مجلة الرسالة/العدد 195/من أدب التاريخ
→ حافظ إبراهيم شاعر الفخامة | مجلة الرسالة - العدد 195 من أدب التاريخ [[مؤلف:|]] |
حول مجمع اللغة العربية الملكي ← |
بتاريخ: 29 - 03 - 1937 |
قصة غرام فاطمية
موضوع مسرحية بديعة
للأستاذ محمد عبد الله عنان
تقدم إلينا صحف القصور الإسلامية طائفة من القصص الغرامية الشائقة التي امتزجت بسير الخلفاء أو السلاطين؛ بيد أن هذه القصص المشرقية بالرغم من ألوانها المشجية المؤسية أحياناً لا تحمل دائماً ذلك الطابع الروائي العنيف الذي يبدو في قصص الحب في القصور الغربية؛ ويرجع ذلك أولاً إلى روح العصور، وثانياً إلى تباين الخلال والنظم الاجتماعية؛ ففي القصور الإسلامية كان يغلب دائماً ذلك التحفظ الذي يسبغ ستار الصمت والكتمان على حوادث وسير لا تحمد إذاعتها وتتقى آثارها بين الكافة؛ وكان نظام التسري الذي يعمر قصور الخلفاء والسلاطين بأسراب الجواري الحسان من مختلف الأمم والأجناس يحول دون اضطرام هذه العواطف والنزعات العنيفة التي كثيراً ما تضطرم في قصور الغرب، وتحمل في طريقها عروشاً أو تؤثر في مصاير أمم ومجتمعات؛ ومن النادر أن نرى في التاريخ الإسلامي جارية أو خليلة، حظية خليفة أو سلطان، تسيطر على أقدار الدولة ومصايرها بمثل ما كانت تسيطر غانية مثل بومبادور أو دوباري على أقدار فرنسا في عهد لويس الخامس عشر، أو نرى ملكاً وإمبراطوراً عظيماً كإدوارد الثامن يهجر أعظم عروش الأرض وأجلها قدراً في سبيل حب ليس فيه من الروعة والجمال ما يتناسب مع روعة التضحية التي أقدم عليها
بيد أننا نظفر في صحف القصور الإسلامية مع ذلك ببعض السير الغرامية العجيبة التي تطبعها ألوان روائية تذكي الخيال إلى الذروة. ولولا أن الرواية الإسلامية تحجم في كثير من الأحيان عن الإفاضة في تلك السير الشائقة، وتكتفي بإيراد الروايات الموجزة عنها لكان منها تراث روائي ساحر لا يقل في روعته وجماله وتباينه عما تقدمه إلينا قصص الحب الغربية الشائقة
مثال ذلك قصة الخليفة الفاطمي الآمر بأحكام الله وحبيبته البدوية فهي في الواقع نموذج ساحر من ذلك القصص الغرامي الذي يصلح بموضوعه ومناظره وألوانه موضوعاً لمسرحيات من الطراز الأول في سحرها وروعتها
ولي الآمر بأحكام الله الخلافة وهو طفل في نحو السادسة من عمره سنة 495هـ (1102م) رفعه إليها أمير الجيوش الأفضل شاهنشاه وزير أبيه الخليفة المستعلى، وجده المستنصر من قبل، والمتغلب على الدولة، والمستأثر بسلطانها؛ ونشأ الآمر في كنف هذا الوزير الطاغية، كما ينشأ جميع الأمراء الذين ليس لهم من الملك غير رسومه ومظاهره، محجوباً في قصره، مغموراً بأنواع الملاهي والمسرات؛ بيد أنه نشأ مع ذلك طموحاً ينزع إلى السلطان والبطش فلما بلغ أشده، وشعر بوطأة المتغلب عليه أخذ يتربص به حتى استطاع أن يدبر مصرعه، وقتل الأفضل سنة 515هـ؛ وتولى مكانه المأمون البطائحي؛ وقبض مثل سلفه على السلطة بقوة وحزم، فلم يلبث أن لقي نفس مصيره، فقتل في سنة 519هـ، واستأثر الآمر عندئذ بكل سلطة، وأطلق العنان لأهوائه وإسرافه وبذخه؛ وكان الآمر أميراً مرحاً، مضطرم النفس والأهواء، مشغوفاً بحياة اللهو والطرب، وافر السخاء والبذل، يعشق البذخ الطائل؛ وكان يهيم بالجواري والحسان، لا يطيق الحياة دون حب وهوى، وكان يشغف بفتيات البادية بنوع خاص، وله مع إحداهن قصة غرام مؤثرة، تنقلها إلينا الرواية في ألوان ساحرة، فكأنما تقرأ فيها كما تذكر الرواية ذاتها فصلاً من فصول ألف ليلة وليلة، أو ما يشابهها من القصص العجيب المغرق
كان الآمر يهيم كما قلنا بفتيات البادية، ويرسل في أثرهن رسله وعيونه، يجوبون البوادي والنجوع، ويبحثون عن روائع الجمال الساذج في ثنايا الخيام وفي مهاد البداوة النقية؛ فنقل إليه بعضهم أنه عثر ببعض أحياء الصعيد بجارية عربية هي مثال رائع للجمال العربي آية في الحسن والرشاقة والظرف، أديبة شاعرة، وافرة الذكاء والسحر؛ والى هنا تبقى القصة عادية ليس فيها ما يثير الدهشة؛ بيد أن الرواية تجنح بعدئذ إلى نوع من القصص الرائع، فتقول لنا أن الخليفة الآمر لما سمع بخبر هذه الفتاة البارعة في الحسن وفي الجمال، أراد أن يراها بنفسه قبل أن يتخذ في شأنها أي إجراء، فتزيا بزي الأعراب وغادر قصره بالقاهرة، وسار إلى الصعيد، وأخذ يتجول بين الأحياء حتى وقف على حيها واستطاع أن يتصل بأهلها دون أن يعرفوه وأن يظفر برؤيتها وتأمل محاسنها؛ فما أن رآها حتى اضطرمت جوانحه بحبها، وأسرع بالعودة إلى القاهرة وقرر في الحال أن يخطب هذه الفتاة التي تيمته حباً، وأن يتزوج بها؛ وبعث الآمر إلى أهل الفتاة برغبته، فبادروا إلى تحقيقها فرحين مغتبطين، وأرسلوا بالفتاة إلى القاهرة، حيث حملت إلى القصر، وغدت في الحال زوجة للخليفة، وسيدة البلاط الفاطمي
والى هنا ينتهي أول فصل في القصة، وهو تفصل لا تنقصه عناصر الخيال الممتع؛ ثم إن فتاة البادية العالية - وكان هذا اسمها - بعد أن سكنت إلى حياة القصر الباذخة حيناً، وأفاقت من دهشتها الأولى، أخذت تشعر بثقل هذه الحياة الناعمة على ما فيها من متاع ونعماء وترف مستمرة، وتبدو لها جدران القصر العالية، وأبهاؤه الفخمة كأنها ظلام السجن، وأخت تحن إلى فضاء القفر الشاسع وهوائه النقي الساذج كما تحن الطيور في أقفاصها إلى فضاء السماء، أو كما تحن الأسود المعتقلة إلى أحراجها وأدغالها، رغم ما تتمتع به في سجنها من وافر العناية؛ فلما رأى الخليفة الآمر ما أصاب حبيبته من الاكتئاب والوحشة، دفعه الخيال إلى أن يلتمس لها متعة الفضاء التي تنشد على طريقته الملوكية، فأمر أن تقام لها على النيل في جزيرة الفسطاط (الروضة) متنزهاً عظيماً يضم بستاناً ساحراً وأجنحة ملوكية بديعة، وسمي هذا المتنزه الرائع الذي لبث مدى حين من محاسن الدولة الفاطمية (بالهودج) فكان للتسمية مغزاها في التشبيه بالهودج الذي هو خباء السفر في البادية؛ وأنس روح البدوية الهائم مدى حين إلى الرياضة في (الهودج) والتمتع بمناظره الرائعة ونسماته العليلة بيد أنها لم تنس قط وهج القفر وسحر الفلاة
واليك فصلاً ممتعاً آخر من تلك القصة الغرامية الرفيعة. لقد ظفرت (العالية) بغزو قلب صاحب الخلافة والعرش، وغدت سيدة القصر والبلاط، ولكن ذلك لم يكن منتهى آمالها وسعادتها؛ ذلك لأن قلبها البدوي المضطرم كان يخفق منذ أيام البادية بهوى فتى من بني عمومتها يدعى ابن مياح، ربيت معه في الحي منذ الطفولة، وكان فتى رقيق الخلال وافر السحر، فلما حملت إلى قصر الخليفة لم تخمد في قلبها جذوة حبه، ولبثت في قصرها تتجه بخيالها إليه؛ وفي ذات يوم هزها الشوق إليه، فبعثت إليه من قصر الخليفة بهذه الأبيات
يا ابن مياح إليك المشتكى ... مالِكٌ من بعدكم قد مُلكا
كنت في حبي مطاعاً آمرا ... نائلاً ما شئت منكم مدركا فأنا الآن بقصر موصد ... لا أرى إلا حبيباً ممسكا
كم تثنينا بأغصان اللوا ... حيث لا نخشى علينا دركا
وتلاعبنا برملات الحمى ... حيثما شاء طليق سلكا
تقول الرواية، فأجابها ابن مياح بهذه الأبيات
بنت عمي والتي غذيتها ... بالهوى حتى علا واحتبكا
بحت بالشكوى وعندي ضعفها ... لو غدا ينفع فيها المشتكى
مالك الأمر إليه يشتكى ... هالك وهو الذي قد هلكا
شأن داود غدا في عصرنا ... مبدياً بالتيه ما قد ملكا
ثم تقول الرواية: ووقف الخليفة الآمر على سر هذه المراسلة وقرأ أبيات ابن مياح، فقال لو أنه لم يسئ إليه في البيت الرابع لرد الجارية إلى حبه وزوجها منه
وأثارت هذه القصة نفس شاعر معاصر من بني طيء يدعى طراد بن مهلهل، فنظم أبياتاً ينحى فيها على الآمر باللائمة ويخاطبه بما يأتي:
ألا بلغوا الآمر المصطفى ... مقال طراد ونعم المقال
قطعت الأليفين عن ألفة ... بها سحر الحي بين الرجال
كذا كان آباؤك الأقدمون؟ ... سألت فقل لي جواب السؤال
فغضب الآمر حينما وقف على هذا الشعر، وقال جواب السائل قطع لسانه على فضوله، وبعث في طلب طراد في أحياء العرب، ففر منه واختفى
ولبث الآمر بعد ذلك أعواماً؛ يطلق العنان لأهوائه، وينعم إلى جانب حبيبته العالية، ويتردد معها إلى متنزه الهودج. وكان الآمر يثير سخط فريق من الزعماء ورجال الدولة بما جنح إليه من تمكين النصارى من مناصب الثقة والنفوذ، وما كان يمعن فيه من اللهو والبذخ والاستهتار بالرسوم والتقاليد، ففي ذات يوم من أيام ذي القعدة سنة 524هـ (1130م) ركب من القصر كعادته إلى الهودج للتنزه، فلما وصل إلى رأس الجسر الموصل إلى الهودج وثب عليه قوم قد كمنوا له. وأثخنوه طعناً بخناجرهم، فحمل جريحاً إلى قصر اللؤلؤة على مقربة من مكان الجريمة، ولكنه لم يلبث أن توفي، ولم يجاوز الخامسة والثلاثين وكان الآمر بأحكام الله شاعراً مجيداً، وله نظم قوي مؤثر فمن نظمه قوله:
دع اللوم عني لست مني بموثق ... فلابد لي من صدمة المتحقق
وأسقي جيادي من فرات ودجلة ... وأجمع شمل الدين بعد التفرق
تلك هي قصة الآمر بأحكام الله مع حبيبته العالية، وهي قصة تجمع بين حقائق التاريخ ومتاع القصة؛ ولا ريب أن الرواية قد أسبغت عليها حواشي وألواناً خلابة مصدرها الخيال الشائق، بيد أنها تحتفظ مع ذلك بطابعها التاريخي. ولقد عرج كثير من كتاب المسرح عندنا على بعض الوقائع والمآسي التاريخية واتخذوها موضوعاً لمسرحياتهم، بيد أنها قلما تتمتع بذلك الطابع الروائي الخلاب الذي تتمتع به قصة الآمر بأحكام الله مع حبيبته العالية، ألم يقف أحدهم بتلك القصة الفاطمية الشائقة التي وقعت بمصر في ظل خلافة تنثر من حولها آيات الفخامة والبذخ الرائع؟ إن صحف التاريخ الإسلامي تقدم إلينا كثيراً من هذا القصص الرقيق المؤثر، فهلا فكر كتاب المسرح في ورود هذا المنهل الغزير والاقتباس من طرائفه؛ وإن المسرح المصري ليبدو أروع وأبدع، وأوفر سحراً وفتنة إذا استطاع كتابنا أن يتحفوه ببعض هذه المناظر القومية الشائقة التي تبد في ألوانها، وفي روعتها وبهائها كثيراً مما ينقلون إلينا من تراث المسرح الغربي
محمد عبد الله عنان