مجلة الرسالة/العدد 204/خاتمة المأساة الأندلسية
→ الخادمة | مجلة الرسالة - العدد 204 خاتمة المأساة الأندلسية [[مؤلف:|]] |
في الأدب المقارن ← |
بتاريخ: 31 - 05 - 1937 |
الصراع الأخير بين الموريسكيين وأسبانيا
للأستاذ محمد عبد الله عنان
(2)
سرى إلى الموريسكيين يأس بالغ يذكيه السخط العميق فعولوا على الثورة مؤثرين الموت على ذلك الاستشهاد المعنوي الهائل. ونبتت فكرة الثورة أولاً في غرناطة حيث يقيم أعيان الموريسكيين، وحيث كانت جمهرة كبيرة تحشد في ضاحية (البيازين)؛ وكان زعيم الفكرة ومثير ضرامها موريسكي يدعى فرج بن فرج؛ وكان ابن فرج صباغاً بمهنته،؛ ولكنه حسبما تصفه الرواية القشتالية كان رجلاً جريئاً وافر العزم والحماسة، يضطرب بغضاً للنصارى، ويتوق إلى الانتقام الذريع منهم؛ ولا غرو فقد كان ينتسب إلى بني سراج وهم من أشراف غرناطة وفرسانها الأنجاد أيام الدولة الإسلامية. وكان ابن فرج كثير التردد على أنحاء البشرات، وثيق الصلة بمواطنيه؛ فاتفق الزعماء على أن يتولى حشد قوة كبيرة منهم تزحف سراً إلى غرناطة وتجوز إليها من ضاحية البيازين، ثم تفاجئ حامية الحمراء وتسحقها وتستولي على المدينة، وحددوا للتنفيذ (يوم الخميس المقدس) من شهر أبريل سنة 1568 إذ يشغل النصارى عندئذ باحتفالاتهم وصلواتهم؛ ولكن أنباء هذا المشروع الخطير تسربت إلى السلطات منذ البداية فاتخذت التحوطات لدرئه، وعززت حامية غرناطة، وحاميات الثغور، واضطر الموريسكيون إزاء هذه الأهبة أن يرجئوا مشروعهم إلى فرصة أخرى
واستمر الموريسكيون على عزمهم وأهبتهم، ووجهوا بعض الكتب خفية إلى أمراء الثغور في المغرب يطلبون إليهم الغوث والعون؛ فوقع كتاب منها في يد حاكم غرناطة؛ وتقول الرواية القشتالية أنه كان موجهاً من أحد زعماء البيازين إلى مسلمي الثغور المغربية يستحلفهم فيه الغوث بحق روابط الدين الدم ويقول: (لقد غمرتنا الهموم، وأعداؤنا يحيطون بنا إحاطة النار المهلكة. إن مصائبنا لأعظم من أن تحتمل، ولقد كتبنا إليكم في ليال تفيض بالعذاب والدمع، وفي قلوبنا قبس من الأمل، إذا كانت ثمة بقية من الأمل في أعماق الروح المعذب). ولكن الحكومات المغربية كانت مشغولة بمشاكلها الداخلية، فلم يلب داعي الغوث سوى جماعة من المتطوعين الذين نفذوا سراً إلى إخوانهم في البشرات، ومنهم كثيرون من البحارة المجاهدين الذين كانوا حرباً عواناً على الثغور والسفن الأسبانية في ذلك العصر
وفي شهر ديسمبر سنة 1568، وقع حادث كان نذير الانفجار؛ إذ اعتدى الموريسكيون على بعض المأمورين والقضاة الأسبانيين في طريقهم إلى غرناطة ووثبت جماعة منهم في نفس الوقت بشرذمة من الجند كانت تحمل كمية كبيرة من البنادق وفتكت بهم جميعاً. وفي الحال سار ابن فرج على رأس مائتين من أتباعه ونفذ إلى المدينة ليلاً، وحاول تحريض مواطنيه في البيازين على نصرته ولكنهم أبوا أن يشتركوا في مثل هذه المغامرة الجنونية وقد كان موقفهم حرجاً في الواقع لأنهم يعيشون إلى جانب النصارى على مقربة من الحامية وهم أعيان الطائفة ولهم في غرناطة مصالح عظيمة يخشون عليها من انتقام الأسبان؛ بيد أنهم كانوا من وراء الثورة يؤيدونها برعايتهم ونصحهم ومالهم فارتد ابن فرج على أعقابه واجتاز شعب جبل شلير (سييرا نفادا)، إلى الهضاب الجنوبية فيما بين بلش (فيليز) والمرية، فلم تمضي بضعة أيام حتى عم ضرام الثورة جميع الدساكر والقرى الموريسكية في أنحاء البشرات، وهرعت الجموع المسلحة إلى ابن فرج ووثب الموريسكيون بالنصارى القاطنين فيما بينهم ففتكوا بهم ومزقوهم شر ممزق
- 3 -
اندلع لهيب الثورة في أنحاء الأندلس ودوت بصيحة الحرب القديمة وأعلن الموريسكيون استقلالهم واستعدوا الخوض معركة الحياة والموت، وبدأ الزعماء باختيار أمير يلتفون حوله، ويكون رمز ملكهم القديم فوقع اختيارهم على فتى من أهل البيازين يدعى الدون فرناندو دي فالور؛ وكان هذا الاسم النصراني القشتالي يحجب نسبة عربية إسلامية رفيعة ذلك أن فرناندو دي فالور كان ينتمي في الواقع إلى بني أمية وكان سليل الملوك والخلفاء الذي سطعت في ظلهم الدولة الإسلامية في الأندلس زهاء ثلاثة قرون، وكان فتى في العشرين تنوه الدواية القشتالية المعاصرة بوسامة محياه، ونبل طلعته؛ وكان الأمير الجديد يعرف خطر المهمة التي انتدب لها، ولكنه كان يضطرم حماسة وجرأة وإقداماً، ففي الحال غادر غرناطة سراً إلى الجبال ولجأ إلى شيعته آل فالور في قرية بزنار، فهرعت إليه الوفود والجموع من كل ناحية، واحتفل الموريسكيون بتتويجه في احتفال بسيط مؤثر، فرشت فيه على الأرض أعلام إسلامية ذات أهلة فصلى عليها الأمير متجهاً صوب مكة، وقبل أحد أتباعه الأرض رمزاً بالخضوع والطاعة، وأقسم الأمير أن يموت في سبيل دينه وأمته، وتسمى باسم ملوكي عربي هو محمد بن أمية صاحب الأندلس وغرناطة. واخنار محمد عمه الملقب (بالزغوير) قائداً عاماً لجيشه، وقد كان صاحب الفضل الأكبر في اختياره للرياسة، وبعث ابن فرج على رأس بعض قواته إلى هضاب البشرات ليجمع ما استطاع من أموال الكنائس، واتخذ مقامه في أعماق الجبال في مواقع منيعة، وبعث رسله في جميع الأنحاء يدعون الموريسكيين إلى خلع طاعة النصارى والعودة إلى دينهم القديم
ووقعت نقمة الموريسيكيين بادئ ذي بدء على النصارى المقيمين بين ظهرانيهم في أنحاء البشرات ولاسيما القسس وعمال الحكومة؛ وكان هؤلاء يقيمون في محلات متفرقة سادة قساة يعاملون الموريسيكيين بمنتهى الصرامة والزراية، وكان القسس بالأخص أس بلائهم ومصائبهم؛ ومن ثم فقد كانوا ضحايا الفورة الأولى. وانقض ابن فرج ورجاله على النصارى في تلك الأنحاء فمزقوهم تمزيقاً. وقتلوا القسس وعمال الحكومة، ومثلوا بهم أشنع تمثيل، وكانت حسبما تقول الروايات القشتالية مذبحة عامة لم ينج منها حتى النساء والأطفال والشيوخ؛ وذاعت أنباء المذبحة الهائلة في غرناطة فوجم لها الموريسيكيون والنصارى معاً، وكل يخشى عواقبها الوخيمة، وكان الموريسكيون يخشون أن يبطش النصارى بهم انتقاماً لمواطنيهم، وكان النصارى يخشون أن يزحف جيش الموريسكيين على غرناطة فتسقط المدينة في يدهم وعندئذ يحل بهم النكال الرائع. بيد أن الرواية القشتالية تنصف هنا محمد بن أمية فتقول أنه لم يحرض على هذه المذابح ولم يوافق عليها، بل لقد ثار لها وعزل نائبه ابن فرج عن القيادة، فنزل عنها راضياً واندمج في صفوف المجاهدين، وهنا يختفي ذكره ولا يبدو على مسرح الحوادث بعد
- 4 -
وكانت غرناطة في أثناء ذلك ترتجف سخطاً وروعاً؛ وكان حاكمها المركيز منديخار يتخذ الأهبة لقمع الثورة منذ الساعة الأولى، بيد أنه لم يكن يقدر مدى الانفجار الحقيقي، فغصت غرناطة بالجند، ووضع الموريسكيون أهل البيازين تحت الرقابة رغم احتجاجهم وتوكيدهم بأنهم لا علاقة لهم بالثائرين من مواطنيهم؛ وخرج منديخار من غرناطة بقواته في 2 يناير سنة 1569 تاركاً حكم المدينة لابنه الكونت تنديلاً، وعبر جبل شلير (سييرا نفادا) وسار تواً إلى أعماق البشرات حيث يحتشد جيش الثوار؛ وكان محمد ابن أمية متحصناً بقواته في آكام بوكيرا الوعرة، وكان الموريسكيون رغم نقص مواردهم وسلاحهم قد حذقوا حرب الجبال ومفاجآتها. فما كاد الأسبان يقتربون منهم حتى انقضوا عليهم، ونشبت بين الفريقين معركة عنيفة، ارتد الموريسكيون على أثرها إلى سهول باترنا، وتخلف كثيرون منهم ولاسيما النساء، ففتك الأسبان بهم فتكاً ذريعاً، وحاول منديخار أن يتفاهم مع الثائرين على العفو وأن يخلدوا إلى السكينة، وبعث إليهم بعض المسالمين من مواطنيهم، وكان محمد بن أمية يميل إلى الصلح والتفاهم، ولكن المتطرفين من أنصاره ولاسيما المتطوعين المغاربة رفضوا الصلح، فاستؤنفت المعارك، ورجحت كفة الأسبان وهزم الموريسكيون مرة أخرى، وفر محمد بن أمية وأسرت أمه وزوجه وأخواته؛ وأصيب الأسبان بهزيمة شديدة في آكام (جواخاريس) ولكن الموريسكيين آثروا الارتداد؛ وقتل الأسبان من تخلف منهم أشنع قتل. وكان ممن تخلف زعيم باسل يدعى (الزمار) أسره الأسبان مع ابنته الصغيرة وأرسلوه إلى غرناطة حيث عذب عذاباً وحشياً إذ نزع لحمه من عظامه حياً، ثم مزقت أشلاؤه؛ وهكذا كانت أساليب الأسبان ومحاكم التحقيق أزاء العرب المنتصرين
واختفى محمد بن أمية مدى حين في منزل قريبه (ابن عبو) وكان من أنجاد الزعماء أيضاً. وطارده الأسبان دون أن يظفروا به. على إن هذه الهزائم الأولى لم تفل عزم الموريسكيين فقد احتشدوا في شرق البشرات في جموع عظيمة وأخذوا يهددون المريه، فسار إليهم المركيز (لوس فيليس) على رأس جيش آخر، ووقعت بين الفريقين عدة معارك شديدة قتل فيها كثير من الفريقين، ومزق الموريسكيون، وفتك الأسبان كعادتهم بالأسرى وقتلوا النساء والأطفال قتلاً ذريعاً
وقعت في نفس الوقت في غرناطة مذبحة مروعة أخرى فقد كان في سجنها العام نحو مائة وخمسين من أعيان المريسكيين اعتقلوا رهينة وكفالة بالطاعة فأذاع الأسبان أن الموريسكيين سيهاجمون غرناطة لإنقاذ السجناء بمؤازرة مواطنيهم في البيازين؛ وعلى ذلك صدر الأمر بإعدام السجناء فانقض عليهم الجند وذبحوهم في مناظر مروعة من السفك الأثيم
وكان لهذا الحادث الأخير أثره في إذكاء نار الثورة، وكان نذيراً للموريسكيين بأن الموت في ساحة الحرب خير مصير يلقون. فسرى إليهم لهب الثورة بأشد من قبل وطافت بهم صيحة الانتقام فانقضوا على الحاميات الأسبانية المبعثرة في أنحاء البشرات ومزقوها تمزيقاً وهزموا قوة أسبانية تصدرت لقتالهم واحتشدت جموعهم مرة أخرى تملأ الهضاب والسهل؛ وعاد محمود بن أمية ثانية إلى تبوأ عرشه الخطر، والتف حوله الموريسكيون أضعاف ما كانوا، وبعث أخاه عبد الله إلى القسطنطينية يطلب العون من سلطانها، ولكن سلاطين قسطنطينية لم يلبوا ضراعة الموريسكيين برغم تكرارها منذ سقوط غرناطة ولم يلبها غير إخوانهم المجاهدين في أفريقية، فقد استطاعت جموع جريئة مخاطرة منهم أن تجوز الشواطئ الأسبانية ومنهم فرقة من الترك المرتزقة وأن تهرع إلى نصرة المنكوبين
وهكذا عاد النضال إلى أشده، وخشي الأسبان من احتشاد الموريسكيين في البيازين ضاحية غرناطة، فصدر قرار بتشريدهم في بعض الأنحاء الشمالية، وكانت مأساة جديدة مزقت فيها هذه الأسر التعسة وفرق فيها بين الآباء والأبناء، والأزواج والزوجات في مناظر مؤثرة تذيب القلب، وسار المركيز لوس فيليس في نفس الوقت إلى مقاتلة الموريسكيين في سهول المنصورة على مقربة من أراضي مرسية، ونشبت بينه وبينهم عدة وقائع غير حاسمة، ولم يستطع متابعة القتال لنقص في الأهبة والمؤن وكان بينه وبين زميله منديخار خصومة ومنافسة كانتا سبباً في اضطراب الخطط المشتركة، واتهم منديخار بالعطف على الموريسكيين فاستدعي إلى مدريد، وأقيل من القيادة، واتخذت مدريد خطوتها الجديدة الحاسمة في هذا الصراع الذي لا رحمة فيه ولا هوادة
(للبحث بقية)
(والنقل ممنوع)
محمد عبد الله عنان