مجلة الرسالة/العدد 174/الفصل في نبوة المتنبي من شعره
→ كلمة أخيرة | مجلة الرسالة - العدد 174 الفصل في نبوة المتنبي من شعره [[مؤلف:|]] |
تاريخ العرب الأدبي ← |
بتاريخ: 02 - 11 - 1936 |
للأستاذ عبد المتعال الصعيدي
- 1 -
يعتمد الباحثون في نبوة المتنبي على تلك الأخبار المتناقضة في أمر نبوته، فيذهبون فيها مذهبين متناقضين: فريق يجزم بوقوع هذه الدعوى منه، وفريق يجزم بأنها من اختراع أعدائه؛ وكل فريق يتعصب للأخبار التي تؤيد مذهبه، ويجزم بصحتها كل الجزم، ويطعن في صحة الأخبار التي لا توافق مذهبه، وتؤيد مذهب الفريق الآخر، وقد ضاع الحق في ذلك بين التعصب للمتنبي والتعصب عليه، ولم تنهض فيه حجة واضحة تقطع بالحق من ذينك المذهبين، وتقضي على هذا الخلاف الذي لم ينته إلى الآن.
ولا خلاف بين الفريقين في إطلاق لقب المتنبي على أبي الطيب، وإنما الخلاف في أنه أطلق عليه لادعائه النبوة في حداثته، أو لقوله:
أنا تِرب الندى وربّ القوافي ... وسِمام العدى وغيظ الحسُود
أنا في أمةٍ تداركها الل ... هـ غريب كصالح في ثمود
ما مُقامي بأرض نخْلة إلا ... كمقام المسيح بين اليهود
هذا هو ما حكاه أبو الفتح عثمان بن جني عن أبي الطيب نفسه؛ وأما الأول فحكاه أبو عبد الله معاذ بن إسماعيل اللاذقي قال: قدم أبو الطيب المتنبي اللاذقية في سنة نيف وعشرين وثلثمائة وهو لا عذار به، وله وفرة إلى شحمتي أذنيه فأكرمته وعظمته لما رأيت من فصاحته وحسن سمته، فلما تمكن الأنس بيني وبينه وخلوت معه في المنزل اغتناماً لمشاهدته، واقتباساً من أدبه، قلت: والله إنك لشاب خطير تصلح لمنادمة ملك كبير، فقال: ويحك أتدري ما تقول؟ أنا نبي مرسل، فظننت أنه يهزل، ثم تذكرت أني لم أسمع منه كلمة هزل قط منذ عرفته فقلت له ما تقول؟ فقال أنا نبي مرسل، فقلت له: إلى من مرسل؟ فقال إلى هذه الأمة الضالة المضلة. قلت تفعل ماذا؟ قال: أملأ الدنيا عدلاً كما ملئت جوراً. قلت بماذا؟ قال: بإدرار الأرزاق، والثواب العاجل لمن أطاع وأتى، وضرب الرقاب لمن عصى وأبى. فقلت له: إن هذا أمر عظيم أخاف عليك منه، وعذلته على ذلك، فقال بديهة:
أبا عبد الإله مُعَاذ إني ... خفيٌّ عنك في الهيجا مق ذكرتَ جسيم مطَّلبي وأني ... أخاطر فيه بالمُهج الجسام
أمثلي تأخذ النكباتُ منه ... ويجزع من ملاقاة الحمام
ولو برز الزمان إلي شخصاً ... لخضَّب شعر مفرقه حُسام
وما بلغت مشيئتها الليالي ... ولا سارتْ وفي يدها زمامي
إذا امتلأت عيون الخيل من ... فويل في التيقظ والمنام
ثم ذكر بعد هذا أنه لم يزل معه حتى قال له: أبسط يدك اشهد أنك رسول الله، قال: فبسط يده فبايعته بيعة الإقرار بنبوته، ثم قال:
أيَّ محلٍّ أرتقي ... أيَّ عظيم أتقي
وكلُّ ما قد خلق الل ... هـ وما لم يخلق
محتقر في همتي ... كشعرة في مفرقي
وقد يكون هذا الذي ذكره أبو عبد الله معاذ بن إسماعيل اللاذقي صحيحاً، ولم يكن المتنبي إذا صح أنه ادعى النبوة أول من ادعاها في الإسلام، فقد ادعاها قبله وبعده خلق كثير، وقد يكون هذا غير صحيح؛ وربما يؤيد هذا أن الأبيات الأولى رويت في ديوانه على أنه قالها وقد عزله معاذ في إقدامه في الحرب، وأن الأبيات الثانية لا تتفق مع دعواه النبوة، وكثير من الناس يتخذها دليلاً على إلحاده.
وقد يكون ما رواه ابن جني هو الصحيح، وله شواهد كثيرة في الأدب العربي، ومن هذا أن شاس بن نهار من شعراء الجاهلية لقب بالممزق لقوله:
فإن كنت مأكولاً فكن أنت آكلاً ... وإلا فأدركني ولما أُمزَّق
وأن محصن بن ثعلبة وهو شاعر جاهلي أيضاً لقب بالمثقب لقوله:
رددْن تحية وكنَنَّ أخرى ... وثقبن الوَصاوِصَ للعيون
وأن خداش بن بشر المجاشمي وهو شاعر إسلامي لقب بالبعيث لقوله:
تبعث نمي ما تبعثُ بعد ما ... (م) استمر فؤادي واستمر عزيمي
ومن ذلك أن جران العود العبدي سمي بهذا لقوله:
خذا حذراً يا جارتي فانني ... رأيت جرانَ العود قد كاد يصلح
فخوفهما بسير قدَّ من صدر جمل مسن ومن ذلك أن المرقش الأكبر لقب بهذا لقوله:
الدار قفر والرسومُ كما ... رقَّش في ظهر الأديم قلم
واسم المرقش ربيعة بن سعد بن ملك
ومن ذلك أن مدرج الريح لقب بهذا لقوله:
ولها بأعلى الجزع رسمٌ دارس ... درجت عليه الريح بعدك فاستوى
فإذا نظرنا إلى هذه الأخبار المتناقضة في ذاتها لم تشف غليلنا في هذه النبوة المزعومة؛ وليس أمامنا فيها إلا اللجوء إلى ما سموه علم الجرح والتعديل، وإني لا أثق كثيراً بهذا العلم، لأنه مختلف أيضاً في أمر رواة الأخبار، ولأنه يعتمد على ظاهر أمرهم وهو لا يدل حقيقة عليهم.
فلا بد من اللجوء إلى أمر آخر يشفي غليلنا في أمر هذه النبوة، وذلك الأمر هو الشعر الذي قيل في العهد الذي يقال إن المتنبي ادعى فيه هذه الدعوى، وسنبدأ بهذا في المقال الآتي
(يتبع)
عبد المتعال الصعيدي