مجلة الرسالة/العدد 195/حافظ إبراهيم شاعر الفخامة
→ في المرقص | مجلة الرسالة - العدد 195 حافظ إبراهيم شاعر الفخامة [[مؤلف:|]] |
من أدب التاريخ ← |
بتاريخ: 29 - 03 - 1937 |
للأستاذ كرم ملحم كرم
حافظ العسكري اقتدى بالبارودي العسكري فجاء شعره قوياً
كالأمر دقيقاً كالنظام
ظهر الشعر ضعيفاً في مطلع عهد الانبعاث. فكأنه ليس بالشعر، إن هو إلا كلمات مرصوفة بعجز، لا تدل على معنى سام ولا تزخر بالقوة. وكأن أولئك النظامين يجهلون حسن الصياغة، فنفحونا بشعر مائع في معناه ومبناه، وكل ما رموا فيه إلى الاقتداء بالأقدمين. لا في سبكهم الشعر بل في مواقعهم من ولاة الأمر. فعلموا أن الأخطل كان يمدح معاوية ويزيد ويتمتع برحابة عبد الملك، وأن أبا نواس مدح الرشيد والأمين، وأن المتنبي تغنى بمآثر سيف الدولة، إذاً عليهم أن يمتدحوا الحكام والولاة. عرفوا أن الشعر يبدأ بالغزل وينتهي إلى المدح، فنهجوا هذا النهج اندفاعاً وراء البحتري والمتنبي ومهيار الديلمي ومن جرى مجراهم من شعراء العصر العباسي الأخير
وطالعوا في صفي الدين الحلي الطباق والجناس وتسخير المعنى للألفاظ، فقلدوا صفي الدين فيما أنشدوا من شعر، وما نظموا من قصائد خالية في معظمها من روعة البيان والابتكار
بلى، لقد حاول الشيخ ناصيف اليازجي الخروج عن هذه الدائرة، إلا أنه لم يكن ابن نفسه في معظم ما أنشد. فهو مدين للمتنبي في أكثر قصائده مع كونه شاعراً، على أن الشاعرية لا تنفي التقليد
وأول من برز من الشعراء الأقحاح بعد الشيخ ناصيف اليازجي هو محمود سامي البارودي، فجمع بين حسن الصياغة والمعنى. وإن يكن هذا المعنى غير مبسوط أحياناً ينحصر في نطاق معلوم، فهو خير ما جاد به علينا مطلع عصر الانبعاث. وتكفي تلك الصياغة المشرقة التي اهتدى إليها البارودي ونبذ بها الركاكة الشائعة يومذاك ليكون لهذا الشاعر فضل عميم على القريض. فالشعر العربي نهض بالاستناد إلى البارودي نهضة نشاهد آثارها في شعراء اليوم. وقد تكون نهضته نهضة ألفاظ أكثر منها نهضة معان. على أن نهضة الألفاظ هذه صقلت الشعر، ونفت عنه الاضطراب، وقادته في طريق سوي انتهى به إلى شعر المعاني الأنيق، البراق الظاهر، الخالي من كل وهن وعيب سواء في لغته أو تركيبه
وحافظ إبراهيم اقتدى بالبارودي في حسن صياغته. فعمد إلى الشعر العالي النفس، المتين القالب، يشد به نفثاته. وكأنما ونحن نقرأه نسمع الفرزدق أو بشاراً، على أن هذا الشعر لم يكن موفقاً في معظم الأحيان بمعانيه مثله بألفاظه
فهناك ألفاظ مختارة تعيد إلى الأذهان عصر الجاهلية وما تلاه من أعصر أشرق فيها الأدب العربي وأزهر. ولا نكير أن الشعر في الجاهلية وصدر الإسلام والأعصر العباسية كان اشد خصباً في المعاني من شعر الانبعاث في مستهله، بيد أن النهضة لا تعتمد على الطفرة في مسيرها بل تمشي وئيداً إلى هدفها الأعلى. ولابد في مطلع كل نهضة أدبية من هزة لفظية تجتاح القوالب الرثة لتقيم الأدب الجديد على ركن لغوي سليم
والهزة اللفظية بدأها اليازجي الكبير والشدياق ونقلها إلى مصر اليازجي الأمين؛ فلا عجب إذا اعتمدها البارودي في بيانه وتلاه حافظ إبراهيم. وحافظ تأثر بالبارودي في شعره ومسلكه، وطمع في أن يرتقي يوما إلى مستوى هذا الشاعر العسكري. فالبارودي تربع في مقعد الوزارة، وحافظ شاقه أن يجلس يوماً في هذا المقعد وان يبلغ شأن زميله. وهو لما كان يرتدي ثوب ضابط في السودان ما انفك عن التودد إلى الشيخ محمد عبده. وكل قصده أن يمهد الشيخ له السبيل إلى الوزارة أو إلى منصب سام في الجيش. بيد أنه لم يقع منه على ضالته. فالشيخ كان يتناول رسائل حافظ ويطويها دون أن يكترث كل الاكتراث لهذا الضابط الوافر الآمال، العاقد عليه رجاءه. فيئس حافظ أو كاد، ودعا إخوانه إلى التمرد على الأوامر العليا، ومال عن الجيش إلى الاشتغال بالأدب في مصر. ومع كل ما لقي من فتور الشيخ محمد عبده ظل له على وفاء وولاء. وانتابته الفاقة وهو يرقب إنصاف الشيخ له وما تولى عمن تولى عنه.
وكان ميدان الأدب يضيق بالفرسان. فهناك شوقي ومطران وولي الدين وأحمد محرم والمنفلوطي. وظهر شوقي في القمة يزاحمه عليه خليل مطران. على أن حافظاً لم يدركه اليأس. فدفع في الحلبة جواده يبغي الوصول إلى القمة شأن شوقي نفسه. على أن ما توفر لشوقي لم يتوفر له. فقد ملك شوقي المال والثقافة معاً. فكان واسع الاطلاع، ناعم البال، يعلم حق العلم أن عيشه مضمون في حاضره وفي غده. على حين أن حافظاً فقد أمله في الحاضر والمستقبل. فكافح الشقاء، غير أن الشقاء أقوى منه. ونظر إلى آتيه وإذا الآتي يبدو مبهماً إن لم يبد فاحماً أسود
في هذه البيئة المضطربة عاش حافظ بين الإفلاس والشقاء والأمل الطعين. فلا يسعفه من اعتمد عليهم ولا ينجده دهره. ولم يبق لديه سوى بيانه. على أن البيان لم يوفر له العيش الرغيد مع كل ما فطر عليه من حسن المخالقة وجلو الحديث ونبل النفس؛ فلم يكن حافظ ممن يتسفلون إلى استجداء اللقمة، بل كان يجتهد ما استطاع في صون كرامته وهو الرجل العسكري الشديد الحرص على شرفه وواجبه
ولمعت قصائد حافظ الأولى. وقام الناس يقارنون بينه وبين شوقي. فأدرك حافظ أنه بلغ القمة التي يصبو إليها، وأن الحجر العثرة في الطريق هو شوقي دون سواه، فإن هو ذلل هذه العقبة هان عليه كل عسير ونال المشتهى. فليس أمامه غير هذا الخصم وعليه ألا ينام عنه، ومما كان يؤلمه أن يلمع شوقي لدى الخديو عباس وأن يؤثره عزيز مصر على الأدباء أجمعين، فلماذا يكون شوقي في تلك المرتبة السامية ولا يترقى هو (حافظ) إلى المكانة نفسها!. . ولقد كان يطمع في مكانة أسمى، فشاء أن يكون شاعر الخليفة العثماني وأن يتفوق على شوقي في أدبه ومنزلته إلا أن الأقدار لم تضمن له ما يرجو.
فنقم على دهره وأبى أن يناصر مذهب شوقي السياسي فدرج على خطى محمد عبده خصم الخديو، ونفخ في بوق الوطنية فكانت قصائده تلهب الحماسة في النفوس فيصفق لها العرب بأجمعهم لكون القوة تتجلى فيها، وغار منه شوقي فنسج على منواله في رثاء مصطفى كامل وفي سقوط أدرنه وفي سقوط عبد الحميد. فكل مأثرة وطنية كانت تجد لها صدى في قريحة الشاعرين، إلا أن صداها في منظوم حافظ أكثر صدقاً منه في منظوم شوقي. فلم يكن منى شوقي إلا أن يتغلب على هذا المزاحم الوثاب. وكيف يزاحمه بسوى إطلاق بلاغته وبيانه؟
والزحام كان جليل الفائدة، فالشاعران جالا فيه على ما يتسع لهما المدى، فبذلا كل ما يملكان من موهبة. وكان حافظ يتفوق حيناً وحيناً شوقي. وأحياناً كانا يتساويان، إلا أن ثقافة شوقي ساعدته في استنزال المعاني أكثر مما توفر الأمر لحافظ. ولسنا ننفي عن حافظ اصطياد هذه المعاني المبتكرة، إلا أنه لم يكن موفور التوليد فيها. فاللفظ وحسن الصياغة كانا يشغلانه عن المعنى. وهو لو كان يجيد لغة أجنبية، لو اطلع على أدب الغرب مثله على أدب العرب لبات أوسع خيالاً وأشد عمقاً في منظومه، إلا أن جهله اللغات الأجنبية وقف به عند الأدب العربي، فما تفتحت عيناه على آفاق بعيدة يخلو منها أدبنا القديم. فكان يجتهد في الاقتداء ببشار وبالمتنبي في صياغتهما. ويميل عن كل إسفاف في المبني، وهذا المجهود من حافظ في إنقاذ آثاره من الضعف اللغوي أهاب بشوقي إلى الانعكاف على درس اللغة ليدفع عن قصائده هذا الشين
وإن يكن لابد من المقارنة بين شاعرين عاشا في عصر واحد واندفعا في طريق يكاد يكون واحداً في ما نظما وأطلقا من خراطرهما قلنا إن شوقي يتقدم حافظاً في معانيه وموسيقى ألفاظه، فيحلق في جو أسمى من جو حافظ، فكأنه يملك جناحين أوفى انبساطاً، وأشد عزماً، كأنه كتلة من أعصاب تأبى إلا أن تندفع إلى الأعالي تقع فيها على كل جديد، فترى وتلمس ما لا يتفق لسوى من ملك قوتها في اقتحام مسبح الفلك. وحسب شوقي أن يرصع صدر الملعب العربي بتلك الروايات التمثيلية. فشاء بها أن يضارع كبار شعراء العالم أمثال شكسبير وكورناي وراسين وفولتير وفكتور هيغو، فما (مجنون ليلى) غير (روميو وجوليت) لشكسبير، وما (كليوباترة) غير (أندروماك) لراسين
وحافظ لم يخترق هذا الجو، فاكتفى بالديباجة الفخمة، بعظمة الجند، بالشارات العسكرية البراقة، فأنت تحس وأنت تقرأه بأنك أمام شاعر يتقلد سيفاً ويعلن أمراً. فلا محاباة ولا مصانعة، بل قوة جياشة تدعوك إلى الاصغاء بكلام طنان ثابت في مواضعه كأنه صب فيها صباً. والأوامر العسكرية معروفة لا زخرف فيها ولا طلاء بل فخامة وقوة. وهذه الأوامر غلبت على شعر حافظ كما غلبت على شعر البارودي فمالت بهما عن التغريد المتعالي من شعر شوقي والخيال المغلف به منظوم شاعر الأمير
إذاً شوقي هو المتفوق. وشوقي روح عصر الانبعاث في مطلع القرن العشرين. فهو مرآة الشعر في هذا الزمن. ومن ينظر في نتاج قرائح شعراء اليوم يقبل على شوقي في الطليعة ومن المحال أن ننسى خليل مطران. على أن المفاضلة تتناول في مبحثنا حافظاً وشوقي دون سواهما. وحافظ لم يكن خصباً كشوقي ولا متفنناً مثله. وإذا قيل إن شوقي أغار على الأقدمين فليس ينجو حافظ من التهمة. هذا عارض من سبقوه وذاك عارض من سبقوه، إلا أن أبواب الغزو لدى شوقي المطلع على الأدب العربي والغربي معاً أكثر منها لدى شاعر النيل. وهذا سر من أسرار تفوق الأول ووقوف الآخر دونه في الطريق
ومما نشاهد أن عطف الناس على حافظ أقوى منه على شوقي. فإن لحافظ في القلوب منزلة لم يبلغها شاعر الأمير، فكل من وقف على بؤس حافظ وإخفاقه في أمانيه وعزة نفسه مال إليه متأثراً وتألم لألمه. والبائس يجد حوله ذوي الرفق، على حين أن القرير العين يصطدم أبداً بالناقمين الكارهين. وهذا هو موقف الشاعرين من أبناء اللغة العربية. أحبوا حافظاً لبؤسه وخفتت في صدورهم محبة شوقي لغناه، على أنهم إذا جاءوا يفاضلون بين الشاعرين آثروا شوقي على حافظ دون ما تردد. وتلك العاطفة الروحية لابد لها أن تتلاشى على ممر الأيام، يوم يفنى هذا الجيل ويبيت أبناء الغد حيال أدب شاعرين يعتمدون في تحليل آثارهما على نور الحقيقة لا على نبضات القلوب
وهذا الإيثار لا يحط من قدر حافظ. فهو من أقطاب الشعر في هذا العصر. وإذا استثنينا شوقي ومطران قلنا إن البلاد العربية لم تنجب حتى الآن من أمثاله. ويسرنا أن تدرك أخيراً مصر قدره وتقيم له المهرجان تلو المهرجان. وكنا نود أن يلقى هذا التكريم وهو في قيد الحياة. فكان بحاجة إلى التقدير بعد كل ما عانى من بؤس وخيبة.
والتقدير لا يكفي إذا تهاون المصريون في أمر ضريح الشاعر، فإن لرفات هذا الشاعر الجندي المتوقد القريحة شأناً تاريخياً من حق مصر أن تعتز به، فلن يقوم في كل يوم فيها شاعر كحافظ إبراهيم.
ولقد أثبتت الأقطار العربية الأخرى أنها تحترم حافظاً وتنحني أمام أدبه العالي. فأوفدت ممثليها للاحتفال بذكراه والتغني بمحامده، ولا ريب أن الملوك أنفسهم يشتهون أن ينالوا ما يتمتع به الشعراء بعد موتهم من خلود وتكريم. فالمتنبي والفردوسي لقيا من يحتفل بمرور ألف عام على موتهما. مع أن هذا التقدير العالي لم ينل مثله كسرى ولا هرون الرشيد. وأين الفردوسي والمتنبي من كسرى وهرون الرشيد في إبان حياتهما!. ولكن الأدب أبقى من العروش، والشاعر أبعد خلوداً من الملوك، وحافظ من هؤلاء الخالدين. ومن الراهن أن مصر تنسى المئات من أرباب التيجان الذين توالوا ويتوالون عليها، ولا تنسى حافظاً وشوقي والبارودي وصبري وولي الدين، وفي ذلك الدليل كل الدليل على أن الأدب وهو وليد النفوس، أوطد أثراً في قلب الدهر من التيجان والصوالجة، وأن الأديب الأديب يرسخ في أذهان الأجيال المقبلة رسوخاً لا يحلم به غير من دوخوا الأرض من أمثال الاسكندر، ويوليوس قيصر، وعمرو بن العاص، ونابليون العظيم. . .!
(بيروت)
كرم ملحم كرم
صاحب جريدة (العاصفة)