مجلة الرسالة/العدد 174/تاريخ العرب الأدبي
→ الفصل في نبوة المتنبي من شعره | مجلة الرسالة - العدد 174 تاريخ العرب الأدبي [[مؤلف:|]] |
مشرقيات ← |
بتاريخ: 02 - 11 - 1936 |
للأستاذ رينولد نيكلسون المستشرق الإنجليزي
المدخل لتاريخ العرب
- 2 -
وإذا وجدنا أن اللغة لا تجري فحسب على ألسنة الشعراء الجوالين (الذي كانوا عادة على جانب من الثقافة) أو عرب الحيرة المسيحيين، بل تتداولها ألسن الرعاة واللصوص والبدو الغلاظ في كل البقاع، إذا وجدنا هذا فليس ثمت داع للشك في أننا نسمع من خلال شعر القرن السادس اللغة العربية التي كانت مستعملة في طول بلاد العرب وعرضها. وقد زاد انتصار محمد والفتوح الإسلامية في عهد الخلفاء الراشدين من شأن هذه اللغة وأصبحت العربية لساناً مقدساً في جميع الأمصار الإسلامية. ولا مراء أن الفضل في هذا يرجع إلى القرآن، ولكن من ناحية أخرى أمر اعتبار لهجة مكة (التي نزل بها القران) الأصل للعربية، وتسمية العربية (لغة قريش) كافٍ لدحض كل حقيقة حول هذا الموضوع. وقد اتخذ محمد (ص) - كما لاحظ نلدكه - الشعر القديم مثالاً. وفي صدر الإسلام كانت سلطة الشعراء الجاهليين (وقليل منهم كان من قريش) هي التي ثبتت قدم اللغة الفصحى وعممت استعمال الأسلوب الفصيح. وطبيعي أنن يكون المسلمون - وهم الذي عدوا القران كلمة الله والمعجزة البالغة في أسلوبها - قد قدموا لهجة قبيلة النبي على كل لهجة أخرى، كما أنكروا القول بأن كل قبيلة أبعد من مكة أقل فصاحة، ولكن هذه النظرة لا تلقى قبولاً لدى الباحث المحايد. ولو أنه كان للقران تأثير عظيم في تاريخ اللغة العربية وآدابها، وسنرى في فصل خاص أن ضرورة حفظ أصل الكتاب الكريم سليماً، وشرح غوامضه بعثت المسلمين على استنباط علم النحو واللغة، ودعت إلى جمع شعر الجاهلية والأخبار التي لابد قد تطرق إليها الضياع. ولما استقر العرب - كفاتحين - في سورية وفارس واختلطوا بالشعوب الغريبة عنهم، لم تلبث لغتهم محافظة على فصاحتها الأولى، أما في بلاد العرب نفسها وخاصة بين بدو الصحراء فلم يكن الفارق محسوساً، وكذلك في البلدان المجاورة ومراكز التجارة الكبرى كالبصرة والكوفة حيث كان معظم السكان من الأجانب الذين اعتنقو الإسلام وسرعان ما استعربوا؛ وظل الباب مفتوحاً على مصراعيه لجميع ضروب الفساد. وقد أعلن علماء اللغة حرباً ضروساً على هذه العربية التي شابتها العجمة، وإن الفضل في انتصار العربية الفصحى وتغلبها على الأخطار الجسام التي هددتها ليرجع إلى ما بذله هؤلاء من جهود، وبالرغم من أن لغة البدو الوثنيين لم تبق كما هي - أو ظلت على أي حال حية على ألسنة المتحذلقين والشعراء فحسب - إلا أنها أصبحت بعد تحوير قليل الوسيط العالمي للحديث بين الطبقات العليا في المجتمع الإسلامي، وفي مستهل العصور الوسطى كانت لغة الحديث والكتابة لجميع مثقفي المسلمين من أي جنسية كانوا: من بلاد الهند حتى المحيط الأطلسي، فكانت لغة البلاط والدين، ولغة الشرع والتجارة، ولغة السياسة والأدب والعلم، وفي القرن العاشر حينما ثل الغزو المغولي عرش الخلافة العباسية وانفرط عقد الوحدة الإسلامية السياسية لم تعد العربية أو اللغة العامة للعالم المحمدي، بل حلت مكانها لهجة سوقية في بلاد العرب وسورية ومصر وبعض الأقطار الناطقة بالضاد، ولو أنها ظلت في هذه الأمصار لغة الأعمال والأدب والتعليم. ونسمع اليوم من مصدر ثقة (أنها آخذة في النهوض، وأنها على وشك أن تسترد ثانية مكانتها الأدبية العظمى) وهي إذا كانت تشغل - بالنسبة إلى هؤلاء المسلمين من غير العرب - نفس المكانة التي تشغلها اللاتينية والإغريقية في الثقافة الأوربية الحديثة، فينبغي ألا يغرب عن ذهننا أن القرآن (وهو أروع آثارها) يحفظه كل مسلم لأول ذهابه إلى المدرسة، وهو يتلوه في صلواته اليومية، ويسيطر على مجرى حياته كلها إلى درجة يكاد لا يصدقها المسيحي العادي.
وآمل أن يغفر لي القارئ تجاهلي - في كتاب كهذا - ما يتعلق بالتاريخ العربي القديم الذي يمكن الإلمام به من الآثار الآشورية والبابلية، كما أن أي كتابة يحاول من ورائها دراسة العرب من سنة 2500 ق. م. حتى بداية العصر المسيحي لأشبه بخريطة رسمتها يد سير جون ماندفيل؛ بيد أن شعباً (غير سبأ أو حمير) من بين شعوب الجزيرة استطاع أن يترك أثراً أبقى من غيره، ذلك هو شعب النبط الذين سكنوا المدن واحترفوا التجارة قبل ميلاد المسيح بزمن طويل، وأسسوا مملكة (بترا) التي كانت رخية متقدمة في الزراعة حتى كان عام 105م. حين ضربها ودمرها تراجان، وكان هؤلاء الأنباط يتكلمون العربية بالرغم من أنه قد ورد خطأ في أحد نقوشهم أنهم كانوا يستعملون الآرامية في الكتابة؛ ويخلط المؤلفون المسلمون بينهم وبين الآراميين إلا أن الدراسة العميقة لنقوشهم أثبتت خطأ هذه الفكرة التي أقرها كاترمير، وإن كتاب (الفلاحة النبطية) الذي ألفه عام 904م للكاتب المسلم ابن وحشية الذي اعترف بأنه ترجمه من الكلدانية، فقد ظهر الآن أنه مختلق، وما أشرت إليه في هذا المجال إلا كمثال للوسيلة التي يستعمل فيها المسلمون لفظ (نبطي)، لأن العنوان المشار إليه حالاً لا يرجع بالطبع إلى بترا ولكن إلى بابل
من كل ما قيل يستطيع القارئ أن يلاحظ أن تاريخ العرب - وجل معلوماتنا عنه مقتبسة من مصادر عربية - يمكن تقسيمه إلى ثلاثة عصور
(1) العصر السبأي والحميري من 800ق. م. وهو تاريخ أقدم نقوش العربية الجنوبية حتى سنة 500م.
(2) العصر السابق للإسلام (أي من 500م - 622م)
(3) العصر الإسلامي ويبدأ من هجرة الرسول من مكة إلى المدينة أي من سنة 622 حتى الوقت الحاضر
أما عن العصر الأول الذي يتعلق بتاريخ اليمن أو بلاد العرب الجنوبية فليس لدينا مراجع عربية معاصرة له سوى النقوش؛ كما أن المورد القيم الذي تمدنا به هذه النقوش على نقصه هو الأحاديث الواردة في قصائد الجاهلية والقران وخاصة في الدب المحمدي المتأخر؛ ولا مراء في أن معظم هذه الأخبار أساطير، ومن الأجدر أن يتجاهلها الباحث المشتغل بالبحث التاريخي، ولكني سأخصص جزءاً وافياً لدراستها، خاصة وأن غرضي الأول هو التعريف بمعتقدات العرب أنفسهم وآرائهم.
أما العصر الثاني فيسميه المسلمون عصر الجاهلية أو عهد البربرية وتنطبع مميزات هذه الفترة في دقة وأمانة فيما وصلنا من أغاني وقصائد الشعراء الوثنيين، إذ لم يكن هناك إبان هذا الوقت أدب نثري فكان من مهمة الشاعر التغني بتاريخ قومه والافتخار بنسبهم، وتمجيد استعمالهم للسلاح، وتبجيل فضائلهم، ورغماً من أن مقداراً عظيماً من شعر الجاهلية قد فقد إلى الأبد، إلا أنه لا تزال لدينا بقية كبيرة (بإضافتها إلى ما وضعه علماء اللغة والآثار المسلمون من قصص تترى) تساعدنا على تصوير حياة هذه الأيام الغابرة تصويراً دقيقاً.
أما أهم العصور الثلاثة وآخرها فهو تاريخ العرب تحت ظل الإسلام، وينقسم طبيعياً الأقسام التالية التي ألممت بها في هذا المكان حتى إذا ألقى القارئ عليها نظرة تبين من خلالها مجمل المظاهر السياسية المتعددة لهذا العهد المضطرب الدقيق الذي يقوم تجاهه؛ وهذه الأقسام هي:
أ - حياة محمد
حوالي مستهل القرن السابع المسيحي ظهر في مكة رجل من قريش هو محمد بن عبد الله بكتاب سماوي هو القرآن، دعا قومه لنبذ الأوثان ولعبادة (الله الواحد)، وقد ظل مثابراً عدة أعوام على الدعوة لدين الإسلام في مكة على رغم ما لاقاه من سخرية القوم منه واضطهادهم إياه، ولما وجد أن تقدم دعوته ضئيل هاجر عام 622م إلى بلدة مجاورة تلك هي المدينة، ومنذ ذلك التاريخ كان النصر المؤزر حليفه، وفي خلال السنوات العشر التالية دانت بلاد العرب جميعها لديانته، ودعت بلسانها للإيمان الجديد
ب - خلافة الراشدين (632 - 661)
بعد أن قبض الرسول (ص) تعاور حكم المسلمين بالتتابع أربعة من أعظم صحابته، هم أبو بكر وعمر وعثمان وعلي، وسمي كل منهم خليفة، ويعرفون عادة بالخلفاء الراشدين، وفي ظلهم وبإرشادهم ثبتت دعائم الإسلام في شبه الجزيرة وخفق لواؤه بعيداً وراء الحدود، أما أعداؤه من البدو فقد استقروا كمستعمرين حربيين في السهول الخصبة من سورية وفارس، وسرعان ما وقعت الإمبراطورية الحديثة النشأة في حرب أهلية، وكان مقتل عثمان إيذاناً باشتعال النضال بين طلاب الخلافة المتنافسين، وتمسك علي - صهر الرسول - بلقبه، ولكن حاكم سورية القوي معاوية بن أبي سفيان أنكر خلافته ونافسه
ج - الدولة الأموية (661 - 750)
لما سقط علي صريعاً بضربة خنجر اعتلى معاوية عرش الخلافة الذي ظل وفقاً على أسرته تسعين عاماً، وكان الفارق الوحيد في الأمويين أنهم كانوا عرباً قبل أن يكونوا مسلمين، وكان أثر الدين فيهم ضئيلاً، ولكن ظهر منهم بعض حكام أكفاء مهرة، جديرين بأن يكونوا قادة جنس آمرٍ. وقد بلغت الفتوح الإسلامية أقصى اتساعها عام 732م، وكان للخليفة القائم في دمشق قواده فيما وراء أكسوس والبرانس وعلى شواطئ بحر قزوين ووادي النيل؛ وفي غضون ذلك كان بأس الدولة آخذاً في التدهور والانحطاط من جراء المنازعات السياسية والدينية القائمة فيها؛ أما الشيعة الذين تمسكوا بحصر الخلافة في علي وأبنائه بأمر مقدس، فقد ثاروا مراراً عدة، وانضم إليهم المسلمون الفرس الذين كانوا يمقتون العرب والحكومة الأموية الظالمة، كما كان العباسيون - وهم ذوو وشيجة قربى قوية بالرسول - قادة الاضطراب الذي انتهى بخلع البيت الحاكم نهائياً واستئصال شأفته.
د - الدولة العباسية (750 - 1258)
كان العرب حتى ذلك الوقت أصحاب السلطان في المجتمع الإسلامي، وقد شمخوا بأنفهم تيهاً على المسلمين من غير العرب وازدروهم، ولكن انعكست الآية بعد ذلك، إذ نجد أنفسنا قد انتقلنا من عصر العصبية العربية إلى عصر النفوذ الفارسي والثقافة الجامعة، وكان صفوة القوات العباسية من فرس خراسان، وشاد العباسيون (بغداد) عاصمتهم الزهراء على أرض فارسية، ونال أشراف الفرس أسمى مناصب الدولة أرفعها في بلاط بني العباس، وإن لم تكن الدولة الجديدة دينية، إلا أنها كانت على الأقل حدية على الدين مجتهدة في أن تحيط نفسها بمظاهر الورع، ونسي العرب والفرس حيناً ما بينهم من خلاف وفروق، وتعاونوا جميعاً كما ينبغي على المسلمين الأتقياء، ولقي التعليم تشجيعاً عظيماً، وكان هذا العصر العصر الذهبي للإسلام، وقد بلغ أوجه أيام هرون الرشيد الزاهرة (786 - 809). ولما مات تداعت عمد السلام مرة ثانية، وابتدأ نجم الإمبراطورية القوية البأس في المغيب، وأخذت المقاطعات تنسلخ واحدة بعد أخرى عن الخلافة، وتقتطع نفسها منها، ومن ثم ظهرت دول مستلقة كثيرة، بينما صار الخلفاء دمى في أيدي الجند الأتراك، وظلت معظم الأقطار الإسلامية معترفة بسيادتها اسمياً، ولكن منذ أواسط القرن التاسع لم يعد لهم إلا القليل منها، أو لم يعد لهم شان مطلقاً.
(يتبع)
ترجمة محمد حسن حبشي