مجلة الرسالة/العدد 188/من روائع أدب الغرب
→ النفس وخلودها عند أبن سينا | مجلة الرسالة - العدد 188 من روائع أدب الغرب [[مؤلف:|]] |
وطني في عرس الحرية ← |
بتاريخ: 08 - 02 - 1937 |
الخلود '
لشاعر الحب والجمال الفونس دي لامرتين
ترجمة السيد حسين تفكجي
أحبها فبادلته حبه، فراحا يرشفان أكؤس الغرام تحت ظلال الأشجار الباسقة.
في أفياء الأدواح المنتشرة غنى لها لحن غرامه. فسمعه الطير على غصنه، وأنصت له العصفور على فننه. اختلسا النعيم ساعات معدودة. حتى رمى الدهر سهم التفرقة، فسافرت بعيدة عنه إلى باريس.
انتظر كتابا منها يطمئنه على صحتها يرجع الأمل إلى صدره، والى فؤاده أشعة الحياة. ولكن ساعي البريد أتاه بكتاب نعيها.
مسكينة؟! أماتت (جولي). أو يموت من عاش لأجل الحب؟ لم يصدق عينيه. سار يخبط خبط عشواء، يردد ألفاظها، يقف الساعات الطوال مكانه يرجع أنشودة غرامها.
إنها أمل رحل. وحب مقيم)
نظم قصيدته (الخلود) ' فكانت قطعة من قلبه الملتهب، ونشيدا لفؤاده المضطرب.
قضت (الفير) (كما يدعوها) نحبها. فدبت إلى جسم (لامرتين) يد المرض.
كان في ريعان الشباب. ظن نفسه أنه على طريق الآخرة يسير. فلذا جاءت قصيدته (الخلود) جامعة لشتى معاني الفلسفة، والحب والجمال، والخلود، والحياة والموت.
إلى جولي
شمس حياتنا اصفرت وهي في فجرها. ترسل على جباهنا الذابلة ووجوهنا المنهوكة المتعبة أشعتها المضطربة، وأضواءها الحائرة، التي تغالب طلائع الظلام وتناصب هواجمه. الظل يمتد، النهار يموت؛ كل شيء يزول، وكل شيء يفر ويحول.
كم يهلع المرء لهذا المنظر الرهيب ويرتجف! لشد ما يتراجع وهو راعن الأوصال مضطرب الفؤاد عن شاطئ الهاوية الماثلة أمامه! بل لكم يخفق قلبه الضعيف، إذ ينصت من بعيد لتلك الأنشودة المظلمة! تلك أنشودة الموت، مازالت تتردد في أعماق صدره، وتنتشر في أنحاء نفسه. وتلك الزفرات المتصاعدة والتنهدات المرسلة، والأنات المخنوقة، والأنفاس المتحشرجة، لهي آهات الحبيب، وزفرات الخليل، وانتحابات الولهى، تضطرب وتتراجع، تتقدم وتتأخر، حول سرير الموت.
الناقوس الصغير مازال يرسل الهمسات، ويعلو بالخفقات. أصواته التي تطويها معالم الفضاء تنبئ الأحياء أن شقياً بائساً رحل، ومكدوداً تاعساً إلى هوة القبر نزل
أحييك أيها الموت، أيها المنقذ السماوي، سوف لا تظهر أمام ناظري بهيئتك المرعبة، وبزتك الموحشة، وطلعتك المشؤومة. إن يمينك سوف لا تشارفني بمرهف ماضيك، أني لا أرى تجهم وجهك، ولا أقرأ في عينيك معالم الجريمة والخيانة، فأنت الذي تنقذنا من آلامنا، تخفف من أحزاننا، تأخذ بيمنانا لتقودنا إلى حيث الرب الرحيم تستعدي رحمته على نكباتنا، وتستنزل رأفته على ويلاتنا.
إنك لا تميت بل تنقذ؛ إنك لا تهلك بل ترحم؛ إن يدك يا رسول السماء تحمل إلي نبراساً إلهيا، يوم تغمض عيناي الكليلتان أجفانهما. تأتي تحت الأضواء المنعشة لتبلل ناظري، وتغمض عيني، والأمل إلى قربك يطفر، يظلله الأيمان، تشده التقوى، فتفتح أمامي عالماً رائعاً
إلي أيها الموت. أقبل واكسر عني أغلال الجسد. بدد عن نفسي قيود الأوصال. أفتح باب سجني واكسر مغالق حبسي وأعرني أجنحتك الرفرافة، وقوائمك الهفهافة. ماذا يمنعك عني؟. لماذا تتأخر؟ ماذا يعيقك عن زيارتي الأخيرة؟ تقدم إلي. فإني أريد أن أرمي بنفسي نحو ذلك الكائن المجهول، حيث أعرف سر حياتي ومماتي
أي شيء فصل عني؟ من أنا؟ ومن سأكون؟.
أموت ولا أعرف ماهية الحياة وسر الوجود، وأذهب وأنا أجهل ما البقاء! ما أنت أيتها الروح المبهمة، أيها الطيف المجهول؛ أيها السر الغامض. قبل أن أردى في لحدي أريد أن أسألك: أية سماء بحقك تسكنين؟ وفي أي عالم تعيشين؟ وأي قدرة إلهية رمتك إلى هذه الكرة المحطمة، حيث عالمنا الضعيف الهشيم، وأي يد إلهية قذفت بك إلى سجنك الفخار، واعتقلك في محبس الطين؟ وأي سر عجيب ربطك بالجسد وربط الجسد بك وأي يوم تنسلخ الروح فيه عن المادة؟ وتصبح عالما بنفسها، تقوم بأودها دون أن تعتمد على الجسد البالي والجسم الفاني؟
إلى أين تذهبين؟ أتتركين الأرض الجميلة لترحلي إلى قصر منيف؟ هل نسيت كل شيء؟ أم لا زلت تذكرين؟ إن هناك القبر، فهل ستبعثين إلى عالم مجهول جديد؟ أتعودين إلى حياة أشبه وعالم أحكى وأمثل إلى حجر الله، حيث رأيت أشعة الحياة ولمست معالم الوجود. أم إنك ستفصلين من كل شيء تدب إليه يد الفناء؟ وتسير في عروقه دماء البلاء
أستنعمين بمناعم الخلود الأبدية وتلعبين في الجنان غير البالية؟
نعم، هذا أملي الوحيد يا نصف حياتي. تلك هي الأمنية التي بها رأت الروح التي تضيء جوانب صدري طرق الحياة. وكانت عزاء نفسي المتألمة التي قضي عليها بالسجن في هذا الجسد البالي. شهدت ربيع حياتك يرحل وألوانه البهيجة تموت وتذبل، وزهوره المتلألئة تسير نحو هوة الفناء، والحزن مازال يفتك بي، والموت يدير مني الخطوات وأنا أجود بالنفس الأخير، ترتسم على شفتي الابتسامة، وتنهمل من عيني دموع الفرح، مقدماً إليك كلمات الوداع الأخير، منتظراً نظراتك لتشع في عيني قبل أن يغمضهما الموت
أولئك الذين تعلقوا بأذيال المادة، وكانوا أشبه بالقطيع، يسيرون وراء راعيهم (أبيقور سيهتفون (يا له من أمل كاذب خلب قد مضى ورحل، عندما يرون معالم الدنيا قد قضت وانتهت
وذلك العالم الذي مازال يفحص أسرار الطبيعة يود اكتشافها، يدرسها في زاوية مهملة تسمى العقل. سيقطع الدهر في فهم كنه المادة، يعيش في عالم الملموسات، يغفل عن الروح ولكنهم سيهتفون به:
أيها الأحمق، أي كبر سخيف يكسوك؟ أنظر حولك! تأمل بناظريك! كل يبتدئ لينتهي، وكل يدب نحو الفناء دبيبه. إن سيرك نحو هدف ممثل، والى غاية نهائية هي (هوة الموت)
انظر إلى الحقل وقد علت أوراقه صفرة الذبول! ألا ترى الزهرة تتعب وتضمحل ثم تلفظ الأنفاس؟ ألا تشهد في هذه الأحراج الملتفة تلك السدرة العظيمة بجبينها الشامخ ونظراتها إلى العلياء كيف هوت تحت ثقل السنين ورزحت تحت أعباء الدهر، ثم امتدت على العشب النضير المنتشر على البطحاء الأرض؟ ألا تنظر الأنهار تنضب في مجاريها، والبحار تجف في قيعانها، وهذا الكوكب المتلألئ في السماء أخرت يد الزمن ولادته، وهذه الشمس، وما أشبهها بنا! إنها تسير إلى الفناء والعدم، وفي السماء حيث الأموات ينتظرون يوماً به ينعمون.
تأمل حواليك الطبيعية. مرت الأجيال فتكاثفت أتربتها. وتحولت الأعوام إلى ذرات غبار تناثرت في فضائها
إن الزمن بخطوة واحدة يذل من كبريائك، يخمد عزة نفسك، ويطفئ جذوة اشتعالك، يقبر في جوفه العميق الحوادث، ويرمس في لحده المخيف الأيام.
ولكن الإنسان، الإنسان وحده، المجنون الأكبر في هذا الكون! إنه ليظن أن القبور لتسعد بسكانها، ويأمل أن يعيش الحياة ثانية فيها، فيظفر طياتها بالحياة أثر الحياة، ويحلم بالأبدية والخلود، وهو كريشة في مهب زوبعة العدم الهائجة
ليجبكم غيري، يا عقلاء الأرض، يا مدعي الفلسفة. اتركوا لي خطأي، فأنا أهوى فلذا آمل، فإذا كان الخلود خطيئة لا توجد مرسومة إلا في بعض العقول دون أخرى، فكم هذه الخطيئة عزيزة لدي!
اتركوني أيها العقلاء أنعم بجانب ضلتي، إني أحب أن أتمنى وأن أعلل الأشياء، إن عقلنا الضعيف المضطرب يتحير. بلى إن عقلنا ليمسك عن الكلام أمام حججكم، ولكن الإدراك يجيبكم
أما أنا، عندما أرى الكواكب تسبح في السماوات العلى، والنجوم تنحرف عن طرفها المدبرة وسبلها المقررة، واشهد النجم في حقول الأثير اللانهائية يناطح النجم، والكوكب يركض أثر الكوكب، فأنصت لصراخ الأرض، واستسكن لسماع صرخاتها المتوالية تتنهد، وقد شق جوفها، ومادت كرتها هائمة تضطرب، بعيدة عن السماوات وشموسها، تبكي الإنسان المحطم، أبنها العاني، المسرع في طريق الموت الذي هام في حقول الأبدية المظلمة، عندها أكون الشاهد الأخير، والحاضر الفرد، وقد احتاطني المدلهمات، وأمسك بيدي الموت إلى جوف الظلمات. وبالرغم من ضعفي سأنهض واثباً، لا خوف يدب إلى قلبي، ولا ذعر يمسك علي فؤادي، أفكر فيك، أرقب بفارغ الصبر عودة الفجر الأبدي ليضيء العالم المحطم، حيث أرقب لقاءك وأرجو زورتك كنت تذكرين دائماً رحلتنا الهنيئة وسفرتنا الرغدة، يوم نشأ غرامنا الخالد وبدأ حبنا المقيم، فكنا ننعم على ذوائب الصخور القديمة التي شهدت مجد الأولين حيناً، وحينا على ضفاف البحيرة الساكنة، نرقب أمواجها الهادئة، ونستمع إلى أصوات مياهها العذبة، فتحمل نفوسنا على جناح النعيم حيث نسلو العالم الصاخب.
كنت أخوض معك الظلماء التي أنتجها التفاف الأشجار. وأسير جنبك تحت الظلال الوارفة والأفياء المنتشرة، نهبط الربى لنصعد الجبال. لحظة سعيدة مرت أصغينا خلالها لموسيقى النجوم الغامضة، وأصخنا بسمعنا إلى غناء الكواكب الجميل، لا صخب يتخلله ولا ضوضاء تمسك ألحانه
كم دهشنا لهذه الصورة الجميلة التي تغطي العالم، عدنا أدراجنا إلى المعبد، خشعنا أمام الضوء الخافت الذي يرسل أشعة متضائلة تبعث إلى القلب الرهبة، والى الأجسام الرعشة. سكرى من جمال الوجود، كنت ترددين النظر بين الأرض والسماء ثم تهتفين:
(إله الغيب، هذه الطبيعة مأواك، عندما نتأمل بنظراتنا صنع يديك، الروح تراك متمثلا في كل صورة من إبداعك، فهذه الدنيا صورة كمالك: النهار نظرتك، والجمال ابتسامتك. في كل مكان القلب يعبدك، والنفس ترجو أن تدب فيها الأمل وتنفخ طياتها روح العمل
(أيها الخالد اللانهائي القدير الجليل! إن قلمي ليعجز عن وصف اسمك وكتابة حسناتك، والروح التي حبيتها بنفختك تمجد عظمتك حتى تخمد فيها الحركة، وتسكن بين جنباتها الخفقات
(أيها الإله القدير! إن الروح لتخضع لحكمتك العليا وأنشودتك المثلى. تريد أن تطفر نحو علاك، وتثبت إلى سمائك. إنها لتشعر أن الحب هو ختام حياتها، فهي تحترق لمعرفتك وتلتهب لمرآك
كذلك كنت تقولين وبهذه النفثات كنت تناجين. وقلبانا يجمعان التنهدات، يمزجان الأنات، يصعدان الزفرات، يرسلانها صوب هذا الكائن العظيم الذي يدل عليه هوانا، ويشهد لعظمته غرامنا، نخشع بصلاتنا أمامه، نحمل طيات قلوبنا محبته واحترامه، يرسل إليه الفجر تخشعاتنا وتضرعاتنا، ويرفع نحوه المساء تذللاتنا وابتهالاتنا، وعيوننا السكرى بجمال ما صنعت يداه، تتأمل بين الفينة والفينة الأرض حيث نفينا والسماء مسكنه.
أواه! في هذه اللحظة والروح على وشك الفرار تريد البعاد، تود تحطيم السجن. هو ذا الإله يطل علينا من عليا سمائه، يستجيب دعانا، ينظر إلى شكوانا نظرة عطف تنقذ كلينا.
إن روحينا تريدان أن ترجعا إلى حيث وجدتا النور. واستشفتا الضياء. تريدان أن تقطعا معاً خضم هذا العالم إلى النهاية المحتمة، يداً بيد، ووجهاً إزاء وجه. حتى تصلا على جناح الحب إلى النهاية. فهي تصعد كضوء النهار إلى أن تنتهي إلى حيث الإله الخالد، وترتمي تحت أقدامه متعانقة باكية.
هذه الأفكار: أتراها تغشنا وتخدعنا؟
أواه! أللعدم خلقت أرواحنا؟ أللفناء كانت حياتنا؟ أتشترك الروح في مصير الجسد إلى العدم، ويلتهمها جوف القبر الغامض كما تلتهم الضواري اللحم، ويضيع بين ترابها العظم؟ أتعود إلى التراب الذي منه نشأت، أم تطير في الأجواء ولا تستحيل إلى هباء؟ أم تراها تتبدد في الفضاء، كما تتبدد صرخات صوت قذفته عروس حسناء؟
بعد حسرة ضائعة، وزفرة راجعة، وتوديعة باكية، أترى يفنى المحب، ويطوي الدهر في صفحات كتابه غرامنا؟ أواه؟! إن هذا السر العظيم لا يعرف كنهه إلا أنت. ألا انظري موت من أحبك (الغير) أجيبي. ردي علي!
حسين تفكجي