الرئيسيةبحث

مجلة الرسالة/العدد 192/في الأدب المقارن

مجلة الرسالة/العدد 192/في الأدب المقارن

بتاريخ: 08 - 03 - 1937


الرومانسية والكلاسية في الأدبين العربي والإنجليزي

للأستاذ فخري أبو السعود

ينشأ أدب الأمة المتبدية ساذجاً بسيطاً صريح التعبير قريب المتناول، مطلق السجية في الإعراب عن الشعور الإنساني، وتظل له هذه السمة حيناً، حتى تتحضر الأمة وينتقل الأدب من جو الطبيعة الطلق إلى حياة المدينة. بما تشمل من وسائل الحضارة المادية وأسباب الثقافة الذهنية، فيرتقي الأدب لذلك كله وتتسع جوانبه وتبعد أغواه، بيد أن الحضارة المادية التي توفرها المدينة لساكنيها ولا توفرها الطبيعة للمتبدين، ربما طغت فأفسدت على القوم حياتهم؛ وكذلك الثقافة العقلية التي في ظلها يرتقي الأدب رقياً عظيماً ربما زيفت على الإنسان شعوره، وتعاونت مع تلك الحضارة المادية على إفساد الأدب بتغليب الصنعة والتكلف فيه على الحساس الصادق، وتكبيله بالتقاليد والأوضاع، وتضييق حدوده وسد آفاقه، وإيلاء الألفاظ فيه المكانة الأولى دون المعاني

إذا بلغ الأدب هذا الطور الصناعي التقليدي انحط ولم يعد يسير إلا من تدهور إلى تدهور. وصار الأدب المتبدي على سذاجته أرقى منه واصدق، ولم يعد للأدب الذي غلبت عليه الصناعة من سبيل للنهوض، إلا الرجوع إلى الطبيعة والاقتباس من الأدب البدوي المرسل الطبع. والاطلاع على آداب الأمم الأخرى التي لم يرهقها التكلف ولم تفسدها الصنعة، بهذا وحده يتأتى له معاودة الحياة وأن يعود ترجماناً صادقاً مبيناً لها، وبغير تلك العوامل الخارجية هيهات أن ينهض الأدب العاثر من سقطته، وإنما يزداد إمعاناً في التكلف السمج جيلاً بعد جيل، وإغراقاً في اختراع كاذب الأخيلة والأحاسيس ومزجها بألاعيب الألفاظ، والخروج بكل ذلك عن كل ما يسيغه ذوق أو بقبله عقل

فحياة الطبيعة المطلقة في أعنتها، وحياة المدينة ذات الحضارة والثقافة، تتنازعان الأدب وتؤثر كل منهما فيه تأثيراً خاصاً، ولكل منهما مزايا هي قادرة على إيداعها الأدب: تمنحه الطبيعة شتى مناظر جمالها وصدق شعورها وبعيد آفاقها ورائع أسرارها ومخاوفها، وتمنحه المدينة وسائل التفكير العميق والنظر الثاقب والطموح إلى المثل العليا، وأسباب الإنشاء الأدبي الفني والجهد الأدبي المتصل، والتفنن في ابتكار صور الأدب وأوضاعه، والخير كل الخير أن يأخذ الأدب من كلتا الناحيتين بنصيب، والأدب الذي اجتمع له رحب الطبيعة وحرارة شعورها وجمالها، إلى ثقافة المدينة ووسائل التوفر الأدبي فيها، أدب لا شك بالغ من الرقي غاياته؛ أما الدب المتبدي فيظل على صدقه وجماله قاصراً ساذجاً، وأما أدب المدينة الذي بلغ في الانغمار في جوها وأهمل جانب الطبيعة، فسائر إلى الفساد والانحلال لا محالة

والرومانسية هي الصفة التي ينعت بها عادة الأدب الذي يؤثر جانب الطبيعة، ويحفل بمظاهر عبادتها والتأمل في ظواهرها ووصف مشاهدها والسبح في آفاقها، يؤثر كل ذلك على اللفظ فلا يهتم بهذا إلا بقدر ما يستخرجه في إيضاح أغراضه. وعلى حياة المدينة فلا تستغرق شؤون السياسة وعلاقة رجاله برجالها ورجال البلاط والحرب كل جهده والتفاته، ولا يصرفه الحاضر عن الولوع بالماضي والتأمل فيه وفي المستقبل، ولا ريب إن ذلك لا يعني إهماله لجانب الحضارة والثقافة، بل هو بهما شديد الولوع ويدرس ماضيهما ومستقبلهما شديد الشغف؛ والكلاسية هي النعت الذي يطلق على الأدب الذي استغرقته حياة المدينة وشغل بها عن جانب الطبيعة وانغمر فيها رجاله، في مجتمعها ومندياتها ومعاركها السياسية والحزبية والشخصية، وآثر التألق في اللفظ والشكل الأدبي وكفكف العاطفة فحل محلها الذكاء والبراعة واللباقة، وضيق مجالات القول وحدد أغراضه، وكل هاتيك صفات ولوازم تعلق بالمجتمع المترف وتنعكس عنه في الأدب

وقد كانت الصبغة الرومانسية هي الغالبة على الأدب الإغريقي في عهد عظمته، لأنه ترعرع في مجتمع قريب من البداوة، وفي حياة شديدة النشاط مطردة الحركة، تجيش بالمغامرة والجلاد، وفي حرية في الفكر والسياسة. أما الأدب اللاتيني فكان اكثر اصطباغاً بالكلاسية لأنه لم يبلغ ذروته إلا في ظل الملكية المطلقة والإمبراطورية الموطدة المستقرة. فكان أدب مدينة وثقافة متانقة، واشتهر أعلامه كفرجيل بإحكام الأسلوب والتشبث بمبادئ وتقاليد أدبية خاصة، وما زالت إلياذة هومير وأنياد فرجيل موضوع مقابلة من هذه الناحية. وكان أدباء الإنكليزية اكثر احتفالاً باللانينيير وإقتداء بهم في العصر الكلاسي في الأدب الإنكليزي، كما كانوا في عهده الرومانسي أميل إلى اليونان واكثر تغنياً بآثارهم، وبعدم اطلاع الأدب العربي على الأدب اليوناني فقد هذا العصر الرومانسي الذي اصبح في حاجة إليه، حين انتقل إلى المدينة وشغل بآثار الحضارة والثقافة

وقد كانت الرومانسية هي الصفة الغالبة على الأدب الإنكليزي في العصر الإليزابيثي؛ ففي ذلك العهد كانت البساطة والخشونة تسودان المجتمع والبلاط؛ والحركة والنشاط والتطلع تتجلى في شتى نواحي الحياة: في العلم والأدب والكشف والمخاطرة والحرب. كان عهد نهضة تتحفز وتستشرف إلى الجديد وترمي إلى التوسع، لا تقنع بالقليل الحاضر ولا تقبل القيود والحدود؛ وزمن شباب يولع بالقوة والجلاد ويبرم بالأنيار والأقياد، فهو لا يرضاها في الأدب؛ ومن ثم جاء أدب ذلك العصر غزير المادة متلاطم العباب مترامي الأفاق، جياشاً بشتى العواطف والمعاني، حافلاً بمختلف الأوضاع الأدبية والمذاهب الفنية، لم يتقيد رجاله بتقاليد فنية غير معقولة: فعلى حين تقيد أدباء الفرنسية بالوحدات الثلاث التي أثرت عن الدرامة الإغريقية، انتفع الأدب الإنكليزي بخير ما في تلك الدرامة وضرب بتلك الوحدات عرض الحائط؛ ولم يتقيد بألفاظ خاصة في الشعر، مما اصبح فيما بعد يسمى (الألفاظ الشعرية) بل زاد على استعمال كل ما في لغة الكتب أن اقتبس من لغة العامة واصطنع بعض ألفاظ اللغات الأجنبية، واشتق ما راقه من ألفاظ. واخرج هذا العصر الحافل كبير شعراء الإنكليزية شكسبير، وانجب بجانبه أحد كبراء شعرائها سبنسر، وامتد هذا العصر حتى انتهى بظهور علم ثالث من أعلامها هو ملتون

تصرم ذلك العهد المملوء بالحرية والنشاط والجرأة والفتوة، وتلاه عصر كلاسي طويل، بين أواخر القرن السابع عشر وأواخر القرن الذي يليه، خمدت فيه روح المغامرة والتطلع التي كانت متنبهة في عصر إليزابيث، واستراح الناس إلى حياة المدينة ومنتدياتها، وانغمر الأدباء في المعارك الأدبية فيما بينهم، فكان نزاع بين كل من دريدن وأديسون وستيل وديفو وسويفت ومعاصريهم، محتدم حيناً ومترفق حيناً، ومعلن تارة ومستتر أخرى؛ وانغمروا كذلك في المشادات السياسية وانضووا تحت ألوية الأحزاب، وشجعهم رجال تلك الأحزاب على الانخراط في سلوكهم والذود عن مبادئهم بأقلامهم، فكان سويفت في صف المحافظين، وادسون في جانب الأحرار، وكان ستيل يختلف من هؤلاء إلى أولئك. وخلا أدب ذلك العصر أو كاد من ذكر الطبيعة ومجاليها، وحتى أولئك الأدباء الذين كانوا يرحلون إلى الأقطار الأجنبية، لم تكن تحرك نفوسهم مناظرها الجديدة، فكانوا يتناولون في رسائلهم إلى أصدقائهم في الوطن شتى المواضيع ماعداها. واهتم أدباء ذلك العهد باللفظ كل اهتمام وقدموه صراحة على المعنى، وجعلوا للشعر ألفاظاً لا يتعداها ومواضيع لا يتخطاها، واتخذوا للشعر وزناً واحداً مزدوج القافية لم يكد أحد ينظم في سواه، وقلدوا الأقدمين من أدباء الإغريقية واللاتينية ونقادهما. وانصاعوا لمبادئهم انصياعاً أعمى؛ وبهذا كله ضاقت حدود الأدب ضيقاً شديداً، وأرهقه التكلف وفدحته القيود، فسار إلى الانحلال

وزعيم هذا المذهب الكلاسي الذي بلغ اوجه على يديه هو بوب الذي نال الغاية من إحكام اللفظ، وقد قال عنه بعض مترجميه إن شعره ليس إلا نثراً جيد النظم، وذلك حق: فهو يتناول في شعره مواضيع هي أقرب إلى النثر وأبعد عن الخيال والشاعرية؛ وكان يسمي بعض قصائده (مقالات) ومنها مقالته في النقد التي نظم فيها مبادئ المذهب الكلاسي في الأدب ونقده، فظلت مرجعاً لمن تلاه من شعراء المذهب، ومنها يقول: (تعلم إذن التقدير الحق لمبادئ الأقدمين، فمحاكاتها هي محاكاة للطبيعة، فتلك المبادئ القديمة - التي إنما اكتشفت ولم تخترع - إن هي إلا الطبيعة؛ غير أنها الطبيعة منظمة مهذبة)، وقد ترجم بوب إلياذة هوميروس ترجمة قدسها معاصروه، ولكنها قلما تذكر الآن أو يعتمد عليها أو تعد صورة صحيحة لشعر هوميروس، إذ كان من المستحيل على أديب مشبع بالروح الكلاسي أن يخلص إلى روح الشاعر الإغريقي الرومانسي؛ ثم دبت في المجتمع الإنجليزي روح جديدة، وانتعش الأدب الإنجليزي من خموله باطلاعه على آداب الأمم الأخرى الناهضة كالأدب الألماني، والعودة إلى صدر الطبيعة الرحب الحافل بالأسرار والحياة والوحي. تمخض كل ذلك في أواخر القرن الثامن عشر وأوائل الذي يليه عن نهضة رومانسية جديدة فكت الأدب من عقاله ونبهت الشعر من غفوته، ورحبت آفاقه وبسطت جوانبه، وسبحت به في آماد الكون والطبيعة والإنسانية، وأنجبت هذه النهضة جمهرة أخرى من أفذاذ الأدب الإنجليزي؛ أنجبت وردزورث وبليك وكولردج، ثم بيرون وشلي وكيتس، ثم تنيسوت وبراوننج، عدا من أخرجت من أفذاذ النثر الذين جاء نثرهم حافلاً بمظاهر النهضة الجديدة؛ ولا غرو: ففي العهود الرومانسية يتجلى الروح الشعري حتى في النثر، وفي العصور الكلاسية يفيض الروح الشعري حتى في النظم؛ وما تزال تلك النزعة الرومانسية ملحوظة في الأدب الإنجليزي، على ما داخله من نزعة واقعية. وإقبال على درس مسائل المجتمع كافة

والعصر الرومانسي في الأدب العربي هو ولا شك عصر الجاهلية والعهد الراشدي وصدر العصر الأموي: في تلك العهود وكان المجتمع العربي أدنى إلى البساطة والتبدي، وكان الأدب مرسل السجية صادق التعبير عن خلجات النفوس: من حزن وطرب ولذة وألم، وحب وبغض وحماسة ووصف، خالياً في أكثر نواحيه من مظاهر التكلف اللفظي أو التعمل في المعنى أو التصنع في الموضوع. وما تزال لحكم بعض الأعراب والأعرابيات ومراثيهم، وحماسيات قطري بن الفجاءة وغزليات جميل وقيس، روعة في النفوس وغبطة شاملة، لصدورها عن طبع سليم وشعور صميم؛ هذا على رغم بساطة ذلك الأدب وخلوه من مظاهر التثقف والتعمق في التفكير

تجرم ذلك العصر بطول عهد العرب بالحضارة والثقافة، ومهدت حضارة المدينة وثقافتها من أسباب القول ودواعي النظم ووسائل التفنن الأدبي ما لم يتوفر في البادية، فنشأ من ذلك أدب جديد يفوق أدب العصر السالف تعدد مواضع وعمق نظرة ووفرة محصول، وتجلى ذلك في خير آثار ابن الرومي والطائي والمتنبي والمعري، والجاحظ والبديع والجرجاني وأضرابهم. على أن الأدب في طوره هذا انغمر في جو المدينة انغماراً تاماً، فكان هذا عهداً كلاسياً صميماً: فيه تزايد ولوع الأدباء تدريجاً باللفظ. واحتفاؤهم به، ثم استعبادهم أنفسهم له وللأوضاع والمبادئ الموروثة عن المتقدمين. وضاقت مواضيع القول رويداً رويداً وكبلها التكلف والإغراب، وتجمع الأدباء حول موائد الأمراء ورجال السياسة والحكم والحرب، وخاضوا غمار مشاحناتهم، وتشاحنوا هم أنفسهم فيما بينهم، وهي مشاحنات تذكرنا بحملات سويفت ودريدن على الوزراء والقواد في عصرهما، وحملاتهما على غيرهما من الأدباء، فمن هجاء الوزراء قول دعبل في وزير المأمون:

أولي الأمور بضيعة وفساد ... أمر يدبره أبو عباد

يسطو على جلاسه بدواته ... فمضمخ بدم ونضح مداد

ومن تهاجي الشعراء قول ابن الرومي في البحتري:

أف لأشياء يأتي البحتري بها ... من شعره الغث بعد الكد والتعب

البحتري ذنوب الوجه نعرفه ... وما عهدنا ذنوب الوجه ذا أدب وقول المتنبي في معاصريه:

أفي كل يوم تحت ضبني شويعر ... ضعيف يقاويني، قصير يطاول؟

وكم جاهل بي وهو يجهل جهله ... ويجهل علمي أنه بي جاهل

وفي ذلك العصر الكلاسي الطويل أعرض الشعراء إعراضاً يكاد يكون تاماً عن الطبيعة وحديثها ومجاليها، وأقبلوا على حياة المدينة أي إقبال. وما منهم من له عمل أبعد من أن ينال النجاح فيما تهيئه لأبنائها من أسباب اللذة والمتعة والشهرة، فكان منهم طامح إلى الملك كالمتنبي والشريف الرضي، وحريص على الوزارة كالصاحب وابن العميد، وراغب في الولاية حظي بها كالطائي وقصر عنها كابن الرومي، ومغتبط بالحظرة والمنادمة كأبي العتاهية والبحتري، وغير هؤلاء وأولئك ممن سعوا سعيهم ولم ينالوا مثل شهرتهم؛ وممن طمحوا فيما هو دون ذلك من متعات الحياة. ونظير ذلك كله تراه في العصر الكلاسي الإنجليزي سالف الذكر: فقد تقلب دريدن بين الأحزاب وحرص على الحظوة في البلاط. وتدرج أديسون في المناصب حتى صار وزيراً للخارجية، ولم يقنع سويفت بما تولى من مناصب في الكنسية، وكان إخفاقه في مطامعه البعيدة أحد أسباب نقمته وتشاؤمه

وتجلت هذه الصفة الكلاسية في الأدب ذاته: حددت مواضيعه وقصرت على ما اتصل بالحاضر القريب من شؤون الحياة في المدينة، وأهملت المواضع الرومانسية الصبغة، كالالتفات إلى الماضي واستعراض حوادثه الطريفة واتخاذها مادة للنظم والنثر، ومعالجة خرافاته واستلهامها ما بها من معاني الجمال والعظمة والبطولة، وأهملت أحاديث الرحلات وأوصاف البلاد البعيدة والأصقاع المجهولة، ما وجد منها في الحقيقة وما يتخيله الشاعر، وكفكف الخيال ونبذت آثاره من عالم الأدب.

خلا الأدب العربي في ذلك العهد من كل هذه المواضيع، وهي من صميم الشعر ولباب الفن وجوهر الأدب إذا ما تحضر أهلوه وانتفعوا بالثقافة، وإنما تركت هذه المواضيع الجليلة للأدب العامي، فظل الأدب الفصيح أدباً كلاسياً وصار الأدب العامي هو الممثل للرومانسية

دام ذلك العصر الكلاسي الطويل في الأدب العربي طوال عهد ارتقاء الأدب، أي زهاء ثلاثة قرون، ثم طوال عهد انحطاطه أي إلى العصر الحديث، لم تعقبه خلال تلك الأجيال المتوالية نهضة رومانسية تخفف من غلوائه وتصلح من فساده، وتقيم ما اعوج من مبادئه الأدبية، وتعود به إلى الطبيعة التي هجرها واستغرق في النوم في أحضان المدينة: لم تنبعث فيه تلك النهضة التي انبعثت في الأدب الإنجليزي في أعقاب القرن الثامن عشر، حين بلغ العهد الكلاسي مداه من التحكم في أساليب الأدب. وبلغ الأدب الدرك من الإسفاف والأمحال؛ ذلك لأن الأدب العربي كانت تعوزه تلك العوامل التي تساعد على النهضة وتعاون على الرجوع إلى الطبيعة وتنبت الميل الرومانسي، فكان استمرار النزعة الكلاسية المحتدمة في الأدب اكبر أسباب تدهوره الطويل.

فالأدب العربي لم يكن على اتصال بآداب أجنبية فيأخذ عنها حب الطبيعة وإيثار البساطة، ويلتفت باطلاعه عليها إلى حقائق الحياة الكثيرة التي أهملها، وهو لم يكن يتنازل فيتصل بآداب العامة وأقاصيص الزراع والرعاة، التي تنسم فيها نسائم الطبيعة والبساطة والشعور الصميم، وهو لم يكن يرجع إلى ماضيه الرومانسي الذي سبقت الإشارة إليه، فينظر فيه نظرة حرة مميزة، تستخلص اللباب وتنظر من خلاله إلى حقائق الحياة، إنما يرجع إليه طلباً للأسلوب واللفظ، دون المعنى والموضوع، كان يعده كنز لغة فصيحة الأساليب والألفاظ لا كنز حقائق منتزعة من الحياة الصميمة. فإذا نظر إلى المعاني حاول حكايتها وتقليدها تقليداً كاملاً على ما هي عليه، أي حاول الأديب أن يحيا في أدبه حياة البدو ويشعرهم بشعورهم كله، وكان الأجدر أن ينبذ ذلك جميعاً، ولا يهتم إلا بصدق تعبير أولئك المتقدمين عن شعورهم، ووجوب صدقه في تعبيره عن شعوره الصحيح، في عصره وحياته المخالفين لما كان قبله

ظل هذا المذهب الكلاسي التقليدي سائداً الأدب العربي، يقلد المتأخر المتقدم ويزيد عليه تقييداً وتضييقاً في مجالات القول وأوضاعه، مادام الأدب محجوباً عن غيره من الآداب بعيداً عما جهله أو تجاهله من حقائق الحياة والأدب، حتى أتيح له الاتصال بالآداب الغربية في العصر الحديث، فصحا من غفوته ونفض عنه تدريجاً غبار التقليد والتقييد اللفظي والمعنوي، وفتن بحقائق الكون ومحاسن الطبيعة التي كان عنها في شغل، وتناول شتى المواضيع التي كان حرمها على نفسه، وبالجملة تقشع عنه عصره الكلاسي الطويل، وأشرق عليه فجر نهضة رومانسية جديدة

فخري أبو السعود