مجلة الرسالة/العدد 196/علم التاريخ عند العرب
→ الفداء | مجلة الرسالة - العدد 196 علم التاريخ عند العرب [[مؤلف:|]] |
التصوف الفلسفي في الإسلام ← |
بتاريخ: 05 - 04 - 1937 |
للأستاذ عبد الحميد العبادي
التأريخ بالهمز والتاريخ بدون همز، والتوريخ، تعريف الوقت. وهو لفظ عربي أصيل، وقيل بل دخيل مأخوذ من أصل سرياني معناه (الشهر): وكانوا قبل الإسلام يوقتون بالنجوم والأهلة يكبسون الشهور إلحاقاً للسنة القمرية بالسنة الشمسية؛ وكانوا يؤرخون من الحوادث العظام والوقائع المشهورة كعام الفيل وبناء الكعبة ونحوهما. فلما كانت خلافة ثاني الخلفاء أمر عمر الناس فأخروا من عام الهجرة، ومضى الأمر على ذلك حتى يومنا هذا
هذا في اللغة؛ أما في الاصطلاح فالتاريخ عندهم فن يبحث عن وقائع الزمان من حيث توقيتها (وموضوعه الإنسان والزمان. وهو على هذا المعنى قديم عندهم، نما معرفة بسيطة ساذجة من معارف العرب قبل الإسلام، ثم تكمل على الزمن حتى أصبح علماً من أجل علومهم وأعظمها شأناً. فعرب الجاهلية كانوا لغلبة الأمية عليهم يتذاكرون أيامهم وأحداثهم من طريق الرواية الشفوية على هيئة أشعار مقصدة أو أخبار متفرقة؛ وشذ عن تلك الحال من اطرح منهم البداوة ونزل حواضر الجزيرة وخاصة أهل اليمن والحيرة، فقد نقش الأولون بالخط المسند على مبانيهم لمعا من أخبار ملوكهم وشئونهم العامة؛ ودون الآخرون بخطهم أخبار مملكتهم وأودعوها أديار الحيرة وكنائسها
فلما جاء الإسلام، وقامت الدولة العربية ومست الحاجة إلى معرفة سيرة الرسول العربي وأحواله استقصاء للسنة توفر رجال على جمع أخبار السيرة وتدوينها، فكان ذلك بدء اشتغال العرب في الإسلام بالتاريخ، وإن كان التاريخ لم يخرج يومئذ عن كونه نوعا من أنواع الحديث. وأقدم من كتب في موضوع السيرة عروة بن الزبير بن العوام المتوفى عام 93هـ، وأبان بن عثمان ابن عفان المتوفى عام 105هـ، ووهب بن منبه المتوفى حوالي عام 110هـ. ثم انتهى علم السيرة والمغازي إلى رجلين من الموالي هما محمد بن اسحق المتوفى عام 152هـ وقد اختصر سيرته ابن هشام المتوفى عام 218هـ ومختصره هذا هو الذي بأيدي الناس اليوم؛ ثم محمد بن عمر الواقدي المتوفى عام 207، وكثير من روايته مضمن في كتاب الطبقات الكبير لابن سعد المتوفى عام 230هـ هذا إلى كتاب له في مغازي الرسول مطبوع متداو وفي أثناء ذلك كانت قد تمت الفتوح العربية الكبرى ووقعت الفتن العظمى، ونبض عرق العصبية القبلية، وشاعت بين المسلمين أخبار الأمم القديمة والديانات غير الإسلامية على أيدي رجال مثل كعب الأحبار المتوفى عام 34هـ (؟) وعبيد بن شرية المتوفى حوالي عام 70هـ ووهب بن منبه المتوفى حوالي عام 110هـ فتوافرت أسباب شتى اقتضت جمع وتدوين الأخبار المتصلة بكل ذلك؛ فتدوين أخبار القدماء مثلا دعت إليه رغبة العلماء في فهم إشارات إلى الأمم الغابرة وردت في الكتاب والسنة، وميل بعض الخلفاء كمعاوية والمنصور إلى الإطلاع على سياسات الملوك ومكايدهم؛ هذا فضلا عن حرص الموالي على التنويه بمجد بلادهم القديم. ثم إن تدوين الأنساب وأيام العرب كان مطاوعة لحاجة الشعراء إليها عامة قي مقام الفخر والهجاء، وحاجة الدولة للأنساب خاصة للاستعانة بها في تقدير العطاء للجند. وكان الباعث الأقوى على تدوين أخبار الفتوح رغبة ولاة الأمور في معرفة ما فتح من البلدان صلحا، وما فتح عنوة، وما فتح بعهد، لأن لكل حكما خاصا من حيث الجزية والخراج. فلما دون ذلك كله وجد إلى جانب السيرة نوع آخر من الرواية التاريخية موضوعه أخبار الماضين، وأحوال الجاهلية، وحوادث الإسلام. وقد أطلقوا على ذلك كله لفظ (الأخبار) وعلى المتخصص في روايته (الأخباري) كما عرف المتخصص في رواية الحديث (بالمحدث). ونلحظ النقلة من الحديث إلى الأخبار في رجال خواص منهم ابن إسحاق والواقدي المتقدما الذكر. والمدائني المتوفى عام 225هـ. فكل من هؤلاء كان محدثا وأخباريا معا. كما نلحظ بداية التخصص في الأخبار في مثل محمد بن السائب الكلبي المتوفى عام 146هـ وكان مقدما في علم الأنساب، وعوانة بن الحكم المتوفى عام 147 وقد جمع أخبار بني أمية، وأبي مخنف المتوفى عام 157، وله كتب في الردة ووقعة الجمل ووقعة صفين وأخبار الخوارج. وسيف ابن عمر المتوفى عام 170 وله كتاب كبير في الفتوح، وهشام بن محمد بن السائب الكلبي المتوفى عام 204 وله في أخبار الأوائل وأيام العرب وأنسابهم وأخبار الإسلام كتب كثيرة أحصاها ابن النديم في كتاب الفهرست، وقد طبع منها حديثا (كتاب الأصنام)
وقد وجد في تلك المرحلة نوع من التخصص المحلي في رواية الأخبار، فكان لبعض الأقطار الإسلامية الرئيسية أخباريون اختصوا بجمع أخباره وتدوينها. قال ابن النديم: (قالت العلماء: أبو مخنف بأمر العراق وأخبارها وفتوحها يزيد على غيره، والمدائني بأمر خراسان والهند وفارس، والواقدي بأمر الحجاز والسيرة، وقد اشتركوا في فتوح الشام)
على أن المحدث كان عند جمهور ذلك الزمان أشرف موضوعا وأسمى منزلة من الأخباري؛ وذلك يرجع إلى شرف موضوع الحديث وإلى أن الأخبار وخصوصا قديمها كانت مظنة الأغراب والتلفيق والاختلاق. ولقد بلغ الأمر بهم أن كانوا يضعفون المحدث إذا مال إلى الأخبار، فقد ضعفوا محمد بن اسحق وكان أصلا رواية للحديث، ثم صار يحمل عن اليهود والنصارى ويسميهم أهل العلم الأول. وربما لم يستحسنوا للفقيه المختص باستنباط الأحكام الشرعية من الكتاب والسنة أن يتوفر على طلب الأخبار. ذكر ابن خلكان (أن أبا يوسف كان يحفظ المغازي وأيام العرب وأنه مضى ليستمع المغازي من محمد بن اسحق أو غيره وأخل بمجلس أبي حنيفة، فلما أتاه قال له أبو حنيفة، يا أبا يوسف! من كان صاحب راية جالوت؟ فقال له أبو يوسف: إنك إمام؛ وإن لم تمسك عن هذا سألتك والله على رؤوس الملأ أيما كان أولا، وقعة بدر أو أحد، فإنك لا تدري أيهما كان قبل الآخر، فأمسك عنه)
وجملة القول أن أهل السيرة والأخبار قد رسموا في أواخر القرن الثاني الموضوعات الأساسية للتاريخ عند العرب، وهي أموراً أربعة: (1) أخبار الماضين (2) أحوال العرب قبل الإسلام (3) السيرة (4) أخبار الدولة الإسلامية. ومن أوائل القرن الثالث إلى أوائل الرابع يلحظ الباحث زيادة جوهرية في المادة التاريخية ودقة وتحرراً في مصادرها. فقد استقرت دواوين الدولة العباسية وتمهدت قواعدها ولاسيما دواوين الإنشاء والجند والخراج والبريد، وأمكن المشتغلين بالتاريخ أن ينتفعوا بها في بحثهم، كما يؤخذ مما اشتملت عليه تواريخ القرن الثالث من عهود رسمية ومراسلات سياسية وإحصاءات للمواليد والوفيات، ومدد ولاية كبار الدولة من وزراء وقواد وعمال وقضاة وولاة لمواسم الحج ووصف للحروب الداخلية ووقائع الغزو على الحدود صيفاً وشتاء وغير ذلك. ثم إنه في العصر المذكور قويت حركة النقل عن اللغات الأجنبية كالفارسية والسريانية واليونانية واللاتينية. وقد بدأت هذه الحركة من حيث التاريخ بترجمة ابن المقفع عن الفارسية حوالي عام 140 لكتابي خدينامه وآيينامه في تاريخ الفرس وأحوالهم؛ ومن هذا القبيل كتاب عهد أردشير الذي ترجمه إلى العربية البلاذري المتوفى عام 279، ومنه أيضاً ترجمة تاريخ هيروشيوس وإن كان ذلك قد تم بالأندلس حوالي منتصف القرن الرابع. ثم إن سهولة الانتقال بين أنحاء الدولة الإسلامية حملت كثيراً من طلاب العلم والمؤرخين خاصة على الرحلة في طلب الرواية وأخذها عن الشيوخ، ولرؤية عجائب البلاد ومشاهدة آثارها، فوجد بذلك مصدر هام للمادة التاريخية هو المشاهدة والمعاينة. وعلى الجملة فإن مؤرخي القرن الثالث حددوا بصفة عامة مصادر التاريخ عند العرب فكانت أربعة أشياء (1) كتب السيرة والأخبار (2) السجلات الرسمية (3) الكتب المنقولة عن اللغات الأجنبية (4) المشاهدة والعيان
وبتعاظم المادة التاريخية وتحرر مصادرها بالقياس إلى ما كانت عليه الحال من قبل لم ير كثير من أفاضل العلماء وثقات الفقهاء باساً بالتوفر على دراسة التاريخ والتأليف فيه؛ ومن ثم أخذ التاريخ مظهره الرائع كعلم من أجل علوم المسلمين وأعظمها شأناً، وأخذ المؤرخون مكانتهم بين علماء الدولة الإسلامية كرجال لهم خطرهم في الحياة العامة سياسية كانت أو عقلية أو أدبية. وتضاءل مدلول لفظ الأخباري حتى أصبح كما فسره بعد السمعاني المتوفى عام 562 بقوله: (ويقال لمن يروي الحكايات والقصص والنوادر الأخباري) نذكر من بين مؤرخي القرن الثالث ابن قتيبة صاحب كتاب المعارف وقد توفي عام 270، والبلاذري صاحب كتابي فتوح البلدان وأنساب الأشراف وتوفى عام 279، واليعقوبي صاحب التاريخ المضاف إليه وتوفي عام 284، والدينوري صاحب الأخبار الطوال والمتوفى عام 290 وابن جرير الطبري صاحب تاريخ الرسل والملوك والمتوفى عام 310هـ
أخذت الوحدة السياسية التي انتظمت الدولة العباسية تتداعى من منتصف القرن الثالث، ولم تلبث تلك الدولة أن أصبحت مجموع دويلات عديدة يحكمها متغلبون مختلفو الأجناس في مشارق الدولة ومغاربها، وجرت اللامركزية السياسية إلى لا مركزية أدبية. فتوزعت الثقافة الإسلامية على الأمصار بعد أن كادت تكون مجموعة في حاضرة الخلافة وحدها. ونافست بغداد قرطبة والقيروان ومصر وحلب وأصفهان، وغزنة والري وبلخ وغيرها، وكثر العلماء في الأمصار كثرة عظيمة. كل ذلك أثر في كتاب التاريخ عند العرب تأثيراً كبيراً يتضح في كثرة ما ظهر ابتداء من منتصف القرن الثالث من التواريخ المحلية وكتب التراجم والطبقات خاصة؛ من ذلك تاريخ فتوح مصر والمغرب لابن عبد الحكم المتوفى عام 257، وكتاب ولاة مصر وقضاتها للكندي المتوفى عام 350 وتاريخ بغداد وأعلامها للخطيب البغدادي المتوفى عام 463، وتاريخ دمشق وأعلامها لابن عساكر المتوفى عام 571، والبيان المغرب في إخبار المغرب لابن عذارى (القرن السابع)، ومعجم الأدباء لياقوت الحموي (626)، ووفيات الأعيان لابن خلكان (681هـ) وإلى جانب ذلك ظلت سلسلة التواريخ العامة مطردة من حيث انتهى الطبري، فوضع المسعودي المتوفى عام 346 كتابيه مروج الذهب وأخبار الزمان، وصنف ابن مسكويه (421) تجارب الأمم، وابن الأثير (630) كتابه الكامل
واستتبع التفرق السياسي وهن القوة الذاتية للعالم الإسلامي فطمع فيه أعداؤه من وراء الحدود واجترءوا عليه واستباحوا حماه، وبدت مقدمات ذلك في استئساد الروم وانتقاصهم شمالي الشام في القرن الرابع، ثم أغار الصليبيون في القرن الخامس والسادس على ملك المسلمين بالمغرب والمشرق، ولم تكد تلك الغمة تنجلي عن العالم الإسلامي حتى كانت الداهية الدهياء والطامة الكبرى وهي غارة المغول، فقضى على الخلافة العباسية ودمرت معالم الحضارة الإسلامية في القارة الأسيوية تدميرا
واتضحت عبر التاريخ وصروف الزمن بعد تلك الأحداث الجسام والخطوب العظام، فكان طبيعيا أن ينحو المؤرخ الإسلامي في التاريخ تلقاء ذلك كله منحى فلسفيا عميقا فيتعرف علل الحوادث وأسباب قيام الدول وأسباب سقوطها ومظاهر العمران وأصول الاجتماع ونحو ذلك. وهذا ما صنعه فيلسوف مؤرخي العرب قاطبة عبد الرحمن بن خلدون المتوفى عام 808 في مقدمة تاريخه التي لم يكتب مثلها في الإسلام على الإطلاق. ثم لم يلبث علم التاريخ أن نظر إليه على أنه يمكن أن يكون هو نفسه محلا للتاريخ فوضع في ذلك الصفدي (764) مقدمة كتابه الوافي بالوفيات، والسخاوي المتوفى عام 902 كتابه (الإعلان بالتوبيخ لمن ذم التاريخ)
فيرى القارئ أنه فيما بين الرواية الشفوية القديمة وفلسفة التاريخ لابن خلدون وتاريخ التاريخ للسخاوي، قد نما التاريخ عند العرب وتفرع وأزهر وأثمر، فلما نضب معينه بانحلال الحياة الإسلامية العامة المستقرة جرى عليه ما يجري على الأحياء من حكم البلى والفناء متى انقطعت مادة حياتها
ذلك مجمل حال التاريخ عند العرب نشوءاً واكتمالا وهرماً وفناء؛ أما من حيث الطريقة العلمية التي اتبعوها فالتاريخ ابتدأ عندهم كما رأينا فرعاً من علم الحديث فكان حرياً أن يتأثر بطريقة المحدثين في جمع الرواية التاريخية ونقدها، فكان أهل السيرة والمغازي والأخبار يجمعون مأثور الروايات ويدونونها مع إسنادها إلى مصدره الأصلي وهو عادة رجل عدل له علم مباشر بالواقعة المروية كأن يكون عاينها أشترك فيها كما هي الحال في رواية أخبار السيرة والإسلام، أو أخذها من بعض مظانها ككتاب قديم ضاع، أو من بعض أهل البادية، وتلك كانت الحال في رواية أخبار الأمم القديمة والعرب قبل الإسلام. فكان النقد عندهم أو الجرح والتعديل كما يسمونه ذاتياً منصباً على الرواة، لا موضوعياً منصباً على المرويات. هذه الطريقة ضمنت لهم إلى حد بعيد صحة الأخبار المتصلة بالقسم التاريخي من السيرة وبحوادث الدولة الإسلامية، ولكنها عجزت عن أن تضمن لهم ذلك في أخبار القدماء والعرب قبل الإسلام والقسم الأول من السيرة. والحق أن هذه الموضوعات الأخيرة هي أضعف وأغمض نواحي كتب التاريخ عند العرب.
وإذا كان الإسناد عندهم أساس نقد الأخبار فقد كان أساس ضبطها هو التوقيت الدقيق بالسنين والشهور والأيام، وهو ضابط انفردوا به عن نظرائهم عند اليونان والرومان وأوروبا في العصور الوسطى قال المؤرخ الإنجليزي (بكل): إن التوقيت على هذا النحو لم يعرف في أوروبا قبل عام 1597. على أن هذا النظام ابتدأ ضعيفا عندهم، فكثير من حوادث الفتوح الأولى قد وقع في توقيته خلط شديد واختلاف كثير. ثم تكمل التوقيت على مر الزمن بتعدد طرق الخبر الواحد وبالأخذ عن المصادر الرسمية التي سبقت الإشارة إليها.
وقد اتبعوا طريقة علماء الحديث كذلك في تدريس كتب التاريخ وتلقيها عن مؤلفيها بالسند المتصل قراءة وسماعا وإجازة؛ فكتاب الأصنام مثلا تتصل سلسلة روايته عن ابن الكلبي من عام 201 إلى قريب من عام 500، ومثل ذلك يقال في مغازي الواقدي وكثير غيره من كتب التاريخ. وتلك مبالغة محمودة في المحافظة على النصوص التاريخية الهامة والكتب المعتبرة أمهات وأصولا.
تلك طريقتهم في جميع الرواية التاريخية ونقدها وضبطها؛ أما عرضهم لها فأصحاب السيرة والمغازي والأخباريون الأوائل كانوا يجمعون الروايات ويرتبونها بحسب موضوعاتها رسائل أو كتباً تشبه أبواب الحديث؛ ثم جاء المؤرخون فسلكوا في عرض الحوادث طريقتين أولاهما وأقدمهما الترتيب على السنين، ويظهر أن أول من صنف على هذا النمط الهيثم بن عدي المتوفى عام 207، ثم اتبعها من بعده الطبري وابن مسكويه وابن الأثير وأبو الفداء، والأخرى الترتيب على العهود، وقد جرى عليها اليعقوبي والدينوري والمسعودي وغيرهم.
ويتصل بعرض الحوادث أسلوب أدائها وتصويرها: أما الأسلوب فكان على وجه العموم سهلا غير متكلف، وأما التصوير فكان فيه وضوح وقوة وحياة كما في العقود الأولى من تاريخ الطبري وفي بعض فصول ابن مسكويه والصولي.
ويمكن تلخيص أوجه النقص في طريقتهم في أمور ثلاثة: ضعف ملكة النقد عندهم بوجه عام، وإدارتهم التاريخ على الأفراد والحروب والسياسة في أبسط صورها، وعدم عنايتهم بالشئون العامة للجماعات أو بتعليل الحوادث والنفاذ إلى أسرارها
على أنه مهما قيل في نقص طريقتهم من الناحية العلمية فحسبهم أنهم خلفوا للمؤرخ الحديث ثروة تاريخية طائلة يستطيع أن يتدارك في صياغتها ما فاتهم. وإن العالم الحديث يسجل لهم أنهم أول من حاول ضبط الحوادث بالأستاذ والتوقيت الكامل. وانهم مدوا حدود البحث التاريخي ونوعوا التأليف فيه وأكثروه إلى درجة لم يلحق بهم فيها من تقدمهم أو عاصرهم من مؤرخي الأمم الأخرى، وأنهم أول من كتب في فلسفة التاريخ والاجتماع وتأريخ التاريخ، وأنهم حرصوا على العمل جهد طاقتهم بأول واجب المؤرخ وآخره، وهو الصدق في القول والنزاهة في الحكم
عبد الحميد العبادي