مجلة الرسالة/العدد 188/حول رأيين في
→ وطني في عرس الحرية | مجلة الرسالة - العدد 188 حول رأيين في [[مؤلف:|]] |
دعابة الجاحظ ← |
بتاريخ: 08 - 02 - 1937 |
الوحدة الإسلامية
للأستاذ حسين مروة
لنكاد نلمس اليوم في مظاهر الحركة الإصلاحية القائمة في ديار الإسلام وأمة القرآن الكريم - اتجاها جديدا يغتبط به كل مسلم يستشعر في نفسه الأيمان الحق، ومظهرا مباركا يرتاح إليه كل موحد يحمل في صدره عاطفة الخير الصريح، وإننا - إلى اغتباطنا بهذا الاتجاه - لنزداد طمأنينة إليه إذ نتلمس بين عوامله وأسبابه عامل النضج الفكري وفهم الحقائق المستوحاة من ملابسات الحياة وروحية الدين الإسلامي الحنيف. وإننا لنذهب في طمأنينتنا واغتباطنا هذين مذهباً أبعد مدى، إذ نشهد بين العاملين على هذا الاتجاه طائفة رجال الدين التي يرى كثير من المشتغلين في هذا الحقل إنها السبب الأول في إخفاق الحركات الإصلاحية التي نشأت في الأعوام المتأخرة لتوحيد كلمة الأمة الإسلامية وجمع رأيها الشتيت ورتق ما فتق التاريخ من مجدها السني وعزها الرفيع.
وفي الحق أن طائفة رجال الدين هذه كانت في عصور التاريخ الإسلامي الأولى هي العنصر الصحيح الذي عمل للإسلام أكثر مما عملته العناصر الأخرى، إذ بينما كانت هذه العناصر تحمل المعاول لهدم صروح الوحدة الإسلامية الشامخة - كان علماء الدين يجلسون إلى القرآن والحديث الشريفين يستوحونهما حقائق الدين؛ ويستهدون بنورهما المبين إلى حل المشكلات وتوضيح الغامضات، يجتمعون على ذلك فيما بينهم وإن باعدت المذاهب بين صفوفهم، ويتواصلون تواصل الأرحام وإن حاولت أهواء السياسة أن تنثر جماعاتهم نثراً وأن تستغل بساطتهم البريئة استغلالا، وأن تستثير حفائظهم الدينية لتأييد اغراضها، فتراهم - على هذا كله ينصرفون عما حولهم من شؤون إلى دراسة، أو تدريس، أو تأليف، أو مناظرة علمية مهذبة الحواشي طاهرة المقاصد موطأة الأكناف بالسماحة الرحبة والتساهل العذب وأدب البحث النزيه. وإذا كنت ترى في مخلفات هذه الطائفة في عصورها تلك من المؤلفات والدراسات ما لا يدل على شيء من هذا الذي نقول - فإنما هو النادر الذي لا يصح القياس به، أو هو مما ألحت عليه السياسة بأسبابها ونوازعها الأثيمة. وهكذا كانت السياسة تلحف بالتنقص من أطراف الوحدة، وتلج في تبديد الشمل، وتجهد في تضييع الخلق العلمي السمح، واستئصال هذه البقية الكريمة من تراث العصر الأول للإسلام - حتى انثال رجال الدين إلى السياسة، وأنهال العلماء على الدنيا، وكان ما كان من هذه الطرائق المبعثرة، وهذه الأهواء المتدافعة، وهذه الدنيا الإسلامية المليئة بالأحداث الجسام والنوازل المروعة الفادحة
وعفا الله عن رجال الدين هؤلاء ومن خلف من بعدهم إلى يوم المسلمين هذا، فلقد سايروا أهل المطامع، وكانوا معهم إلبا على الدين من حيث لا يشعرون، وكانوا لهم عونا على الإثم من حيث هم غافلون، ونحن لا نشك في أن أصحاب الرأي القائل بأن علماء الدين قد عرقلوا سير الإصلاح في الإسلام - على شيء من الحق، وإن لم يكونوا على الحق جمعية فيما نرى، لأن تخلف هؤلاء عن قافلة رجال الإصلاح الذين قطعوا شوطاً في هذا المضمار - ليس هو السبب - كما يرون - في إخفاق الحركات الإصلاحية التي قامت في هذه الأمة إلى اليوم، لأننا لا نعتقد أن سلطة رجال (الاكليروس) الإسلامي تتناول هذا المدى من التأثير في سير الأمور العامة في دنيا المسلمين، ولعلنا لا نزيغ عن الحق إذا قلنا لأصحاب هذا الرأي إن السبب الأول في فشل المصلحين يرجع إلى عاملين أثنين: أحدهما - كاتبوا التاريخ الإسلامي أنفسهم الذين أمعنوا كثيراً - علم الله - في تملق السياسة ومجاراة أهواء النفوس من أي حزب كان هؤلاء ومن أي شيعة ولون، جعلوا تاريخنا مثارا للحزازات وموقظا للنعرات كلما شاء الزمان أي يبدلنا بشرنا خيراً، وبفرقتنا اجتماعا، وشر البلية في هؤلاء أننا مرغمون على قرائنه فما الحيلة إذن؟. ترى هل يعمد القائمون على فكرة الإصلاح إلى ما كتب المؤرخون عن عصور القلق الإسلامي فيقطعون ألسنتهم فيما يتحدثون به إلينا من فضول الأحاديث؟.
وأما العامل الثاني فليس في قراء (الرسالة) الكريمة - كما نعتقد - من يجهله، أو ليس هو (الغرب) الغازي. . . المظفر. . .، ويعلم القراء ما وراء هذا من شجون الحديث وشؤونه الرائعات.
هذان ما نعتقد أنهما السبب الأول في تمزيق شمل المسلمين. وإذا كان لرجال الدين من أثر بعد هذا، فذلك هو استسلامهم إلى هذين العاملين استسلاماً ساذجاً أخرق، ولا نقول عنه إلا ذلك. . .
ونعود الآن لنقول ثانية: إن هذا الاتجاه الحادث في دفة الحركة الإصلاحية، يزيد في اطمئنانا إليه أن بين عوامله وأسبابه فهم أولي الشأن من طوائف المسلمين حقائق الحياة المحدقة بهم وأسرار الروحية الإسلامية السمحاء، وأن في صف العاملين عليه طائفة رجال الدين، ورجال الدين هؤلاء المساهمون في هذا الاتجاه ليسوا من الأزهر الشريف وحده، وليسوا من النجف المقدس وحده، ولكن المعهدين الشقيقين كليهما يمدان الفكرة الجليلة المنشودة: (الوحدة الإسلامية) بروح منهما وبسبب من عندهما بليغي الأثر، كريمي العنصر، طيبي المنبت، وهاهي دار (الكنانة) العزيزة، زعيمة هذه الفكرة المثلى وحاملة المشعل المقدس اليوم قد شهدت منذ أيام عالما جليلا من علماء النجف يحاضر في دار جمعية الشبان المسلمين في موضوع (الوحدة الإسلامية) بروح من التسامح جليل البادرة، ويجتمع إلى عظماء البلد الإسلامي الكريم يحادثهما حول هذا الشأن فيلقي في رجال العرش المؤثل الرفيع كل العطف، ويشهد في أوساط الأزهر العظيم أبلغ المثل على نضج الفكرة، ويأنس من علية البلد وزعمائه الأبرار ومن حملة العلم والقلم ورجال الفكر فيه - ألمع الدلائل على قرب اليوم السعيد، إذ يصبح المسلمون إخواناً كأنهم البنيان المرصوص تظلهم جميعاً راية التوحيد العليا.
ولكننا - ونحن نعرض لهذا كله - نرى من واجبنا أن نقول كلمة في مرحلة ثانية للموضوع، وهي التي أردناها أول ما أردنا أن نكتب في هذا الباب، ذلك أن للموضوع مرحلتين: أولهما - حاجة الأمة الإسلامية إلى الوحدة الشاملة الكبرى، وهذه قد فرغ الباحثون من التدليل عليها، ووضعها في ميزانها الصحيح، وفرغ كذلك المصلحون منعقد الضمائر على الإيمان بها وجعلها مثلاً أسمى تستهدفه النفوس، وتستهون في سبيله الجهود. والمرحلة الثانية هي: قضية العوامل والأسباب القرب أثراً وأعظم فعلا في تحقيق هذه الأمنية الغالية والمثل الرفيع.
هذه المرحلة الثانية قال الكاتبون والمصلحون فيها ما شاؤا، ولقد طلع على العالم الإسلامي منذ أعوام بعيدة أو قريبة، رأي بهذا الشأن عرفه السوريون أكثر من غيرهم، إذ نشأ - أول ما نشأ - في ديارهم، ويقول أصحاب هذا الرأي إن الخلافات المذهبية - ولاسيما بين طائفتي السنة والشيعة - هي مصدر الفرقة، وهي مصدر البلاء والشقاء، وإذن فلنعمد إلى قلع هذا الوباء من أصله، ونجذه من جذوره، بأن نجمع المسلمين كافة على مذهب واحد يستخلص من مجموعة هذه المذاهب على ضوء القرآن والحديث، ولكن هذا الرأي لم يكد يظهر حتى اختفى دون أن يثير وراءه جدلا ولا بحثا، ودون أن يترك بعده صوتاً لنادب عليه أو شامت به؛ وهاهو ذا اليوم يظهر ثانية على لسان سماحة العلامة الزنجاني - ومن النجف كذلك -، فإذا هو يلقي هذه المرة في مصر وفي ديار الشام غير ما لقي أول مرة، وإذا هو موضوع بحث وعناية من العلماء ورجال الفكر وأولي الشأن الجليل في القطرين الشقيقين. وبينا نفكر في إدلاء دلونا بين الآراء في الموضوع وإذا (الرسالة) الرفيعة تطلع علينا فنستقبلها بالهمة الروحية التي نستقبلها بها في كل مرة، ونقف - أثناء سبرها - على مقال جليل للأستاذ الشيخ عبد المتعال الصعيدي في الموضوع نفسه وبعنوان: (الوحدة الإسلامية) وللأستاذ حرمة في النفس حملتنا على أن نجمع الفكر إلى مقاله، فإذا هو يقول فيه ما كنا نحاول أن نقول في الموضوع قبل ذلك، وها نتقدم إلى (الرسالة) الغراء بهذه الكلمة العاجلة تأييداً لرأي الأستاذ الصعيدي الذي تفرد به بين من عرضوا لهذا (المشروع) بشيء من القول:
في الحق - يا سيدي الأستاذ - أن محاولة توحيد المسلمين عن هذا الطريق الذي يقولون، لهي - شهد الله - عامل جديد على توسيع شقة الخلف بينهم، وتهديد هذا الكيان الحاضر - على هزاله - بالاضطراب فالاضمحلال.
ليس هذا أوان التلبيس والإبهام ونحن نبحث أمراً حيوياً له خطره وله عواقبه الجليلة ونتائجه المرموقة، فلنقل - إذن - بصراحة: إن خلاف الطائفتين في أصول العقائد حقيقي، وليس هو - كما قالوا - ظاهري قشري يستطاع (تصفيته) في اجتماع أو مؤتمر أو ما يشبه هذا. ولنقل كذلك - بمثل هذه الصراحة -: إن من العسير، بل من المتعذر، أن نحمل أية من هذه الطوائف على التزحزح عن مبدأ واحد من مبادئها أو أصل واحد من أصولها - قيد شعرة، بعد أن أصبحت هذه المبادئ والأصول عقيدة في العقائد. ولا نظن السادة أصحاب هذا الرأي يجهلون أن العقيدة جزء من كيان المرء لا ينفك عنه مادام كياناً ينسب إليه ويتميز به، ونظننا في غنى عن التبسيط بهذه الناحية، وفي مباحث العلوم النفسية والاجتماعية وفي منطق الواقع نفسه ما يغني عن التبسط والتدليل ولنفرض - جدلاً - أن اجتمع نخبة من علماء كل طائفة، وتجرد هؤلاء عن اعتبارات المذهب، وموحيات العقيدة، وبحثوا الأمر بحثاً علمياً صريحاً مستهدين بروح الإسلام الأعلى ومبدأ القرآن الأول، ثم أقروا جملة من المبادئ والأصول قد تكون مزيجاً من مذاهب شتى وقد تميل إلى مذهب دون مذهب - لنفرض هذا كله، ولنجعله بمكان من الاعتبار الصحيح، ولكن من يضمن لنا هذه الدهماء أن تتنازل عن عقائدها لقاء ما يقول لها العلماء، هكذا قضى البحث وقواعد العلم، وهكذا تشاء مصلحة الإسلام. أو أن تتقبل هذا المذهب (الجديد) بطمأنينة ورضا واقتناع، ومن يضمن لنا كذلك هذا التاريخ الأرعن أن يوقظ النعرات من جديد فنستهدف مشكلة جديدة ونضيف إلى هذه المجموعة (الضخمة) من المذاهب مذهباً جديداً، أو قل: عاملاً جديداً على صدع الصف وخلق الفوضى التي نحاول أن نبيدها من الوجود؟.
لا. لقد جاء الأستاذ الصعيدي - حفظه الله - بالحق إذ نحا غير هذا المنحى في سبيل الإصلاح وجمع الشمل. ولقد نحونا مثل هذا كذلك في مقالات نشرتها جريدة (الهاتف) النجفية ناشدنا فيها هيئة العلماء العليا في النجف أن يعتبروا هذه الخلافات في أصول العقائد بين المذاهب الإسلامية، كما يعتبرون هذه الخلافات في الفروع بين مجتهدي المذهب الواحد، وأن تمد مدرسة النجف يدها إلى شقيقتها الكبرى مدرسة الأزهر، وأن يتبادل المعهدان الكريمان البعوث العلمية ويوحدا مناهج التعليم فيها وأن يشتركا في الرأي كلما حدث في الإسلام حدث من إصلاح أو تثقيف، أو تأليف، أو تأسيس الخ.
هذه هي الخطة المثلى التي نرجو أن يعتبرها المصلحون من علماء الطائفتين قاعدة لأعمالهم في سبيل الوحدة الإسلامية المنشودة. وإننا لنرجو أن يكون لنا في هذا الاتجاه الإصلاحي الجديد - سبب أي سبب في تحقيق هذه الأمنية الحبيبة.
وأنا أرجو - في ختام كلمتي - أن أحقق أمنية تعتلج بالصدر في أن أشد الرحال في اليوم القريب إن شاء الله إلى الأزهر العظيم رجاء أن نشق الطريق إلى تواصل الأرحام بين المعهدين الشقيقين، وتحقيقا لمقترح الأستاذ الصعيدي الكريم، والله ولي الأمر.
حسين مروة