مجلة الرسالة/العدد 18/أعلام الفلسفة الفرنسية
→ الحمى داء ودواء | مجلة الرسالة - العدد 18 أعلام الفلسفة الفرنسية [[مؤلف:|]] |
بلاط الشهداء بعد ألف ومائتي عام ← |
بتاريخ: 01 - 10 - 1933 |
تين
منذ سنوات خلت، نشرت الصحف خبر احتفال الفرنسيين في بهو السربون، بذكرى الفيلسوف الفرنسي الكبير (تين) وقد كان الاحتفال فخما للغاية، يناسب مكانة الفيلسوف العظيم؛ وقد رأسه المسيو إدوار هريو وزير المعارف والفنون الجميلة، وشرح بمحاضرته التي ألقاها منهج تين في النقد الأدبي، وفي العرض التاريخي. ويرى بعضهم أن مؤلفات تين خير ما أخرج التفكير الفرنسي في النصف الأخير من القرن التاسع عشر، ويرون انه أبرع نقاده في ذلك القرن! وقد كان تين فوق ذلك فنانا بارعا يعشق فن الموسيقى، وأما نظرياته الفلسفية فإنها تميل على الأغلب إلى الناحية المادية.
العبقرية الحق هي التي تعمل ولا تشبع، وتجد في الألم لذة، وفي الموت من أجل العمل حياة، ولا تحسب يوماً أنها وجدت ما تنشد وتصبو إليه! كان تين لا يكل ولا يتعب، بل كان يقوم في الليل ليستأنف عمله، وكان (اسكوت) الكاتب الإنجليزي الكبير مصنوعاً من العمل، كما كان يقول، وحسب (بتهوفن) انه لم يبرز ما يصبو إليه، ومات (فولتير) وهو معتقد انه لم يعمل عملا واحدا يرضي ذوقه!
العبقرية الحق، هي التي تخلق وتنشئ وتنظر دائما إلى الممكن وإلى المستقبل، هي باذرة بذور الخير والحب والطيبة والجمال في الوجود، والطامحة دائما إلى الأحسن، والآخذة بالناس من الظلمات إلى النور، ومن العبودية إلى الحرية، ويخلد العبقري بقدر ما تترك رسالته من أثر على وجه البسيطة؛ فكلما كانت رسالة العبقري إنسانية كان الإعجاب بها شديداً والثناء عليها قويا.
ولد هيبوليت أدولف تين في 21 أبريل سنة 1828 بفوزييه بمقاطعة الوارون في فرنسا، وكان أبوه من أسرة قليلة المال قصيرة الباع. وكان لأبيه (جان باتيست تين) اتصال بالقضاء، لذلك استطاع تين أن يتلقى عليه النظم والقوانين إلى جانب دراساته بمدرسة (مسيو بيرس) الصغيرة. حتى بلغ الحادية عشرة من عمره، وقد مرض أبوه فأرسله في سنة 1839 إلى مدرسة دينية في (رتل) أقام بها ثمانية عشر شهراً، وبعد وفاة أبيه سافر إلى باريس فالتحق بمعهد (ماتيه) وكان طلاب هذا المعهد يدرسون بكلية بوربون وفيه ظهرت بوادر كفايته النادرة. لقد امتاز تين لأول دخوله المدرسة بمقدرة على العمل مدهشة، وبجلد متين لا يقل إثارة للدهشة، وكان كثير التحصيل، كثير التعليق على ما يحصل، كثير التفكير فيه، مما جعل له على أصدقائه جميعاً نفوذاً معترفاً به، اعترافهم بفضله ومقدرته على الكتابة نظماً ونثراً في اللغتين الفرنسية واللاتينية. وبعد انتهاء دراسته الثانوية انتقل إلى مدرسة المعلمين ' وفيها قرأ افلاطون، وارسطو، ودرس الإنجليزية فبرع فيها وأتقن آدابها. وقد لاحظ عليه أساتذته مبالغته في الحرص على السلوك بالمنطق مسلكا رياضياً والوصول به دائما إلى قاعدة ثابتة على نحو ما يصل الرياضيون في مسائل الحساب والهندسة والجبر. وقد تنبأ له أساتذته بمستقبل باهر، وقالوا سيكون تين أستاذاً ممتازاً، بل سيكون أكثر من ذلك، وسيكون عالما من الطراز الأول، وسيكون شعاره شعار سبينوزا (يعيش ليفكر).
ومع ما عليه تين من رقة في الخلق عظيمة، ومن طباع غاية في الطيبة، كان لذهنه قوة جبارة لا تلين لا يستطيع ان يكون لأحد على تفكيره أي تأثير. وجماع ما يقال عن (تين) انه ذهنية جبارة منقطعة النظير!
كان تين أقوى أثراً في نشر الفلسفة الواقعية من صاحبها اغست كونت نفسه، وبرغم تثبيته قواعد هذه الفلسفة الوضعية في ذهن أهل عصره والعصور التي خلقته، قد فتح لها ميادين جديدة في الفن وفي الأدب وفي الشعر، وفي صور نشاط العقل الانساني، وفي النفس الإنسانية، مما جعل للعلم الوضعي وللفلسفة الوضعية من متانة الأركان ما لا يزال حتى اليوم وطيدا قويا غاية القوة، برغم موجات الروحية (والتيوزوفية) وغيرها مما سبق الحرب وشجعته الحرب ومما لا يستطيع أن يقاوم (حتى في الميادين الفلسفية البحتة) تيار العلم الجارف، الذي يدل الناس كل يوم على أن العلم إذا اخطأ في تقرير نتائج معينة، فهو وحده قمين بإصلاح هذا الخطأ من طريق الاستقراء والملاحظة والتجارب، وما يترتب على هذه من تبويب ينتهي إلى استنباط القوانين العلمية الصحيحة التي يمكن أن تكون أساسا لارتكاز الفلسفة الواقعية الصحيحة، فهذا الرجل الذي حاول، ونجح في محاولته، هدم الفلسفة الكلامية التي كان الأستاذ فيكتور كوزون عميدها في عصره، والذي حاول ونجح في أن يقر إلى جانب التفكير الواقعي المذهب الجبري وأن يطلق هذا المذهب على النمسان ويخضعه له، بمقدار ما تخضع له الأفلاك والموجودات كلها، هذا الرجل كان صاحب أسلوب في الكتابة له من البهر ما يسحرك كما لو كنت تستمع إلى ألحان أركسترا بيتهوفن! ولعل أبرع ما كتبه تين في الناحية الأدبية، هو ما كتبه في الوصف والسياحة، ولقد بلغت براعة الوصف فيهما مبلغا قل أن يجاريه فيه كاتب.
وليس فضل تين مقصوراً على فلسفته وأدبه فحسب! فهو إلى جانب ذلك مؤرخ من أكبر المؤرخين لم يقتصر على كتابة تاريخ بلاده، بل تناول عصر ما قبل الثورة، وتناول عصر الثورة والعصور التي بعدها، وتناول بحوثا أخرى في التاريخ القديم وفي التاريخ الحديث، تناولها بدقة في العبارة، ودقة في البحث، وقوة في الأسلوب، جعلت له كل هذه المكانة التي تسنم ذروتها في عصره، وكل هذا المجد الذي يشهد له به اليوم حتى ألد خصوم نظرياته. ورسائله في التاريخ وفي النقد جعلته منه نقادة معترفاً بنبوغه وبفضله، وقد أقامت له مذهبا في النقد يتسق ومذهبه في الأدب، وفي التاريخ، وفي الفلسفة، وفي كل ما تناوله من مباحث؛ والذي يقرأ كتابه (الفلاسفة الإنشائيون في القرن التاسع عشر) وكتبه (رسائل في النقد وفي التاريخ) يرى اتجاه مجهوده العقلي في السنوات الخصبة من حياته، ويرى المجهود الهائل الذي تناول به بحث اليونانيين القدماء وكتاب فرنسا وفلاسفتها وكتاب إنجلترا ومفكريها، تناول ذلك في دقة وإحاطة قل نظيرهما. يعرض أمامك فكرة كل كاتب وفلسفته وأسلوبه ويحلل ذلك ويرده للبيئة وللجنس اللذين نشأ الكاتب فيهما، ويدلك على ما يراه النقاد ويراه هو في الكاتب وفكرته من قوة ومن ضعف، ومن كمال ومن نقص. ومن دقة في بلوغ الغاية التي قصد إليه الكاتب، أو اضطراب في نهج السبيل إلى تلك الغاية، وهذه طريقته التي سار عليها في النقد، وهي الطريقة العلمية الصريحة التي لا تعرف الميل ولا المواربة، ولا تعرف مذاهب الشك والتردد، والتي تقفك من كل كاتب ومن كل موضوع على خلاصة الموضوع وعلى صورة واضحة من الكاتب على نحو ما رآه تين؛ أول أستاذ (لتين) أثر في تفكيره أعمق الآثار وهو (كوندياك)، وتين لا يفهم كيف ينسى في فرنسا منهج كوندياك الذي هو (أحد المثل العليا للذهن البشري) ويستبدل بفتات الاقتباس والمزج، ثم هو يأخذ على كوزين وتلاميذه قبل كل شيء انحلال المنطق، لأنهم يرون انهم فلاسفة، ولكنه يرى انهم خطباء يعنون بالأثر الذي يحدثونه اكثر مما يعنون بالحقائق التي يبحثونها! ثم يقول: انه تجب العودة إلى كوندياك وهو ذهن لا نظير له في الاستنارة والدقة، وقد وهب كل المسائل العظيمة أجوبة ثارت عليها التقاليد الكلامية المبعوثة، ونظريات ما وراء الطبيعة الألمانية في فرنسا في بدء القرن التاسع عشر! بيد أنها سوف تعود بالرغم من كل هذا، ويعود (تين) بدوره قدوة في استئنافها والتمسك بها.
وكما أن تين كان تلميذاً لكوندياك كان كذلك تلميذاً لأسبينوزا وهيجل فقد شعر مثل (جيته) بسمو الفكرة الاسبينوزية، ورأى أن مفكراً لا يستحق أن يسمى بالفيلسوف ما لم تطبع نظريته الخاصة بطابعها. واسبينوزا هو الذي أوحى إليه باعتبار الوجهين: الوجه الطبيعي، والوجه الخلقي، صورتين لحقيقة جوهرية واحدة، وقال تين عن هيجل متحمساً: (ليس بين جميع الفلاسفة من سما إلى ما سما إليه (هيجل) أو من تدنو عبقريته من ذلك الصرح الشامخ! فهو مزيج من اسبينوزا وارسطو). وقد اتسع مدى عمل (تين) الفلسفي والتاريخي بالاستناد إليه.
يقول (تين) عن الفلسفة الإنجليزية أنها قد انتهت إلى اعتبار الطبيعة اجتماعا للوقائع، أما الفلسفة الألمانية فترى فيها مجموعة من القوانين، فإذا كان ثمة مكان بين الأمتين فهو مكاننا نحن معشر الفرنسيين! لقد وسعنا الآراء الإنجليزية في القرن الثامن عشر، واستطعنا في القرن التاسع عشر أن نضبط الآراء الألمانية، ومهمتنا الآن هي تهذيب الذهنين أحدهما بالآخر ومزجهما في ذهن واحد، وأن نصوغهما في أسلوب يتذوقه العالم كله، وان نخرج منهما بذلك الذهن العام.
ولقد عين تين مدرساً في وزارة المعارف بمدرسة (نفير) في أول سنة 1851 الدراسية، لكنه لم يمكث في هذه المدرسة إلا شهوراً نقل بعدها إلى مدرسة دونها في الدرجة، وذلك لأغراض سياسية. ومن ثم نقل إلى (ابوانيه)، ومنها نقل مساعد مدرس إلى بزانسون في سبتمبر 1852. وعلى رغم تنقلاته الكثيرة، قد وضع رسالة عن المشاعر ورسالة لاتينية تقدم بها إلى السوربون لنيل جائزة الفلسفة، ولما كانت هذه الجائزة قد ألغيت فقد أراد تين أن ينال جائزة الأدب العليا - ولكن رسالته لم تقبل، فوضع رسالة عن لافونتين فنال بها دكتوراه الآداب في 30 مايو سنة 1853، وعل أثر حصوله على الدكتوراه اقترحت الأكاديمية الفرنسية موضوعاً لجائزة تمنح في سنة 1855 على احسن رسالة تكتب عن (تيت ليف) الكاتب والمؤرخ الروماني الكبير، فعرض لها (تين) وكتبها ثم تقدم بها فكانت الأولى بين كل الرسائل التي قدمت!
وكان تين قد رشح نفسه سنة 1862 لتدريس الأدب في مدرسة الهندسة ولكن مسيو دي لموني انتخب بدلا عنه، على أن وزير الحربية عينه في مارس من السنة التالية ممتحنا في التاريخ وفي اللغة الألمانية بمدرسة سان سير - الحربية. وفي سنة 1864 عين مدرسا لتاريخ الفن والجمال في كلية الفنون الجميلة؛ فكان تعاقبه في وظائف الدولة سببا في إثارة الخوف في نفس رجال الدين، مما دفع المونسينير دوبانلوا إلى كتابة منشور وجهه إلى الشبيبة وإلى الآباء يطعن فيه على تين ورنان ولتريه وندد فيه بنزعاتهم الإلحادية مما كاد يزعزع مركز تين لولا تدخل البرنسيس ماتيلدا وبسط حمايتها عليه. وفي سنة 1864 قدم بعض كتبه إلى الأكاديمية ليحصل على جائزة بوردان. فانبرى له مونسينير دوبانلوا من جديد، واشترك معه آخرون ليحولوا بينه وبين الجائزة. على أن المسيو جيزودافع عن تين بكل إخلاص واستمرت المناقشة أمام الأكاديمية فيمن يستحق الجائزة ثلاثة أيام متوالية، استقر الرأي بعدها على أن الجائزة لا تمنح لأحد ما دامت لا تمنح لتين!. . . على أن هذه الخصومات المتتابعة وهذا التجني على ذلك الكاتب الفيلسوف لم يحل دون حصوله على وسام اللجيون دونور في سنة 1866 وعل شهادة من جامعة اكسفورد بعد محاضرات ألقاها بها عن راسين وكورني في سنة 1871. وتزوج تين في سنة 1868 فلم يغير زواجه شيئا من حياة الجد والعمل التي كان يحياها، على انه منذ سنة 1870 على أثر الحرب الفرنسية الألمانية قد حز في نفسه ألم هزيمة بلاده فأجهد نفسه في أن يقف على أسباب ضعفها، وكان هذا هو الدافع الذي دفعه إلى وضع كتابه الأكبر (أصول فرنسا الحديثة) الذي عمل فيه منذ سنة 1870 والذي اضطر من اجله أن يتخلى عن مهنة التدريس منذ سنة 1884 لينقطع له انقطاعا تاماً. وقد توفي في الخامس من شهر مارس سنة 1893 وهو في الخامسة والستين من عمره.
وقد ألقى الأستاذ ليفي بريل المحاضر بالسوربون خطابا في شرح نظريات تين الفلسفية بمناسبة الاحتفال المئوي لميلاد (تين) نترك الأستاذ نفسه يحدثنا عنه إذ يقول: لنذكر اليوم ألقاب مجده ومناحي نبوغه! ولئن كان علم النفس وعلم الاجتماع قد وصلا بفروعهما المختلفة في فرنسا إلى ما وصلا إليه من التقدم فان تين هو أحد الذين يرجع إليهم الفضل في ذلك، وقد كان من الممكن أن يترك عمله، ولكن الروح الذي بعثه ما زال يضطرم إلى اليوم، وكان الطريق الذي سنه هو طريق الإرشاد، وأن فضله ليبدو أشد بهاء، إذا ذكرنا الوسط الفلسفي الذي تخرج منه، ولكن تين غلبت عليه روح الفلسفة الحق فاعتزل أولئك المبشرين بأفقر ضروب التحكم، وبحث عن الحقيقة دون أن يعني بادئ بدء بما إذا كانت ستتفق وهذه العقيدة أو تلك، أو هذا الحزب أو ذاك. وبذا وصل تين بين التقاليد الفلسفية للقرن الثامن عشر، وهي التقاليد التي اعتقد الجيل الذي قبله أنها قطعت نهائيا. وهكذا كان مستحقاً لإعجاب كل مفكر حر في عصرنا، فلنحمده لأنه جاهد من أجل مثل أعلى للعالم والفلسفة النزيهة. ولعل هذا خير مديح كانت تتأثر به عزته. ولقد أبى أعز أصدقائه (أميل بوتمي) الذي ساعده على تأسيس المدرسة الحرة للعلوم السياسية والذي كان أمينا لأعمق اسراره، ان يكتب على قبره سوى هذه العبارة البسيطة: (أحب الحقيقة قبل كل شيء).
حلب. صبحي العجيلي