مجلة الرسالة/العدد 192/داعي الدعاة ونظم الدعوة عند الفاطميين
→ من التاريخ | مجلة الرسالة - العدد 192 داعي الدعاة ونظم الدعوة عند الفاطميين [[مؤلف:|]] |
في الأدب المقارن ← |
بتاريخ: 08 - 03 - 1937 |
للأستاذ محمد عبد الله عنان
كانت الدعاية من اعظم العوامل التي عاونت على ظفر الحلفاء في الحرب الكبرى؛ وللدعاية في عصرنا أعظم شأن في تكوين الرأي العام. وفي توجيهه إلى النواحي والغايات التي يراد توجيهه إليها، ولا يخفى ما للرأي العام اليوم من القوة والنفوذ حيثما تتاح له فرص الظهور والإعراب؛ ففي الأمم الديمقراطية التي مازالت الحريات العامة فيها قائمة مكفولة يتمتع الرأي العام بكل قوته ونفوذه، ويحسب حسابه، ويحدث أثره في توجيه الحوادث والشؤون؛ وحتى في الأمم التي تسودها النظم الطاغية، وتسحق الحريات العامة، ويسلب الرأي العام والخاص كل حرية في القول والإعراب، تتبوأ الدعاية أهميتها كوسيلة قوية لتكوين رأي الكافة، ومحاولة التأثير على الخاصة والمستنيرين، وإخفاء ما يراد إخفاؤه من عيوب النظم الطاغية والإشادة بما تدعيه من الفضائل والمزايا وتحقيق الإصلاح والخير العام؛ وفي سبيل هذه الغاية تعتمد النظم الطاغية على هيئات قوية محكمة للدعاية الشاملة تسيطر على جميع وسائل الدعوة كالصحافة والأدب والراديو والتمثيل والسينما وغيرها مما تلمس أثره في تكوين الرأي العام وتوجيهه وتثقيفه
وتبدو هذه الهيئات المحدثة للدعاية كأنها بدعة في النظم الجديدة، وكأنها ابتكار لم يسبق مثوله في غيرها، وقد بلغت في بعض الدول مرتبة الوزارة الخاصة، وأضحت من دعامات الحكم الجديد التي يحسب حسابها في حشد الرأي العام وفي توجيه حيثما شاءت السياسة العليا. بيد أنا سنرى في هذا الفصل أن تنظيم الدعاية الرسمية على هذا النحو ليس ابتكاراً جديداً، ولم تنفرد به تلك الدول والنظم التي تفاخر به وتعتمد عليه، وأنه قد عرف في الدول الإسلامية قبل ألف عام، واتخذ كما يتخذ اليوم أداة قوية لغزو الأذهان وتوجيه رأي الكافة، وكان دعامة من دعائم الحكم والخلافة
أجل عرفت الدولة الإسلامية قيمة الدعاية ولجأت في مختلف الظروف والحوادث لتحقيق غايات الدين والسياسة: بيد أنها لم تدمج في هيئة خاصة، ولم تنظم أصولها ووسائلها بصورة رسمية إلا في الدولة الفاطمية. ففي ظل هذه الدولة القوية المدهشة نجد الدعوة تتخذ وسيلة من أنفذ الوسائل لحشد الأولياء والكافة وتوضع لها نظم هي آية الطرافة والبراعة، ونجد هذه الهيئة الرسمية التي تضطلع بهذه المهمة الخطيرة ترتفع إلى مرتبة الوزارة، فتجعل الخلافة الفاطمية منها سياجاً منيعاً لإمامتها وزعامتها الدينية
لما استقر الفاطميون بمصر وغدت مصر منزلهم ومثوى ملكهم ودولتهم شعرت الخلافة الفاطمية بالحاجة إلى مضاعفة جهودها المذهبية، ذلك أنها لم تجد في مصر كما وجدت في قفار المغرب الساذجة مهداً خصباً لدعوتها، بل ألفت في مصر مجتمعاً متمدناً عركته الأحداث الدينية والسياسية والفكرية؛ ولم يكن اعتماد الخلافة الفاطمية في بث دعوتها على سلاح التشريع قدر اعتمادها على الدعاية السرية، وغزو الأذهان بطريقة منظمة، لأنه إذا كان التشريع وسيلة لسيادة الكافة وتحقيق الطاعة الظاهرة فإن الدعاية المنظمة هي خير الوسائل لغزو الأذهان المستنيرة وحشدها لتأييد الدعوة المنشودة. وقد كانت الدعوة السرية أنفذ وسائل الفاطميين إلى تبوء الملك، فلما جنوا ثمار ظفرهم الأولى، كانت الدعوة السرية وسيلتهم إلى حمايتها وتدعيمها، فكان لهم دعاة في سائر الأقطار الاسلامية؛ وكانت مصر منزل ملكهم وخلافتهم منبر هذه الدعوة ومركزها ومجمعها، تنساب منه إلى جنبات الإمبراطورية الفاطمية الشاسعة والى سائر الأقطار الإسلامية الأخرى
وكانت هذه الدعوة المذهبية تتخذ منذ البداية صبغة رسمية، ومذ قامت الخلافة الفاطمية بالقاهرة، نراها تنتظم في القصر الفاطمي وتتخذ صورة الدعوة إلى قراءة علوم آل البيت (علوم الشيعة) والتفقه فيها، وكان يقوم بإلقاء هذه الدروس قاضي القضاة وغيره من أكابر العلماء المتضلعين في فقه الشيعة، وكانت تلقى أحياناً في القصر وأحياناً في الجامع الأزهر؛ وينوه المسبحي مؤرخ الدولة الفاطمية بإقبال الكافة على الاستماع لهذه الدروس والجلسات المذهبية فيقول لنا إنه في ربيع الأول سنة 385هـ جلس القاضي محمد بن النعمان بالقصر لقراءة علوم آل البيت على الرسم المعتاد فمات في الزحام أحد عشر رجلاً، فكفنهم العزيز بالله. بيد أن هذه الدعاية المذهبية الظاهرة التي بدأت في صورة الدروس الفقهية المذهبية، وهي دروس كان يطلق عليها مجالس الحكمة، كانت ستاراً لدعوة أخرى بعيدة المدى، كانت تحاط بنوع من التحفظ والتكتم) هي الدعوة الفاطمية السرية التي كانت الخلافة الفاطمية تجد في بثها وسيلة لغزو الأذهان المستنيرة وحشدها في حظيرتها المذهبية، الدينية والسياسية؛ وكان من عناية الخلافة الفاطمية بتنظيم هذه الدعوة وبثها أن أنشأت لها خطة دينية تضارع في المرتبة والأهمية خطة الوزارة ذاتها؛ وكان هذا المنصب الخطير من أغرب الخطط الدينية التي أنشأتها الدولة الفاطمية وانفردت بها؛ وكان متوليه ينعت بداعي الدعاة وهو أيضاً من أغرب الشخصيات الرسمية التي خلقتها الدولة الفاطمية؛ وكان داعي الدعاة يلي قاضي القضاة في الرتبة ويتزيا بزيه ويتمتع بمثل امتيازاته، وينتخب من بين أكابر فقهاء الشيعة المتضلعين في العلوم الدينية وفي أسرار الدعوة ويعاونه في مهمته اثنا عشر نقيباً وعدة كبيرة من النواب يمثلون في سائر النواحي؛ وكانت هذه الدروس والمحاضرات الخاصة التي يشرف عليها داعي الدعاة، تلقى بعد مراجعة الخليفة وموافقته في إيوان القصر الكبير؛ وتعقد للنساء مجالس خاصة بمركز الداعي بالقصر، وهو المسمى (بالمحول)، وكان من أعظم الأبنية وأوسعها فإذا انتهت القراءة أقبل الأولياء والمؤمنون على الداعي فيمسح على رؤوسهم بعلامة الخليفة ويأخذ العهد على الراغبين في دخول المذهب، ويؤدي له النجوى من استطاع، وهي رسم اختياري صغير يجبى من المؤمنين للإنفاق على الدعوة والدعاة، وكانت ثمة مجالس أخرى تعقد بالقصر أيضاً لبعض الهيئات والطبقات الممتازة من أولياء المذهب - ورجال الدولة والقصر - ونساء الحرم والخاص، ويسودها التحفظ والتكتم، ويحظر شهودها على الكافة؛ وتعرض فيها الدعوة الفاطمية على يد دعاة تفقهوا في درسها وعرضها؛ وكان تلقين هذه الدعوة، هو أخطر مهمة يقوم بها الدعاة، بل كان في الواقع أهم غاية يراد تحقيقها؛ وكان للكافة أيضاً نصيب من تلك المجالس الشهيرة، فيعقد للرجال مجلس بالقصر، ويعقد للنساء مجلس بالجامع الأزهر ويعقد مجلس للأجانب الراغبين في تلقي الدعوة؛ وكان الداعي يشرف على هذه المجالس جميعاً إما بنفسه أو بواسطة نقبائه ونوابه، وكانت الدعوة تنظم وترتب طبقاً لمستوى الطبقات والأذهان فلا يتلقى الكافة منها سوى مبادئها وأصولها العامة، ويرتفع الدعاة بالخاصة والمستنيرين إلى مراتبها وأسرارها العليا
وقد انتهت إلينا وثيقة رسمية هامة هي سجل فاطمي بإقامة داعي الدعاة، وبيان مهمته واختصاصاته وما يجب عليه اتباعه لإذاعة الدعوة، وقد جاء فيه بعد الديباجة شرحاً لمقاصد الدعوة ما يأتي: (وإن أمير المؤمنين بما منحه الله تعالى من شرف الحكمة، وأورثه من منصب الإمامة والأئمة، وفوض إليه من التوقيف على حدود الدين وتبصير من اعتصم بحبله من المؤمنين، وتنوير بصائر من استمسك بعروته من المستجيبين، يعلن بإقامة الدعوة الهادية بين أوليائه، وسبوغ ظلها على أشياعه وخلصائه، وتغذية أفهامهم بلبانها، وإرهاف عقولهم ببيانها، وتهذيب أفكارهم بلطائفها، وإنقاذهم من حيرة الشكوك بمعارفها، وتوفيقهم من علومها على ما يلحب لهم سبل الرضوان، ويفضي بهم روح الجنان وريح الحنان، والخلود السرمدي في جوار الجواد المنان. . .)
ومنها في شرح واجبات الداعي وطرق تلقين الدعوة: (وخذ العهد على كل مستجيب راغب، وشد العقد على كل منقاد ظاهر، ممن يظهر لك إخلاصه ويقينه، ويصح عندك عفافه ودينه، وحضهم على الوفاء بما تعاهدهم عليه. . . ولا تكره أحداً على متابعتك والدخول في بيعتك. . . ولا تلق الوديعة إلا لحفاظ الودائع. ولا تلقي الحب إلا في مزرعة لا تكدي على الزارع، وتوخ لغرسك أجل المغارس، وتوردهم مشارع ماء الحياة المعين، وتقربهم بقربان المخلصين، وتخرجهم من ظلم الشكوك والشبهات إلى نور البراهين والآيات؛ واتل مجالس الحكم التي تخرج إليك في الحضرة على المؤمنين والمؤمنات، والمستجيبين والمستجيبات، في قصور الخلافة الزاهرة، والمسجد الجامع بالمعزية القاهرة، وصن أسرار الحكم إلا عن أهلها، ولا تبذلها إلا لمستحقها، ولا تكشف للمستضعفين ما يعجزون عن تحمله ولا تستقل أفهامه بتقبله، واجمع من التبصر بين أدلة الشرائع والعقول، ودل على اتصال الممثل بالممنون؛ فإن الظواهر أجسام، والبواطن أشباحها، والبواطن أنفس. والظواهر أرواحها. . .)
وفي هذه العبارات ما يلقي الضياء على غايات السياسة الفاطمية الدينية والمعنوية وعلى وسائلها في غزو الأذهان وحشدها من حولها؛ ومن المعروف أن الخلافة الفاطمية كانت تتخذ الإمامة الدينية شعارها، ومرجع زعامتها الدينية في العالم الإسلامي، وشرعية ملكها السياسي، فالدعوة الفاطمية التي كانت تلقى في مجالس الحكمة إلى الكافة والى الخاصة متدرجة في مراتب من السرية والتحفظ طبقاً لمكانة الأشخاص وأحوالهم الفكرية والاجتماعية، كانت رغم صفتها الدينية، ترمي في النهاية إلى أغراض سياسية؛ ذلك أن الخلافة الفاطمية كانت ترى أن تحشد جمهور أوليائها ومؤيديها عن طريق الدين، ومتى اجتمعوا في ظل الإمامة وتحت لوائها، استطاعت أن تحركهم وأن توجههم وفق مصالحها وغاياتها، وأن تعتمد على تأييدهم ونصرتهم كلما اقتضت الظروف والأحوال
والدول المحدثة التي تعتمد في عصرنا على سلاح الدعاية ترمي إلى مثل هذه الغاية؛ فهي تتوسل بما لديها من أسلحة حديثة لغزو العقول والأذهان كالصحافة والراديو والسينما وغيرها لفرض مذاهبها السياسية والاجتماعية والدينية أحياناً على جمهور الشعب والحصول على تأييده ونصرته. ولم تكن الخلافة الفاطمية، وهي من دول العصور الوسطى، تتمتع بشيء من هذه الوسائل القوية المحدثة، ولكنها مع ذلك استطاعت أن تنظم دعوتها بأساليب ووسائل مدهشة، وأن تجني كثيراً من الثمرات المادية والمعنوية، بل لقد كان قيام الدولة الفاطمية ذاته نتيجة من نتائج الدعوة الفاطمية. وذيوع هذه الدعوة في قبائل إفريقية البربرية هو الذي جمع كلمة القبائل حول عبيد الله المهدي، وهو الذي مهد لقيام الدولة الجديدة
والخلاصة أن فكرة الدعاية التي تتبوأ في النظم السياسية والاجتماعية الحديثة، ولا سيما نظم الطغيان الفاشستية، مكانة خاصة، وتعتبر من أقوى أسلحة الطغيان في عصرنا، ليست جديدة في ذاتها أو غاياتها، وإن كانت جديدة في وسائلها، وقد عرفتها الدول الإسلامية قبل ألف عام، واتخذت على يد الخلافة الفاطمية أذكى وأبرع وأنفذ أساليبها
محمد عبد الله عنان