مجلة الرسالة/العدد 18/بلاط الشهداء بعد ألف ومائتي عام
→ أعلام الفلسفة الفرنسية | مجلة الرسالة - العدد 18 بلاط الشهداء بعد ألف ومائتي عام [[مؤلف:|]] |
في الأدب العربي ← |
بتاريخ: 01 - 10 - 1933 |
7 - بلاط الشهداء بعد ألف ومائتي عام
للأستاذ محمد عبد الله عنان
قال ابن عبد الحكم وهو من اقدم رواة الفتوح الإسلامية وأقرب من كتب عن فتوح الأندلس ما يأتي:
(وكان عبيدة (يريد والي أفريقية) قد ولى عبد الرحمن بن عبد الله العكي على الأندلس وكان رجلا صالحا فغزا عبد الرحمن إفرنجة وهم أقاصي عدو الأندلس فغنم غنائم كثيرة وظفر بهم. . ثم خرج إليهم غازيا فاستشهد وعامة أصحابه، وكان قتله فيما حدثنا يحيي عن الليث في سنة خمسة عشر ومائة). ولم يذكر الواقدي والبلاذري والطبري وهم أيضا من أقدم رواة الفتوح شيئاً عن الموقعة وقال ابن الأثير في حوادث سنة ثلاثة عشر ومائة مرددا لرواية ابن عبد الحكم (ثم إن عبيدة استعمل على الأندلس عبد الرحمن ابن عبد الله فغزا إفرنجة وتوغل في أرضهم وغنم غنائم كثيرة، ثم خرج غازيا ببلاد الفرنج في هذه السنة (اعني 113هـ) وقتل سنة أربع عشرة ومائة وهو الصحيح، فقتل هو ومن معه شهداء) وينسب ابن خلدون الموقعة خطأ لأبن الحبحاب والي مصر وأفريقية فيقول: (وقدم معه (أي بعد الهيثم) محمد بن عبد الله بن الحبحاب صاحب أفريقية فدخلها (أي الأندلس) سنة ثلاثة عشر وغزا إفرنجة وكانت لهم فيهم وقائع وأصيب عسكره في رمضان سنة أربع عشرة، فولي سنتين) ولدينا من الرواية الأندلسية ما قاله صاحب (أخبار مجموعة) عند ذكر ولاة الأندلس وهو (ثم (أي وليها) عبد الرحمن ابن عبد الله الغافقي وعلى يده استشهد أهل البلاط الشهداء، واستشهد معهم واليهم عبد الرحمن) ونقل الظبي في ترجمة عبد الرحمن ما ذكره ابن عبد الحكم عن الموقعة. وقال ابن عذارى المراكشي (ثم ولي الأندلس عبد الرحمن ابن عبد الله الغافقي فغزا الروم واستشهد مع جماعة من عسكره سنة 115 بموضع يعرف ببلاط الشهداء) وقال في موضع آخر، ثم ولي الأندلس عبد الرحمن هذا (أي الغافقي) ثانية وكان جلوسه لها في صفر سنة 112، فأقام واليا سنتين وسبعة اشهر وقيل وثمانية اشهر، واستشهد في أرض العدو في رمضان سنة 114. وقال المقري فيما نقل (ثم قدم عبد الرحمن ابن عبد الله الغافقي من قبل عبيد الله بن الحبحاب صاحب أفريقية فدخلها (أي الأندلس) سنة ثلاثة عشر وغزا الإفرنجة وكانت لهم فيهم وقائع وأصيب عسكر رمضان سنة أربع عشرة في موضع يعرف ببلاط الشهداء وبه عرفت الغزوة (ونقل في موضع آخر) وذكر انه قتل (والإشارة هنا خطأ إلى السمح ابن مالك) في الواقعة المشهورة عند أهل الأندلس بوقعة البلاط، وكانت جنود الإفرنجة قد تكاثرت عليه فأحاطت بالمسلمين فلم ينج من المسلمين أحد. قال ابن حيان، فيقال أن الآذان يسمع بذلك الموضع إلى الآن (ونقل عن ابن حيان) قال دخل الأندلس (أي عبد الرحمن) حين وليها الولاية الثانية من قبل ابن الحبحاب في صفر سنة ثلاث عشرة ومائة وغزا الإفرنج، فكانت له فيهم وقائع جمة إلى أن استشهد وأصيب عسكره في شهر رمضان سنة 114 في موضع يعرف ببلاط الشهداء، قال ابن بشكوال (وتعرف غزوته هذه بغزوة البلاط)
هذه الفقرات والإشارات الموجزة التي تكاد تتفق جميعها في اللفظ والمعنى هي ما ارتضت الرواية الإسلامية أن تقدمه إلينا في هذا المقام، وان كان في تحفظها ذاته ما ينم كما قدمنا عن تقديرها لرهبة الحادث وخطورته، وبعد آثاره. وإذا كان صمت الرواية الإسلامية تمليه فداحة الخطب الذي أصاب الإسلام في سهول تور فان الرواية النصرانية تفيض بالعكس في تفاصيل الموقعة إفاضة واضحة، وتشيد بظفر النصرانية ونجاتها من الخطر الإسلامي، وترفع بطولة كارل مارتل إلى السماكين. وتذهب الرواية النصرانية، ومعظم كتابها من الأحبار المعاصرين في تصوير نكبة المسلمين إلى حد الإغراق فتزعم أن القتلى من المسلمين في الموقعة بلغوا ثلاثمائة وخمس وسبعين ألفا في حين انه لم يقتل من الفرنج سوى الف وخمسمائة. ومنشأ هذه الرواية رسالة أرسلها الدوق أودو إلى البابا كريكوري الثاني يصف فيها حوادث الوقعة وينسب النصر لنفسه، فنقلتها التواريخ النصرانية المعاصرة واللاحقة كأنها حقيقة يستطيع العقل أن يسيغها. بيد أنها ليست سوى محض خرافة فإن الجيش الإسلامي كله لم يبلغ حين دخوله إلى فرنسا على أقصى تقدير اكثر من مائة الف والجيش الإسلامي لم يهزم في تور ولم يسحق بالمعنى الذي تفهم به الهزيمة الساحقة، ولكنه ارتد من تلقاء نفسه بعد أن لبث طوال المعركة الفاصلة يقاتل حتى المساء محتفظا بمراكزه أمام العدو ولم يرتد أثناء القتال ولم يهزم. ومن المستحيل أن يصل القتل الذريع في جيش يحافظ على ثباته ومواقعه إلى هذه النسبة الخيالية. ومن المعقول أن تكون خسائر المسلمين فادحة في مثل هذه المعارك الهائلة، وهذا ما تسلم به الرواية الإسلامية ولكن مثل هذه الخسائر لا يمكن أن تعدو بضع عشرات الألوف في جيش لم يزد على مائة الف. وأسطع دليل على ذلك هو حذر الفرنج وإحجامهم عن مطاردة العرب عقب الموقعة وتوجسهم أن يكون انسحاب العرب خديعة حربية، فلو أن الجيش الإسلامي انتهى إلى أنقاض ممزقة لبادر الفرنج بمطاردته والإجهاز عليه، ولكنه كان ما يزال من القوة والكثرة إلى حد يخيف العدو ويرده. على أن خسارة المسلمين كانت بالأخص فادحة في نوعها تتمثل في مقتل عبد الرحمن ونفر كبير من زعماء الجيش وقادته؛ بل كان مقتل عبد الرحمن أفدح ما في هذه الخسارة، فقد كان خير ولاة الأندلس وكان أعظم قائد عرفه الإسلام في الغرب، وكان الرجل الوحيد الذي استطاع بهمته وقوة خلاله أن يجمع كلمة الإسلام في إسبانيا فكان مقتله في هذا المأزق العصيب ضربة شديدة لمثل الإسلام ومشاريع الخلافة في افتتاح الغرب.
ويعلق النقد الحديث على هذا اللقاء الحاسم بين الإسلام والنصرانية أهمية كبرى، وينوه بخطورة آثاره وبعد مداها في تغيير مصاير النصرانية وأمم الغرب، ومن ثم تغيير تاريخ العالم كله. واليك طائفة مما يقوله أكابر مؤرخي الغرب ومفكريه في هذا المقام:
قال ادوار جيبون: (إن حوادث هذه الموقعة أنقذت آبائنا البريطانيين وجيراننا الغاليين (الفرنسيين) من نير القرآن المدني والديني، وحفظت جلال روما، وأخرت استعباد قسطنطينية، وشدت بأزر النصرانية، وأوقعت بأعدائها بذور التفرق والعطب).
ويعتبر المؤرخ آرنولد الموقعة (إحدى هاته المواقف الرهيبة لنجاة الإنسانية وضمان سعادتها مدى قرون).