مجلة الرسالة/العدد 19/الحارس
→ القصص | الحارس Le Garde المؤلف: غي دو موباسان المترجم: محمد ناجي الطنطاوي |
بلياس ومليزاند ← |
الحارس هي قصة قصيرة بقلم غى دو موباسان نشرت في مجموعة إيفيت Yvette عام 1884. نشرت هذه الترجمة في العدد 19 من مجلة الرسالة الذي صدر بتاريخ 15 أكتوبر 1933 |
لجى دوموباسان
بعد أن فرغنا من تناول الغداء، كان قد بدأ صديق لنا قديم وهو السيد (بونيفاس) يسرد علينا حوادث ومخاطرات جرت له أثناء الصيد، وهو مشهور بالصيد وشرب الخمر، جلد، بشوش، ذو تفكير ناضج، وشعور حي، وله فلسفة تهكمية تظهر بها نفسيته عند المداعبة القارصة، ولا تظهر أبداً إذا تكلم بحزن. قال لنا فجاءة:
إنني أعرف حادثة صيد، أو بالأحرى مأساة صيد فريدة في بابها، لا تشبه أبداً الحوادث التي نعرفها، وإنني أعلم أني لم أقصها عليكم من قبل ولا على غيركم، لأنها لا تسلي أحداً، فهي ليست عاطفية، أريد أن أقول أنه ليس لها هذا النوع من اللذة التي تشوق السامع أو التي تسحره، أو التي تذهله، وهاكم الحادثة:
كان عمري آنئذ يناهز الخامسة والثلاثين، وكنت اصطاد بقوة الشباب، وكنت قد اقتنيت في ذلك الوقت قطعة أرض منعزلة في إحدى الضواحي محاطة بالغابات وهي مأوى طيب للأرانب. ذهبت إليها مرة وقضيت فيها وحدي أربعة أيام أو خمسة لأنني لم أتمكن من اصطحاب أحد الأصدقاء. مكثت هناك كالحارس أو كشرطي متقاعد شجاع شديد البأس على باب قلعته، وكنت لا أخاف شيئاً. وكان بالقرب من أرضي بيت صغير منعزل أو بالأحرى كوخ يتألف من غرفتين سفليتين ومطبخ وغرفة للطعام، وغرفتين علويتين، إحداهما صغيرة لا تتسع لأكثر من سرير ومرآة وكرسي وهي التي استأجرتها، وكان يشغل الثانية (كافالييه) الهرم، وقد قال لي أنه وحيد في مسكنه. فأقمت عنده باسم مستعار ثم أسكن معه حفيده. وهو من الأشقياء تبلغ سنة أربعة عشر عاماً كان يذهب من حين إلى آخر إلى القرية التي تبعد ثلاثة كيلومترات وكان يساعد الكهل في أشغاله اليومية.
كان لهذا الشقي الطويل الهزيل المحدودب قليلا، شعراً أصفر اللون خفيف يشبه ريش الدجاجة المقصوص، حتى ان من يراه يحسبه أصلع، وله كذلك قدمان ضخمتان ويدان جبارتان كيدي المارد، عينه حولاء قليلا، وكان إذا مشى لا يرى أحداً فهو إلى الحيوانات أقرب منه إلى الإنسان لأنه يشبه الثعلب.
كان ينام في ثقب صغير في أعلى الدرج وكان يدعى (ماريوس) ولكنه تخلى عنه أثناء إقامتي هناك لامرأة مسنة تدعى (سيليست) كان الكهل قد أتى بها لصنع الطعام.
قد علمتم الآن الأشخاص والمكان فهاكم الحادثة:
نحن في 15 أكتوبر سنة 1854 وهو التاريخ الذي لا أنساه أبداً. خرجت ذات صباح من روان ممتطياً صهوة جوادي يتبعني كلبي (بوك) ذو الصدر الواسع واللسان الحاد والأسنان القوية، التي تخترق الأشواك.
وكنت مردفاً حقيبة سفري وبندقيتي، وكان يوماً شديد البرد، عاصف الهواء رطبه، كثيف السحاب مسرعة، وكنت أرى من الشاطئ وادي السين الواسع الذي يمتد ماؤه حتى الأفق ماراً بأوكار الثعابين على ضفتيه، وكان النظر يمتد على الضفة اليمنى حتى يقف على الشواطئ البعيدة المستورة بالغابات، ثم اجتزت غابة رومار، مبطئاً تارة ومهرولا أخرى حتى كنت في الساعة الخامسة تقريباً أمام البيت حيث كان الكهل والعجوز ينتظرانني.
وبعد عشر سنوات من نفس التاريخ ذهبت بنفس الهيئة وسلمت على نفس الوجوه بنفس الكلمات.
- أهلاً وسهلاً أيها السيد، كيف صحتك؟ ألا تزال جيدة؟
وكان الكهل لم يتغير منظره أبداً، فقد كان يقاوم الزمن كالشجرة المسنة، ولكن (سيليست) كانت قد تغيرت ملامحها منذ أربعة أعوام لا أكثر حتى أنني لم أعرفها لأول وهلة. غيرها الزمان ولكنها مازالت نشيطة. وكانت تمشي بجسمها الطويل منحنية إلى الأمام حتى أن رجليها كانتا تشكلان تقريباً زاوية قائمة.
وكانت هذه المرأة تبذل جهدها في عملها، وكانت تدهش عندما تراني وكانت تقول لي عند كل ذهاب:
- هل هذه هي المرة الأخيرة التي أراك فيها يا عزيزي؟
حقاً أن وداع هذه الخادمة محزن، وأن قنوطها أمام الموت الذي لا مفر منه كان يظهر جلياً في وجهها وعينيها حتى أن وداعها كان يؤلمني ويشعرني بحالة نفسية غريبة.
نزلت عن ظهر الجواد إلى الأرض وكان الكهل الذي صافحته يقود الجواد إلى المأوى الصغير الذي يصلح أن يكون اصطبلا، ثم تبعت سيليست إلى المطبخ الذي يصلح أن يكون غرفة طعام.
ثم تبعنا الحارس، وقد لاحظت للوهلة الأولى أن وجهه ليس كالمعتاد فأن القلق والضيق يظهران عليه فقلت له:
- هل تريد أيها الشيخ أن يسير كل شيء في العالم حسب رغبتك؟ فقال بصوت هادئ:
- إن ما حدث لي اليوم، سبب لي هذا الضيق
فقلت: ماذا حدث لك أيها الكهل؟ هل لك أن تقص عليّ ذلك فأومأ برأسه سلباً، وقال:
- لا، لم يحن الوقت أيها السيد، إنني لا أريد أن يحصل مثل هذا بعد الآن، فألححت عليه، ولكنه رفض أن يبدأ بها قبل الغداء فعلمت أنها قصة مؤثرة. ثم قلت له قطعا للصمت:
- وهذه الجعبة؟ هل لنا فيها شيء؟
- فقال: نعم، ستجدون ما تشاءون، الحمد لله! لقد كان نصيبي اليوم وافراً.
قال هذه الكلمات بشجاعة، ولكنها شجاعة حزينة تبعث على الضحك، فان شاربيه الضخمين الرماديين كانا على وشك السقوط من فوق شفته.
ثم أخبرتهما فجاءة أنني لم أر الحفيد إلى الآن فقلت:
- وماريوس؟ أين هو؟ لماذا لا يظهر الآن؟
فاعترت الحارس رجفة خفيفة ثم التفت ألي بسرعة وقال:
- أريد إذن أن أقص عليك الآن أيها السيد كل شيء، أجل إنني أفضل ذلك، وأن الذي أطويه في سري يتعلق بماريوس.
فقلت أين هو الآن؟ فأجاب:
- إنه بالإسطبل يا سيدي، وأنا أنتظر الساعة التي يظهر بها، فقلت وماذا يصنع هناك؟ قال:
- اسمع أيها السيد. . . ثم تردد برهة وتغير صوته وارتجف وظهرت على وجهه تجاعيد الشيخوخة ثم قال:
- اسمع، لاحظت في هذا الشتاء أن هناك سارقاً في الغابة ولكنني لم أتمكن من القبض عليه. فقضيت هناك بضعة ليال ولكني لم أجد شيئاً. وفي هذه الأثناء أخذ يتزايد المسروق من الغابة؛ فانفجرت غيظاً وحنقاً وطفقت أبحث عن المجرم، ولكن عبثاً.
وفي أحد الايام؛ عندما كنت أنظف سروال ماريوس وجدت في جيبه أربعين قرشاً، فقلت في نفسي من أين لهذا الغلام بها؟
ولبثت ثمانية أيام أفكر، ثم رأيته يخرج كل يوم عندما أرجع إلى البيت لأستريح، فعندما أخذت أراقبه، ولكن دون أن يرتاب بي. وفي ذات صباح رأيته يستعد للذهاب فنهضت على خلاف عادتي وتبعته وليس أحد يجاريني أيها السيد في التتبع. ثم قبضت عليه. قبضت على ماريوس الذي كان يسرق من أرضك أيها السيد! نعم هو حفيد حارسك فغلى الدم في رأسي وفكرت في أن أقتله في مكانه بضربة من يدي، آه. نعم ضربته وقلت له أذهب، وأوعدته أنك عندما تكون هنا سأضربه مرة أخرى عقاباً له لأردعه، وقد أثر فيّ الحزن فهزلت كما ترى وأنك تعلم عقاب مخالفة كهذه المخالفة. ولكن ماذا كنت تعمل غير هذا؟ أنه ليس له أب ولا أم وليس من أسرته إلا أنا؛ فكنت أراقبه ولا أقدر أن أطرده، على أني أنذرته أنه إذا عاد إلى هذا العمل فإن خاتمته سوف تكون على يدي. ولن أرحمه أبداً، فهل صنعت حسناً أيها السيد؟
فقلت له ماداً إليه يدي.
- نعم ما فعلت أيها الشيخ! إنك رجل شجاع.
فقال: شكراً أيها السيد، وسأذهب الآن فأدعوه اليك؛ فيجب أن تؤدبه أنت أيضاً ليرتدع.
وكنت أعلم أنه ليس من اللائق أن أرد هذا الشيخ عن قصده، فتركته يفعل ما يشاء، فذهب يبحث عن الشقي ثم رجع به يجره من أذنه.
وكنت جالساً على كرسي من القش بهيئة المستعد للحكم.
فظهر ماريوس أمامي أكبر سناً وأكثر قبحاً من السنة الفائتة، وظهرت يداه الكبيرتان ضخمتين، فدفعه عمه أمامي وقال بصوت المربي:
- اعتذر لصاحب الأرض!
فلم ينبس الغلام ببنت شفة
فقبض عليه عمه من إبطيه ورفعه عن الأرض وأخذ يضربه بقسوة اضطرتني إلى أن أستشفع له فأخذ الولد يصيح
- شكراً، شكراً أعدك أن. . .
ثم ألقاه الشيخ على الأرض وأخذ يضربه على كتفيه وركبته قائلا له: - اعتذر فقال الشقي أخيراً بصوت متهدج وطرف خاشع: أعتذر، وعندئذ رفعه عمه وأطلقه بركلة دحرجته فوق الأرض فنجا، ولم أعد أراه في المساء.
ولكن ظهر على الشيخ أنه تعب فقال: إن أخلاقه سيئة.
وقال ونحن على مائدة الغداء.
- إنني أحزن له أيها السيد، أنت لا تعلم كم يشجيني أمره.
فحاولت أن أسليه ولكن عبثاً. . .
ونمت باكراً استعداداً للصيد، وكان كلبي نائماً عند رجل سريري حين أطفأت شمعتي.
استيقظت نصف الليل على صياح الكلب، ولاحظت أن غرفتي ملأى بالدخان، فقفزت من فراشي وأشعلت النور وهرولت نحو الباب ففتحته فدخل تيار من الدخان، وكان البيت يلتهب!
فأقفلت الباب بسرعة ولبست سروالي وأنزلت أولا كلبي من النافذة بواسطة حبل مربوط في سترتي، ثم ألقيت ثيابي وسكيني وبندقيتي ونزلت أخيراً بالواسطة نفسها.
وأخذت أصيح بكل قواي: كافالييه! أيها الشيخ! كافالييه!. ولكن الشيخ لم يستيقظ، بل كان نائماً نوم الضباط العميق، وفي هذه الأثناء رأيت من أعلى النافذة أن الطابق الأسفل كالأنون المستعر، ولاحظت أنه مملوء بالتبن الذي أشتعل لتقوية الحريق. . وعاودت الصياح بشدة قائلاً: كافالييه. . ثم مر خاطر برأسي، فصوبت بندقيتي إلى النافذة وأطلقت رصاصتين فانكسرت الألواح الستة، وفي هذه المرة سمع الكهل ولما رأى النار اعتراه ذهول ودهش فصحت به:
بيتك يحترق، ألق نفسك من النافذة، اسرع، اسرع. . وكان الدخان يخرج من النوافذ السفلية، موازياً الحائط ثم يزحف إلى الشيخ ويحيط به، فألقى بنفسه فسقط على رجليه كالهرة. ثم مضى وقت، وصار السقف يفرقع وكان الدرج أشبه بمدخنة طويلة، وكان لسان النار طويل يتصاعد في الجو ويتمدد، وكانت الشرارات تتناثر حول البيت فقال الشيخ بذهول:
- كيف حصل هذا؟ فأجبت: وضعت النار في المطبخ
فقال: من تظن أنه وضعها؟ فقلت فجاءة: ماريوس! ففهم الشيخ وقال: آه ولأجل هذا لم يرجع بعد ولكن فكرة رهيبة خطرت لي فقلت: وسيليست، سيليست؟! فلم يجب، ولكن المنزل كان ينهار أمامنا كتلاً من الأحجار لامعة دامية، وكانت المرأة المسكينة قد صارت حجراً أحمر، من اللحم البشري.
إننا لم نسمع صياحاً، ولكن عندما انتقلت النار للسقف المجاور لسقفنا فكرت في جوادي وركض الشيخ ليخلصه.
وتمكن بمشقة من فتح باب الإسطبل فشاهد جسما خفيفاً سريعاً مر بين رجليه ولطمه في أنفه، وكان هذا ماريوس هارباً بكل قواه، فنهض الشيخ ليقبض على الشقي، ولكنه عرف انه لا يمكنه اللحاق به، وأصابه جنون شديد، ولما رأى انه لا يستطيع القبض عليه تناول بندقيتي الموضوعة على الأرض قريباً منه فوضعها تحت إبطه قبل أن تبدو مني حركة واحدة، وأطلقها وهو لا يعرف أن فيها رصاصات عديدة، فأصيب الهارب في ظهره وسقط على الأرض مضرجاً بدمه، فأخذ ينكث الأرض بيديه ورجليه كأنه يريد أن يركض على أربع كالأرانب الجريحة حين ترى الصياد قادماً إليها.
فتألمت، وأخذ الغلام ينازع ثم قضى قبل أن ينطفئ الحريق دون أن يقول كلمة.
وكان كافالييه واقفاً بقميصه وساقيه العاريتين، لا يتحرك وعندما أتى رجال القرية حملوا حارسي وهو كالمجنون.
ذهبت إلى المحكمة شاهداً وسردت الحادث بتفاصيله دون أن أبدل شيئاً، فبرئ، كافالييه، ولكنه ترك البلدة في اليوم نفسه ولم أعد أراه. هذه قصة صيدي أيها السادة.!
محمد ناجي الطنطاوي