مجلة الرسالة/العدد 192/الكتب
→ البريد الأدبي | مجلة الرسالة - العدد 192 الكتب [[مؤلف:|]] |
العالم المسرحي والسينمائي ← |
بتاريخ: 08 - 03 - 1937 |
سبأ ومأرب
رحلة في بلاد العربية السعيدة
تأليف الأستاذ السيد نزيه المؤيد العظم
للدكتور عبد الرحمن شهبندر
لقد قصر الأواخر عن الأوائل تقصيراً معيباً في وضع المدونات الجغرافية ووصف المسالك والممالك وصفاً علمياً مبنياً على ملاحظاتهم الخاصة وقائماً على وجهة نظرهم ولا سيما وصف الأقطار التي يهمنا شأنها ولنا ارتباط بها خاص؛ ومن هذه الأقطار التي تكاد تكون غفلاً من الذكر في مدوناتنا الحديثة القطر اليماني أو العربية السعيدة حتى صرنا إذا أردنا أن نلم بشيء من أخبارها وشؤونها اضطررنا إلى مراجعة ما دونه السياح الغربيون عنها أو إلى مؤلفات كتابنا من أهل القرون الوسطى. لذلك يعد هذا السفر الذي وضعه الرحالة الأستاذ نزيه المؤيد العظم تحفة ثمينة قد سدت ثغرة عظيمة في تاريخ نهضتنا الأدبية السياسية العلمية
والكتاب مكتوب بطريقة قصصية سهلة وبأسلوب سلس خال من التعقيد والتكلف يكاد من يقرأه يظن أن مؤلفه يحادثه وجهاً إلى وجه ولاسيما من عرف المؤلف معرفة شخصية وتعود سماع حديثه والطريقة التي يدلي حججه بها. وهو لم يبسط فيه أحوال اليمن بسطاً حيادياً مجرداً بل يتحين الفرص ليدلي بآرائه الشخصية ونظرياته الدينية والاجتماعية ويشير من حين إلى آخر إلى أغراض الدول المستعمرة في تلك الأرجاء
ومما استوقف نظري كثيراً ملاحظة منه سبق لي أن تجرعت منها الصاب وأنا واقف على أسكلة عدن في أوائل سنة 1916، فقد حدث يومئذ أنني كنت قادماً من الهند إلى مصر وكانت معنا في الباخرة سيدة إنكليزية أرلندية ملمة ببعض الشئون السياسية فذكرت لها النهضة العربية وكيف أن العرب يعملون لإعادة مجدهم الغابر واستقلالهم المنشود، فلما رست باخرتنا على عدن رأيت خليطاً من الغوغاء بألبسة قذرة وأصوات منكرة وحركات همجية مزرية يتقدمون إلينا على زوارق كبيرة لنقل البضائع. فصاح بعض الإنجليز من على ظهر السفينة (عرب عرب) فجاءتني السيدة الإنكليزية مستفسرة بشيء من التعجب: (هل هؤلاء هم العرب الذين يغارون على مجدهم السابق واستقلالهم المنشود)؟ فبينت لها خطأ التسمية من إطلاق اسم جزء خاص على كل عام وأن حفاة أرلندة - وكانت أرلندة يومئذ تتحفز للثورة - ليسوا كل الأرلنديين. قال الأستاذ نزيه في ملاحظته (ومما يؤسف له أن أكثرية الوطنيين العرب - في عدن - أصبحوا خداماً للأجانب فلا يتعاطون من الأشغال إلا الدنيئة كالخدمة في المنازل وصيد السمك والحماقة ومسح الأحذية ونقل البضائع وخصوصاً الفحم والغاز من السفن التجارية إلى البر؛ وكذلك في مصر من الفرنجة والمتفرنجين من يطلق كلمة (عرب) على هذه الطبقة من الناس
وفي الكتاب ملاحظات قيمة عن الزراعة في البلاد وخصب الأرض وخدمتها والطرق الابتدائية المستعملة في استنباتها وهو يقول أن محصولات اليمن تشمل البن والتنباك والقطن، وذكر لي أن جلالة الإمام استحضر من مصر بزر (السكالاريدس) فنجح هناك نجاحاً ظاهراً ومن أغرب ما جاء في هذا الكتاب مما يخالف المألوف ولا ندري له سبباً أن تضع الحكومة المتوكلية مكساً أو رسماً جمركياً اثنين ونصفاً في المائة على الصادرات ولا تضع شيئاً على الواردات (ص 27)
وأن تعجب فعجب أن تكون اليمن وهي موطن أفخر بن لا تشرب القهوة المعمولة من ثمره وإنما تشرب مغلي قشره مما يذكرني ببلاد النمسا فهي تصنع أفخر الطرابيش لا ليلبسها النمسويون بل لتصديرها إلى بلاد الشرق. واليمنيون إذا أرادوا إكرام ضيوفهم بهذا المغلي سألوهم أتتقشرون أي أتريدون أن تشربوا القشر على قول أتتفكهون
وقد عرفنا قديماً أن نساء اليمن في الأرياف يلبسن القبعات القش ولكن المؤلف رآهن في حفلة عرس سافرات (وبعضهن كن عاريات إلا من مئزر بسيط، وبعضهن كن لابسات أكماماً قصيرة - ديكولتيه - وبعضهن وضعن على رؤوسهن حجاباً أسود، وبعضهن وضعن فوق هذا الحجاب قبعة مصنوعة من قش القمح أو الشعير ذات حجم كبير لترد أشعة شمس تهامة المحرقة وهي من صنعهن، وقد علمتهن الحاجة التي هي أم الاختراع ألا يتقيدن بعادة وقانون بل يلبسن ما يوافق محيطهن واحتياجهن)
ويخيل إلى من يقرأ هذا الكتاب أن البلاد تحت نوع من الأحكام العرفية أو أن أهاليها في مدرسة ليلية أو في سجن إصلاحي لأن السير في طرقاتها من بعد ساعة معينة من الليل محظور، فقد جاء في الصفحة 49 (وفي هذه الساعة الرهيبة - يعني بعد تناول العشاء - لا يسمع المرء في بلاد اليمن من أقصاها إلى أقصاها إلا نداء الجنود في ثكناتهم وقلاعهم وحصونهم (وامتوكلاه) - على طريقة بادشاهم جوق باشا في الدولة العثمانية - وبعدئذ يضرب بوق النوم فيذهب جميع أهل المدن إلى النوم ويصبح الخروج من المنازل إلى الأزقة والشوارع محظوراً على الجميع عدا الجند)
وأعجبني جد إعجاب إلغاء الرق في بلاد اليمن ومنع الأتجار بالعبيد فلم يجد المؤلف لهذا الوضع أثراً في تلك الأنحاء بل قال في الصفحة 50 (إن الإمام حفظه الله منع هذه التجارة منذ تولى الحكم، وكان عنده عبد يدعى صمصام فأعتقه لوجه الله وزوجه من فتاة كانت في خدمته ووظفه في إحدى الوظائف)
وكل كتاب عن اليمن لا يذكر النبات المخدر الذي يدعى (قاتاً) لا يكون مستوفياً للشروط، فالقات عند اليمنيين لا يقل شأناً عن الوسكي عند الإنكليز والبوزه عند السودانيين، وهو له مجالس خاصة ينهمك المجتمعون فيها بمضغه، وأمام كل واحد منهم رزمة كبيرة منه والى جانبها إبريق من فخار ومبصقة من فضة؛ أما الإبريق فيستعملونه لغرغرة أفواههم من حين إلى آخر، وأما المبصقة فلطرح أوراق القات بعد مضغه. ويدوم هذا المجلس من بعد الغداء حتى المساء، ويسمى هذا النبات بالإنكليزية (كانا أديوس) وفيه مادة مخدرة تؤثر في الأعصاب فيشعر من يمضغه براحة وبسط وانشراح
ثم ذكر الأستاذ نزيه أضراره فقال (أنه يقلل من شهية الإنسان للطعام ويزيد فيه الميل إلى شرب الماء ويضر بالأسنان ويسودها، وبالمعدة فيقلل من عصيرها وبالنسل فيضعفه. وبالرغم من جميع هذه المضار وبالرغم من علم أهل اليمن بها فهم يمتدحونه وينشدون القصائد في مزاياه ويستعملونه بأجمعهم ماعدا صاحب الجلالة الإمام يحيى فقد منعه طبيبه الخاص من استعماله منذ عدة سنوات ولا يزال جلالته ممتنعاً عنه إلى اليوم)
ومن دواعي الأسف أن يضيع اليمنيون ثروتهم وصحتهم في هذا المخدر الضار حتى أن الذي يشتغل منهم في نهاره كله بفرنك واحد يصرف معظمه على القات. ويغرس شجره كما يغرس البن في الأودية المرتفعة التي لا تتعرض لحرارة الشمس الحادة إلا بضع ساعات في اليوم، وهو أثمن نبات في اليمن على الإطلاق؛ وتساوي الرزمة الصغيرة من أغصانه نحو ثلاثة فرنكات
ولا يفوتها أن نذكر هنا ما لحظناه من وجود إيطاليين موظفين في الحكومة المتوكلية من أطباء وغيرهم فالأطباء الموجودون هناك الآن من الطليان وقد أتوا إلى اليمن عقب زيارة والى أسمرة السنيور غاسبريني إليها وعقد المعاهدة مع الإمام وهم يتناولون رواتب تبلغ ستين جنيهاً شهرياً للواحد منهم وبيدهم مستشفى الحديدة ومستشفى صنعاء وكذلك التلغراف اللاسلكي في صنعاء فهو بيدهم ومن تأسيسهم بأمر الإمام منذ بضعة أعوام.
وذكر حاخام اليهود الأكبر في صنعاء واسمه يحيى اسحق للمؤلف أنه كان لليهود مملكة عظيمة في اليمن إلى الشرق من صنعاء أسسها سليمان بن داود وربما كانت هذه المملكة في نجران وأن اليهود في صنعاء ذكوراً وإناثاً يبلغون زهاء عشرين ألف نسمة لهم 15 مدرسة و19 كنيساً وهم يمارسون شعائرهم الدينية كما يشتهون ويطبقون شريعتهم الموسوية كما يرغبون ويعلمون أبناءهم العبرية دون العربية. وعرف المؤلف أن للصهيونيين مخابرات طويلة عريضة مع صنعاء وأن لهم صناديق للإعانة في كل دار من دور اليهود في معظم مدن اليمن والإسرائيلي الذي يريد أن يتصدق بشيء مهما كان زهيداً يضعه في هذا الصندوق، ورب الدار ليس مأذونا بفتحه بل يفتحه وكيل الجمعية في كل شهر ويخرج ما فيه ويرسله إلى صندوق الجمعية الصهيونية في القدس واسمه صندوق الأمة، قال المؤلف: (حبذا لو كان زعماء الحركة الوطنية في الشرق يقتدون باليهود ويأخذون هذا الدرس عنهم.)
هذه لمحة مستعجلة عن الجزء الأول من هذه الرحلة المباركة ولكن العمل الخطير والاكتشاف الأثري العظيم هو في الجزء الثاني حيث يدون المؤلف رحلته إلى بلاد سبأ وسد مأرب فيذكر كيف حصل على الإذن من جلالة الإمام بالسفر إلى تلك الأنحاء المحفوفة بالمهالك والمخاطر ويذكر الجنود الذين ساروا لحمايته من التعدي مما لم يسبق له مثيل ولم يحصل عليه أحد قبله. وكانت بداءة هذه الرحلة إلى مأرب في اليوم السادس والعشرين من يناير سنة 1936 إذ ترك صنعاء وسار مشرقاً فدخل في واد يدعى (وادي السر) ومنه سار إلى قرية (القمعة) فقرية (آل الوزير) فوادي (حريب) فصرواح فقرية تدعى محترجة وهي آخر قرية يسكنها اليهود في شرق صنعاء وهكذا حتى وصل سد مأرب، ووصف ما رأى في طريقه من آثار ومعادن ونباتات وأشجار فقال عن المعادن مثلاً والحديد من جملتها أنها كثيرة ومتنوعة، ونقل الكتابة الحجرية الموجودة حول جدران قصر (صرواح) بخط يده وعرضها على من ترجمها له من المستشرقين الألمان ومن الأخصائيين المصريين في القاهرة وكان وصوله إلى مأرب في اليوم التاسع والعشرين من يناير سنة 1937 بعد الظهر أي بقي على الطريق نحو أربعة أيام كأن المسافة كلها بين صنعاء ومأرب 120 كيلو متراً، ولما وصل إلى مدينة مأرب هو وعامل الإمام يحيى والجنود استقبلهم الأهلون بالطبول والأناشيد. وبعد ذلك نرى في الكتب صوراً ثمينة للسد وجدرانه القائمة وأبوابه الواسعة والخطوط الموجودة على أحجاره وصفاً دقيقاً لمجاري المياه وكيف تتجمع وتتوزع ومن أين تأتي، والجنتان اللتان كانتا تشربان منه والأشجار الباقية من خمط وسدر وائل مما ينطبق كل الانطباق على ما ورد في القران الكريم
وقصارى القول أن هذه الجولة الأثرية في بلاد مجهولة عندنا هي ذات قيمة علمية من الطراز الأول يهنأ عليها الأستاذ نزيه المؤيد العظم ولا سيما أن بعض الأوربيين الذين وصلوا إلى تلك الأرجاء لم يتمكنوا من رؤية جزء صغير مما رآه سائحنا العربي بالنظر إلى المخاوف التي كانوا معرضين لها؛ ونعد عمله بادرة من بوادر نهضتنا العلمية العملية المباركة
عبد الرحمن شهبندر