مجلة الرسالة/العدد 199/الكتب
→ النقد | مجلة الرسالة - العدد 199 الكتب [[مؤلف:|]] |
العَالم المسرحيّ والّسِينمائِي ← |
بتاريخ: 26 - 04 - 1937 |
(1) الحاكم بأمر الله وأسرار الدعوة الفاطمية
تأليف الأستاذ محمد عبد الله عنان
(2) من حديث الشرق والغرب
تأليف الدكتور محمد عوض
للأستاذ محمود الخفيف
هما كتابان، أشعر بكثير من الغبطة إذ أقدمهما للقراء على صفحات الرسالة، ذلك لأني أرى في كليهما مظهراً من مظاهر الحركة الفكرية الحديثة في مصر، جديراً بالاعتبار والعناية.
أما أولهما فأثر جديد من آثار الأستاذ عنان، والأستاذ عنان كما أعتقد، قد أصبح بآثاره وبحوثه ناحية مستقلة في نهضة التأليف المعاصرة، ذلك أن آثاره تمتاز جميعاً بما تمتاز به الآثار العلمية القيمة، من دقة البحث، مع استقامة النهج ووضوح الغاية، وقوة الأسلوب؛ هذا إلى أصالة وسلامة منطق وبسطة في العلم، تظهر كلها واضحة في تمحيص الروايات المختلفة فيما يعرض الأستاذ من حوادث وفيما يسرد من وجوه الرأي.
عرفنا له تلك الخلال فيما سلف من آثاره، وإنا لنراها اليوم على خير ما يرجى من كتابه هذا، فهو يدور حول موضوع كان ولازال مثار الجدل الشديد ومبعث التناقض والاضطراب؛ ومن ثم فهو موضوع تظهر فيه مدى قوة المؤلف ونشاط ذهنه، وحسبك الحاكم بأمر الله وحوادث عصره، وما اكتنف شخصه من غموض وخفاء.
على أن الكتاب لا يدور كله على الحاكم، بل إن نصيب الحاكم منه لا يزيد على نصفه بكثير. ولقد أحسن الأستاذ صنعا، إذ جعل بقية الكتاب لدراسة أسرار الدعوة الفاطمية وخواص العصر الفاطمي، هذا إلى ما أورده الأستاذ في نهاية كتابه من الوثائق والسجلات الفاطمية.
مهد الأستاذ عنان لبحثه بمقدمة موجزة متينة عن حال مصر قبيل الفتح الفاطمي، ثم بكلمة عن نشأة تلك الدولة في مهدها، وذكر بعد ذلك فتح مصر وأورد طرفاً من سيرتي المعز والعزيز، كل ذلك في إحكام المؤرخ المتمكن الذي يستطيع على رغم الإيجاز أن يمهد السبيل لموضوعه خير تمهيد.
تناول الأستاذ بعد ذلك سيرة الحاكم، وشرح في جزالة ووضوح خلاله وصفاته وما لجأ إليه من سفك الدماء وما أقام من مراسيم اجتماعية ودينية، وما اكتنف الدولة من الأحداث الخارجية، ثم ما كان من أمر اختفائه، ويعجبك منه في هذا القسم من كتابه مهارة مناقشته الروايات المختلفة ودقة التعليق عليها، تتبين ذلك في مثل شرحه لنسب الحاكم وأخته ست الملك، ثم فيما أورد من روايات عن صفاته ومزاجه وأخيرا في حادث اختفائه.
على أن أهم الأشياء عندي في الكتاب وأولاها بالدرس والاعتبار، هو رأي الأستاذ المؤلف في الحاكم وصفاته، وهو رأي لم يسبقه إليه غيره فيما أعرف، فالأستاذ لا يرى في الحاكم ما اعتاد المؤرخون أن يروا فيه من رجل معتوه أخرق، يبطش لمجرد البطش، ويصدر من الأحكام الغريبة ما يدل على شذوذ وحمق. بل إنه على العكس يراه مصلحاً من كبار المصلحين، كانت أعماله التي اعتاد الناس استنكارها وسائله إلى ما يتوخى من إصلاح لا أكثر من ذلك ولا أقل: نعم كان الحاكم عنده (ذهناً بعيد الغور، وافر الابتكار، وكان عقلية تسمو على مجتمعها وتتقدم عصرها بمراحل، وكان بالاختصار عبقرية يجب أن تتبوأ في التاريخ مكانها الحق)
والأستاذ لا يرسل القول جزافاً، وكيف يقع لمن كانت له مثل متانة حجته وحصافة رأيه أن يجازف برأي؟ وإنما راح الأستاذ يدافع عن رأيه هذا دفاعا قوياً يبهرك ويستميلك. أليس القتل والطغيان هما من أقوى وسائل الديكتاوريات الحديثة في إقامة نظمها؟ ثم أليست سياسة الحاكم هي السياسة الميكيافيلية التي قد يلجأ إليها كثير من الحكومات في شتى الظروف؟ أليس الحد من حرية النساء مما تلجأ إليه اليوم ألمانيا النازية وإيطاليا الفاشستية من وسائل محاربة الخلاعة والفجور اللذين يؤديان إلى انحلال المجتمع؟ إلى غير ذلك من حجج الأستاذ وآرائه النيرة الظريفة التي تشوقك وتلذك. والأستاذ لا يبرر بها مسلك الحاكم كما استدرك، ولكنه يدفع بها ما اتهم به.
بيد أني وإن أعجبتني تلك الآراء واستمالتني في كثير من المواقف، قد أحسست شيئاً من الصعوبة في أن أحمل نفسي على الأخذ ببعضها. نعم رأيت مشقة في أن أنفي الشذوذ بل الجنون عن شخص يحرم الجرجير لأنه ينسب إلى السيدة عائشة، والملوخية من أجل معاوية، والمتوكلية من أجل الخليفة المتوكل العباسي؟ وكيف أسيغ تشجيعه الدعوة الإلحادية؟ وعلى أي أساس من العقل أحمل قتله قائده الفضل بعد أن هزم أبا ركوة الذي احتل مصر؟ بل كيف يجوز في عقل خروجه ليلا إلى الجبل على ظهر حماره في غير قوة تحميه على الرغم مما كان يضطرم به المجتمع يومئذ من الرغبة في الانتقاض عليه والتخلص من طغيانه.
على أن الأستاذ يصرح في نزاهة المؤرخ وإنصافه (أنه ليس يدعي أنه يستطيع أن يعلل كل قوانين الحاكم وإجراءاته وتصرفاته أو أن ينفذ إلى بواعثها وحكمتها جميعاً، فهناك كثير منها مما لا يستطاع فهمه وتعليله)
وقصارى في هذا المجال الضيق أن أعلن إعجابي بهذا الكتاب، وأن أنوه بما أفدته من دراسة أسرار الدعوة الفاطمية ونواحي العصر الفاطمي، ذلك العصر الفذ الذي تجد من آثاره الأزهر المعمور - دراسة لم أظفر بمثلها فيما كتب حديثاً عن الدولة الفاطمية. وكم كان عظيما من الأستاذ عنان ذلك الجهد المرير الذي تستبينه فيما يشير إليه من مراجع مكتوبة وخطية ليس ثمة من يستوعبها إلا من كان له مثل جلده ودأبه وإخلاصه. ولا عجب أن جاء كتابه مظهراً من مظاهر الجد والقوة في نهضتنا الأدبية، وهو مطبوع طبعاً جميلا في دار النشر الحديث ويقع في مائتين وست وسبعين صفحة من القطع الكبير، بآخره ثبت حافل للمصادر، وفهرس أبجدي عام
- 2 -
يأتي بعد ذلك الكتاب الثاني (من حديث الشرق والغرب) للدكتور عوض، وأحب أن أتخطى الكتاب إلى صاحبه برهة فأعرض عليك طرفاً من خلاله، لا أرى مندوحة عن عرضه في مثل ذلك المقام. الدكتور المؤلف بما له من مكانة في حياتنا الأدبية غني عن التعريف، ولكني أذكر لمن لم يعرفه إلا في آثاره أن من أبرز صفاته الذكاء الحاد وعذوبة الروح ومحبة الأدب حباً صادقاً، حتى لو أنه حاول بكل ما في وسعه أن يهجر الأدب لما استطاع ذلك الهجران؛ محدث ماهر طلي الحديث، يميل إلى الفكاهة ولكنها الفكاهة التي يتخللها الجد المرير في غالب المواقف؛ يحب قومه وبلاده حباً مؤكداً؛ مثقف من الطراز الأول في الأدبين العربي والغربي
ذكرت من خلاله ما ذكرت لأمر يعنيني الساعة، ذلك أن كتابه الذي أقدمه لك صورة صادقة من شخصه، وذلك لعمري خير ما يوصف به كتاب لصاحبه مثل هاتيك الخلال. ولا جرم أن الصدق في الآثار الأدبية أكبر عامل في نفاذها إلى القلوب ودوامها على الأيام، وإنك لتجد الصدق في هذا الكتاب في مقدمة فضائله
وبعد فما موضوع هذا الكتاب؟ أهو سلسلة مقالات في شتى الفنون؟ كلا فلست تجد فيه ما تجد غالباً في المقالات من غلظة وثقل يتقاضيانك كد ذهنك والتحامل على نفسك. إذا فهل هو قصة أو مجموعة من الأقاصيص؟ كلا ليس هو من ذلك الفن من فنون الأدب وإن كنت تحس روح القصة وتتمثل شبحها في كثير من مواضعه. ليس الكتاب من أدب المقالة وإن كان موضوعات متفرقة، ولا هو من القصة وإن كان للكثير من موضوعاته شبحها، وإنما هو (حديث) نعم هو (أساطير وخاطرات خطرت ملكت على الفكر سبله فلم يستطع تشريدها أو الفرار منها)
ينتظم هذا الكتاب ما جاشت به نفس صاحبه من معان وخطرات، فإذا عدت إلى ما سردت عليك من خلاله، أمكنك أن تدرك موضوع الكتاب جملة وتلمح شيئا من روحه.
ذكرني هذا الكتاب الطريف الفذ، بآثار الأديبين الإنجليزيين الكبيرين (اديسون) وصاحبه (ستيل). عمد هذا الكاتبان في كثير مما كتبا في مستهل القرن الثامن عشر إلى نقد بعض أحوال المجتمع ودراسة بعض الأشخاص، بطريقة لطيفة هادئة، لا ترى فيها أثرا للهجوم اللاذع ولا التجريح القاسي البغيض، بل ترى الرفق واللين اللذين يفعلان ما لا يستطيع العنف أن يفعل، كل ذلك في خفة روح ورقة دعابة وروعة تصوير
وأنت ترى ذلك واضحا في كتاب الدكتور عوض، وإني أقرر هنا أنه ما قصر به فنه عن فنهما، ولا نزل به أسلوبه عن مستواهما؛ بل لست أغلو أن ذكرت أن بعض قطع عوض قد فاقت عندي بعضا مما قرأت لهما. خذ لذلك مثلا (في طريق البغال) و (الثور في مستودع الخزف) و (معهد الطفيليات)
اقرأ تلك وأمثالها، فلا يسعك إلا أن تسلم معي أنه يحق لأدبنا العصري أن يفخر بها. ثم اقرأ تلك القطعة: (الكائن الممسوخ) وانظر كيف كان الدكتور ماهرا مهارة يستحق عليها كل ثناء وتقريظ في معالجة هذا الداء الوبيل، داء الاهتمام بكل ما هو غربي في رفق وقوة معا. لقد أعجبتني تلك القطعة بنوع خاص، وأني أدعو شبابنا إلى قراءتها وأستحثهم على ذلك
الكتاب كله كما قدمت صورة من نفس صاحبه، فسواء استمعت إلى الدكتور أو قرأت له، فستجد الأمر سواء. فستظفر بعذوبة روحه في فكاهاته البارعة، وخطرات نفسه في تهكمه الرقيق العميق، كما ستلمس سموه فيما يتوخى من غرض وما يحرص على بلوغه من غاية. هذا وتحملني صراحة الدكتور أن أذكر له قطعتين لم أسغهما كما كنت أحب، هما (عاصفة في قدح) و (عقد من اليشب). ذلك أني لم أجد محلا للملكين في القطعة الأولى، ولا انسجاما في الزمن في القطعة الثانية. ولقد أذكر أيضا أني لم أفهم ما الذي أحال العسل خلا في قطعة (ثم أرادت أن تجعل منه رجلا) فجعل الزوج بغيضا في عين زوجته
وإني لأحس أن أدب الدكتور أعز علي من أن أمر على بعض هنات سقطت إلى أسلوبه دون أن أشير إليها، ذلك أنه يضع في كلامه عبارات معروفة تظهر نابيه حين يوردها في غير مواضع المزاح كقوله (أذن مؤذن الطعام) ثم كنت أعثر على بعض الأخيلة التي لم أسغها، كقوله: (الهواء مغرب في الضحك) و (سنديان الشقاء) و (مطرقة البلاء) و (شمر عن ساعد الفلسفة) وأمثالها.
على أن هذه كما ذكرت هنات ما أشرت إليها إلا لأني رأيتها غريبة وسط هذا الأسلوب المشرق البديع، في هذا الكتاب الذي أحببته وأكبرته، وأعتقد أن القراء سيحبونه مثل ما أحببت، ويكبرونه مثل ما أكبرت.
(الخفيف)