئك الأدباء التي تعجب بحلاوة أسلوبها وإن لم تعجب بعمق فكرتها، فلسنا نسرف إذا قلنا في الجملة إن الأدب العربي كان أدب أسلوب، والأدب الإنجليزي أدب معنى
فخري أبو السعود