الرئيسيةبحث

مجلة الرسالة/العدد 194/الروايات الكنسية والنصرانية وقيمتها كمصادر

مجلة الرسالة/العدد 194/الروايات الكنسية والنصرانية وقيمتها كمصادر

مجلة الرسالة - العدد 194
الروايات الكنسية والنصرانية وقيمتها كمصادر
[[مؤلف:|]]
بتاريخ: 22 - 03 - 1937

للتاريخ الإسلامي

للأستاذ محمد عبد الله عنان

وفقت دار الآثار المصرية أخيراً للحصول عل نسخة مصورة من أثر كنسي هام له قيمته في تاريخ مصر الإسلامية، هو مجموعة سير بطاركة الكنيسة القبطية منذ نشأتها حتى منتصف القرن السابع الهجري. وقد كان للمجتمع القبطي دائماً شأن في تاريخ مصر الإسلامية، وكان للكنيسة القبطية دائماً علائقها الرسمية مع الحكومات الإسلامية، ومع ذلك فإن الرواية الإسلامية لم تفسح مجالاً كبيراً لبحث هذه العلائق وتمحيصها، ولم تعن بالأخص بأن تشرح لنا وجهة النظر الكنسية في مختلف العصور شرحاً وافياً، ولم تفطن دائماً إلى الاستفادة من الآثار والمصادر النصرانية في تفهم أحوال المجتمع النصراني وزعامته الروحية.

ومن ثم ٍكانت أهمية الآثار النصرانية التي تعنى بعصور من تواريخ الأمم الإسلامية، ففي هذه الآثار نستطيع أن نفهم بوضوح موقف الكنيسة وموقف أوليائها حسبما يصوره لنا كتابها ودعاتها، ونستطيع بمراجعة أقوالهم وتعليقاتهم أن نقف على كثير من الحقائق التي لم تعن الرواية الإسلامية بشرحها واستيعابها، وكتاب سير البطاركة الذي أشرنا إليه من تلك الآثار التي تلقي ضوءاً على موقف الكنيسة القبطية، وموقف الشعب القبطي وأحواله في مصر خلال العصور الوسطى، وهي ناحية لها بلا ريب قيمتها وأهميتها في تاريخنا القومي، وتنقسم النسخة المصورة التي حصلت عليها دار الكتب من الأثر الذي أشرنا إليه والتي نقلتها عن مخطوط باريس إلى قسمين: أولهما كتاب سير الآباء البطاركة الذي وضعه الأنبا سويرس بن المقفع أسقف الأشمونين في عهد المعز لدين الله الفاطمي في تاريخ بطاركة الإسكندرية، وهذا الأثر معروف ومتداول لأنه طبع منذ أكثر من ثلاثين عاما بعناية الآباء اليسوعيين، وقد عرفته الرواية الإسلامية منذ عصور وانتفعت به أحيانا فيما نقلته من أنباء الكنيسة والبطاركة. وقد كان الأسقف سويرس من أكابر الأحبار والمفكرين أيام الدولة الأخشيدية وأيام المعز لدين الله، وكان أسقفا لمدينة الأشمونين التي كانت من مدائن الصعيد الزاهرة يومئذ، وتشيد الرواية الكنسية بعلمه وأدبه ومكانته الروح والاجتماعية، وتحدثنا عن صلاته بالمعز لدين الله ومحاوراته الدينية والكلامية معه، وتعدد لنا كتبه وآثاره الأدبية والتاريخية. ويتناول سويرس في كتابه سير بطاركة الإسكندرية منذ القديس مرقص منشئ هذا الكرسي حتى البطريرك افراهام بن زرعة السرياني الذي رسم بطريركا لليعاقبة سنة 365هـ (975م) في أوائل عصر العزيز بالله. وقد ورد في مقدمة هذا القسم إشارة إلى وضع هذا الأثر وتأليفه نصها: (هذه السيرة جمعها واهتم بها من كل مكان الأب الجليل أنبا سويرس بن المقفع أسقف مدينة الأشمونين، ذكر أنه جمعها من دير أبو مقار ودير نهيا، وغيرهما من الديارات وما وجده في أيدي النصارى منها أجزاء مفرقة أنفق فيها أعواما طويلة حتى بلغ عمره الثمانين)

على أن هذا القسم المتداول ليس هو المقصود بالذات في هذا التعريف والتعليق، وإنما نقصد بالأخص إلى التعريف بالقسم الثاني من الأثر الكنسي، وهو الذي يشغل المجلدين الثالث والرابع من مخطوط باريس الذي نقلت عنه نسخة دار الكتب المصورة، فهذا القسم الذي لم ير الضياء بعد يحتوي على سير البطاركة المصريين منذ أوائل الدولة الفاطمية إلى سنة 635هـ أعني إلى نهاية عصر الملك الكامل. وقد نسب هذا الأثر بجملته في فهرس مكتبة باريس الوطنية إلى سويرس بن المقفع، وهي نسبة ظاهرة الخطأ لأن سويرس توفي في أوائل عهد العزيز حوالي سنة 370هـ، فليس من المعقول إذن أن ينسب إليه ما تضمنه الأثر الكنسي بعد هذا التاريخ: وظهر أثر هذه النسبة الخاطئة جليا فيما كتبه العلامة المستشرق سلفستر دي ساسي، عن الحاكم بأمر الله في كتابه عن الدروز، إذ ينقل كثيرا مما ورد عن عصر المستنصر بالله ولد الظاهر، منسوبا إلى سويرس بن المقفع.

وقد أتيحت لنا فرصة لبحث هذا الأثر الكنسي واستقصاء مصادره ومساق واضعيه، فانتهينا إلى هذه الحقيقة وهي أن الجزأين الثالث والرابع من المخطوط ليس لهما علاقة بمؤلف أسقف الأشمونين، بل هما أثر مستقل بذاته، ذيل بهما الأثر الأصلي لأنهما في نفس موضوعه وهو استئناف سير البطاركة من حيث وقف سويرس؛ ويسمى هذا الأثر الملحق باسم آخر هو (سير البيعة المقدسة). ولم يقم بتأليفه أو وضعه مؤلف واحد بل تعاقب في وضعه وكتابته عدة من الأحبار المتعاقبين، فتولى كتابة القسم الخاص بعصري العزيز والحاكم مثلا قس معاصر يدعى الأب ميخائيل (كاتب السنوديقا بكرسي مار مرقص) (البطريركية) كما يقول لنا ذلك خلال الكتاب؛ وكتب سيرة الأنبا فيلاتاوس البطريرك الثالث والستين وهو معاصر العزيز ثم الأنبا زخاريا البطريرك الرابع والستين وهو معاصر الحاكم بأمر الله، وأورد الكتاب خلال حديثه كثيرا من الأقوال والروايات الهامة عن الحاكم وحياته العامة والخاصة، وعن حوادث العصر المدهشة. وكتب سير البيعة المقدسة أيام الظاهر والمستنصر قس يدعى (موهوب بن منصور بن مفرج الإسكندراني الشماس) ويقول لنا (إنه جمع سيرهم وكتبها واستخرجها من دير أبو مقار بوادي هبيب وذلك سنة 806 للشهداء الموافقة لسنة 480هـ). وكتب في أيام المستنصر وبعده قس آخر يدعى يوحنا ابن صاعد بن يحيى المعروف بالقلزمي وهكذا حتى أواخر الدولة الفاطمية؛ وهنا يقول لنا كاتب هذا القسم إنه سيتم سير الآباء، وإنه بدأ بما شاهده في عصره وخصوصا أيام زوال الدولة الفاطمية وقيام الدولة الأيوبية، وهنا يميل الكاتب إلى التبسط في سرد أحداث العصر، ولا يتقيد بالناحية الكنسية بل يفيض في سرد الحوادث جملة؛ ويتحدث عن السلطنة وعن سيرها وأعمالها، ويسير في ذلك على ترتيب السنين القبطية أو سني الشهداء، حتى سنة 635هـ، أو نحو سنة 950 للشهداء، حتى نهاية عصر الملك الكامل ناصر الدين

ولقد نوهنا في بداية هذا الفصل بأهمية أمثال هذه الآثار الكنسية في شرح موقف الكنيسة من الخلافة أو السلطنة، وشرح وجهات نظرها فيما يتصل بها من الحوادث والشؤون، وتبدو أهمية الرواية الكنسية بنوع خاص في العصور التي تضطرم فيها فورات اضطهاد ضد الكنيسة والمجتمع النصراني أو تتجه السياسة الإسلامية إلى الضغط عليهما لظروف وعوامل خاصة، كما حدث في مصر في عصر المأمون، وفي عصر الحاكم بأمر الله وأيام الحروب الصليبية؛ فهنا تبدو الرواية الكنسية متنفساً حقيقياً للتعبير عما يخالج الكنيسة ورعاياها من العواطف والآراء نحو المجتمع الإسلامي؛ وقد تحمل الرواية الكنسية في هذه المواقف على المبالغة والإغراق في أحيان كثيرة، ولكنها تحتفظ مع ذلك بقيمتها وأهميتها في إيضاح كثير من النقط والمواقف التي تغضي عنها الرواية الإسلامية أو ترى فيها آراء أخرى.

ولا تقف أهمية الرواية الكنسية عند ذلك الحد؛ ففي بعض الأحيان، وفي عصور السكينة والسلام، تغدو الرواية الكنسية مصدراً قيماً لاستعراض الحوادث التي تعنى بها. وفي القسم الأخير من مجموعة (سير البيعة المقدسة) يبدو الكاتب مؤرخاً لا غبار عليه، ويتبسط في شرح الحوادث والشؤون العامة في أواخر الدولة الأيوبية، ويقدم إلينا عنها رواية لا بأس بها

ونرى أن نشير بهذه المناسبة إلى أنه توجد إلى جانب هذه الروايات الكنسية التي تعنى بناحية خاصة من تاريخ مصر الإسلامية لم تعطها الرواية الإسلامية دائما حقها من العناية، طائفة من الروايات النصرانية، التي تتبوأ مكانها الحق بين مصادر التاريخ الإسلامي؛ فلدينا مثلاً تاريخ سعيد بن بطريق - بطريرك الإسكندرية الذي يصل في كتابته حتى سنة 326هـ، وتاريخ يحيى بن سعيد الانطاكي الطبيب والمؤرخ، وقد كتبه ذيلا على تاريخ ابن بطريق، ووصل في كتابته حتى أواخر عهد الظاهر لإعزاز دين الله الفاطمي، وعنى فيه عناية خاصة بأخبار الحاكم وشخصه وحوادث عصره، وتاريخ المكين ابن العميد المسمى بتاريخ المسلمين الذي يستعرض فيه أخبار الخلافة والسلطنة حتى أواخر القرن السادس الهجري؛ وتاريخ ابن العبري المسمى بمختصر تاريخ الدول الذي يصل فيه برواية حتى أواخر عصره أعني إلى أواخر القرن السابع، فهذه الآثار التي كتبها كتاب ومؤرخون من النصارى، وإن كانت تميل في معظم الأحيان إلى أن تخص أخبار الكنيسة والمجتمع انصراني بأعظم قسط من عنايتها، تحتفظ دائما بقيمتها كمصادر لتواريخ العصور التي عنيت بها. وتمتاز هذه الآثار بميزة خاصة، هي أنها تعنى عناية فائقة بتاريخ الدولة البيزنطية باعتبارها حامية الكنيسة الشرقية، وتفيض في تتبع أخبارها وعلائقها بالأمم الإسلامية إفاضة دقيقة ممتعة، وهذه ناحية لم تخصها الرواية الإسلامية دائما بما يجب من عناية، بل هي تعتمد غالبا في تناولها على هذه الروايات النصرانية، مثال ذلك أن ابن خلدون يعتمد على ابن العميد في معظم ما كتبه عن أخبار الدولة الرومانية والدولة الشرقية (البيزنطية)، ويرجع السر في ذلك إلى أن أغلب الكتاب النصارى كانوا يعرفون السريانية واليونانية واللاتينية أحياناً، ومن ثم كان اتصالهم بالمراجع الأجنبية وانتفاعهم بها.

وهكذا نرى أن الروايات الكنسية والنصرانية العربية بوجه عام فضلا عن قيمتها وأهميتها الخاصة في سرد أخبار الكنيسة والمجتمع النصراني، وشرح مواقفهما في مختلف العصور والمناسبات، حقيقة بالدرس والمراجعة كمصادر قيمة لعصور معينة من التاريخ الإسلامي، تلقي ضوءاً على كثير من نواحي الصلة والعلائق بين الشرق والغرب، والنصرانية والإسلام

محمد عبد الله عنان