الرئيسيةبحث

مجلة الرسالة/العدد 173/رغبات الأدب في العهد الجديد

مجلة الرسالة/العدد 173/رغبات الأدب في العهد الجديد

مجلة الرسالة - العدد 173
رغبات الأدب في العهد الجديد
[[مؤلف:|]]
بتاريخ: 26 - 10 - 1936


ورغبات الأدب هي الخوالج القدسية العليا للشعب الكريم؛ تتمثل في عقله نزوعا إلى الحق، وفي نفسه طموحا إلى الخير، وفي ذوقه صبوّاً إلى الجمال. فإذا أتيح لها نفس من الديمقراطية وفرج من الحرية وروح من العدل، سطعت في أرجائه وأجوائه سطوع الأرج المنعش، فنضّرت الحياة وعطرت الأرواح وطهرت الأنفس، وإلا ذوت في مناشئها ذويّ النبات المكروب والأمل المخيب. وفي هذا العهد الجديد الذي انتعشت فيه عواثر المنى، وانفسحت به مناحي الجد، يحاول كل عامل من عوامل الرقي أن يستعيد قوته ويستفيد كماله. والأدب المصري ظل إلى اليوم فريسة الإهمال والفوضى؛ يكابد طغيان السياسة في استسلام، ويجاهد سطوة الجهالة في يأس، ويقاسي مضض الحرمان في ضراعة؛ وأولو الأمر يقابلون جهده بالاستهانة، ويكافئون بره بالعقوق، ويستغلون سلطانه في الصحف وعلى المنابر، ثم لا يدخلونه في الحساب يوم الغنيمة.

هاهم أولاء رجاله الصابرون البواسل، يؤدون رسالة الروح المضنية وقرائحهم المجهودة تنضح بالمداد كما تنضح الجباه الناصبة بالعرق، والصدور المحاربة بالدم، ثم لا يلقون ممن يحملون لهم الشعلة إلا ما لقي أصحاب الرسالات من الكفران الغادر والخذلان المهين. وما حال الأدب في الأمة الأمية، إلا كحال النبوة في الأمة المشركة، إذا لم يكن له سند من الله وعون من الحكومة ذهب ذهاب المصباح في عواصف البيد المظلمة. فالأديب المضطر إنما يشقى للقوت لا للفن، ويسعى للشهوة لا للمجد، وينتج للحاضر لا للمستقبل؛ وإذن لا يكون الأدب إلا كما نرى: بخس في الكيف، ونقص في الكم، وشعوذة في الوسيلة، وإسفاف في الغاية

يرغب الأدب إلى أولياء العهد الجديد أن يبسطوا عليه ظل الحماية، فما يستطيع اليوم لضعف دولته وجهل رعيته أن يستقل. يرغب إليهم أن يقوه تضييق الحرية ليتسع فكره، ويكفوه تمليق الجمهور ليسمو إنتاجه؛ فان العبث بحرية الرأيتعطيل لموهبة العقل وإفساد لفطرة الله وصد عن سبيل التقدم. ومزية الإنسان الحر في الحكومة الحرة أن يقول ما يعتقده صوابا، ويفعل ما يراه حسناً، ما دام هنالك دين يردع غواية النفس، وقانون يحبس عنان الإرادة. وان إذلال الأدب لشهوات الناس وضرورات العيش إضعاف لملكة الذوق وتدنيس لنقاء الضمير وتشويه لجمال الإلهام؛ ورقي الأدب قائم على استقلال رأيه ون غرضه وتأمين حياته؛ ولا تجد أنهض به وأعود عليه من الجوائز والمكافآت، فإنهاتحفز القرائح للعمل، وتضمن الإجادة بالتنافس، وترفع المستوى بانتخاب الأجود؛ وبضعة آلاف جنيه من الخزانة العامة ينفق أضعافها في تمهيد طريق أو تجميل بناء تخلق في الأمة أدباء موهوبين عالميين، وتجمع لها من الأدب الصحيح ثروة

ويرغب الأدب إلى أولياء العهد الجديد أن يضيفوا إلى غذائه ثمار العقول الخصيبة لنوابغ الأمم الأخرى، فان لكل أمة مزايا ولكل بيئة خصائص؛ ولن يكون أدبنا عالميا ما لم يلقح بآداب العالم؛ والتقليد والاحتذاء من أقوى العوامل أثراً في الأدب. ولو شاء الله لأدبنا الكمال من نقصه لألهم المترجمين في عصر المأمون أن ينقلوا روائع الأدبين الإغريقي واللاتيني من الشعر والقصص والروايات والملاحم كما نقلوا العلم والحكمة، إذن لقلدهم أدباء العرب في ذلك، ولسدوا في الأدب العربي خللا ما برئ منه حتى اليوم.

ذلك ميسور بإنشاء دار للترجمة في دار للكتب تنقل أدب الأمم الكبرى نقلا صحيحا، ثم تُنشر عن الدار على نحو ما تفعل اليوم في نشر الكتب العربية القديمة، فيجتمع للأدب الحديث رافدان زاخران يرفده أحدهما بعصارة المدنيات الغابرة، ويرفده الآخر بخلاصة المدنية الحاضرة. والواقع الأليم أنك تستطيع أن تقرأ أي نابغة في أي لغة محترمة إلا في اللغة العربية!!

كذلك يرغب الأدب إلى أولياء العهد الجديد أن تكون له مراجع عليا تقوم عليه، فتتعرف أطواره وتتعقب آثاره، وترتاد له سبل الكمال، فتسد ما فيه من خلل، وتعالج ما به من جمود، وتدفع ما عثا فيه من فوضى؛ ثم تكون لقرائح الشباب وهي في أول الشوط مناراً وحمى، ولعبقريات الشيوخ وهي في آخره أمناً ومثابة.

والمفروض اليوم أن مراجعه التي تقوم بطبيعة إنشائها على تسديده وتعضيده هي مجمع اللغة العربية الملكي بالمعارف، وإدارة الصحافة والنشر والثقافة بالداخلية، وجمعية كبار العلماء بالأزهر؛ ولكنها على هذا الوضع المقلوب والعزم المتخاذل والحركة الوانية لا تنفعه بنافعة؛ فإن العضوية في بعضها تشريف، وفي بعضها الآخر طعمة؛ أما العمل ففضل من العامل، فإذا تفضل به كان له في نهضة الأدب شأن ضئيل وأثر حائل.

على أن إدارة الصحافة والنشر والثقافة حديثة النشأة، والمظهر البادي عليها مظهر الطموح والفتوة، ومن الممكن أن نعقد بها أسباب الأمل لأنها وليدة هذا العهد، ولكن الأدب لا يزال يرغب إلى زعماء العهد الجديد، أن يساعدوه على أن يكون خليقا بهذا العصر السعيد.

أحمد حسن الزيات