الرئيسيةبحث

مجلة الرسالة/العدد 173/القلب المسكين

مجلة الرسالة/العدد 173/القلب المسكين

بتاريخ: 26 - 10 - 1936


للأستاذ مصطفى صادق الرافعي

أقبل عليَّ صاحبي الأديب وقال: أنظر هذه هي، وقد حلت بهذا البلد وما لي عهد بها منذ سنة. ومد إلي يده فنظرت إلى صورة امرأة كأحسن النساء وجهاً وجسماً، تتأود في غلالة من اللاذ.

وكأن شعاع الضحى في وجهها، وكأنها القمر طالعاً من غيمه، ويكاد صدرها يتنهد وهي صورة، وتبدو هيئة فمها كأنها وعد بقبلة، وفي عينيها نظرة كالسكوت بعد الكلمة التي قيلت همساً بينها وبين محبها. . .

فقلت: هذه صورة ما أراها قد رسمها إلا اثنان: المصور وإبليس. فمن هي؟

قال: سلها، أما تراها تكاد تثب من الورقة؟ إنها إلاّ تخبرك بشيء أخبرك عنها وجهها أنها أجمل النساء وأظرفهن وأحسن من شاهدت وجهاً وأعيناً، وثغراً وجيداً، والذي بعد ذلك. . .

قلت: ويحك، لقد شعرتَ بعدي، إن هذا شعرٌ موزون

وأحسن من شاهدتَ وجهاً وأعيناً ... وثغراً وجيداً والذي بعد ذلكا. . .

قال: إن شيطان هذه لا يكون إلا شاعراً؛ ألستَ تراه ناظماً من فنونها على الرسم شعراً معجزاً كل شاعر؟

قلت: وهذا أيضاً شعر موزون:

ألستَ تراه ناظماً من فنونها ... على الرسم شعراً معجزاً كل شاعر

قال: بلى والله إنه الشيطان، إنه شيطانها يريك لهذا الجسم روحاً رشيقة، تلين كلين الجسم بل هي أرشق

قلت: وهذا أيضاً، والقافية التي بعد هذا البيت: وبها شقوا. . .

فضحك صاحبنا وقال: حرك الصورة في يدك، فإنها ستراها وما تشك أنها ترقص.

قلت: الآن انقطع شيطانك، فهذا ليس شعراً ولا يجيء منه وزن. . .

وتضاحكنا وضحك الشيطان، وظهر الوجه الجميل في الرسم كأنه يضحك. . .

قال صاحب القلب المسكين: أنظر إلى هاتين العينين، إنهما من العيون التي تفتن الرجل وتسحره متى نظرت إليه، وتعذبه وتضنيه متى غابت عنه. إن في شعاعهما قدرةً على وضع النور في القلب السعيد، كما أن في سوادهما القدرة على وضع الظلمة في القلب المهجور. . .

وانظر إلى هذا الفم، إلى هذا الفم الذي تعجز كل حدائق الأرض أن تخرج وردةً حمراء تشبهه.

وانظر إلى هذا الجيد تحته ذلك الصدر العاري، فوقه ذلك الوجه المشرق؛ تلك ثلاثة أنواع من الضوء: أما الوجه ففيه روح الشمس، وأما الجيد ففيه روح النجم، وأما الصدر ففيه روحُ القمر الضاحي.

انظر إلى هذه المسافة البيضاء من أعلى جبينها إلى أسفل نهديها، تلك منطقة القُبُلات في جغرافيا هذا الجمال. . .

وانظر إلى الصدر يحمل ذينك الثديين الناهدين؛ إنه المعرض الذي اختارته الطبيعة من جسم المرأة الجميلة للإعلان عن ثمار البستان. . .

انظر إلى النهدين لِمَ برزا في صدر المرأة إلا إذا كانا يتحديان الصدر الآخر. . . .؟

وانظر لهذا الخصر الدقيق وما فوقه وما تحته، ألا تراه فتنةً متواضعةً بين فتنتين متكبرتين. . . .؟

انظر إليها كلها، انظر إلى كل هذا الجمال، وهذا السحر، وهذا الإغراء؛ ألا ترى الكنز الذي يحول القلب إلى لص. . .؟

هذه مخلوقة مرتين، إحداهما من الله في العالم، والأخرى من حبي أنا في نفسي أنا، فكلمة (جميلة) التي تصف المرأة التامة، لا تصفها هي إلا بعض الوصف؛ ورسمها هذا الذي تراه إنما هو حدود لتلك الروح التي فيها قوة التسلط، وهيهات يُظهر من تلك الروح إلا ما يُظهر من الجمرة المشتعلة رسم هذه الجمرة في ورقة.

أشهد ما نظرت مرة إلى هذا الرسم ثم نظرت إليها إلا وجدت الفرق بينها في نفسها وبينها في الصورة، كأنه اعتذار ناطق من آلة التصوير بأنها ليست إلا أداة. . .

قلت: اللهمَّ غفراً؛ ثم ماذا يا صديقي المجنون؟

فأطرق الأديب مهموماً، وكانت أفكاره تنفجر في دماغه انفجاراً هنا وانفجاراً هناك؛ ثم رفع إليَّ رأسه وقال: هذه الغانية قد حبست أفكاري كلها في فكرة واحدة منها هي؛ وأغلقت أبواب نفسي ومنافذها إلى الدنيا، وألهبت في دمي جمرة من جهنم فيها عذاب الإحراق وليس فيها الإحراق نفسه كيلا ينتهي منها العذاب.

وبيننا حبُّ بغير طريقة الحب، فإن طبيعتي الروحانية الكاملة تهوى فيها طبيعتها البشرية الناقصة، فأنا أمازجها بروحي فأتألم لها، وأتجنبها بجسمي فأتألم بها

حبٌّ عقيم مهما يكن من شيء فيه لا يكن فيه شيء من الواقع

حب عجيب لا تنتفي منه آلامه ولا تكون فيه لذاته

حبٌّ معقد لا يزال يلقى المسألة بعد المسألة، ثم يرفض الحل الذي لا تحل المسألة إلا به

حب أحمق يعشق المرأة المبذولة للناس، ولا يراها لنفسه ألا قديسة لا مطمع فيها

حب ابله لا يزال في حقائق الدنيا كالمنتظر أن تقع على شفتيه قبلة من الفم الذي في الصورة

حب مجنون كالذي يرى الحسناء أمام مرآتها فيقول لها: اذهبي أنت وستبقى لي هذه التي في المرآة. . .

قلت: اللهم رحمة؛ ثم ماذا يا صاحبي المسكين؟

قال: ثم هذه التي أحبها هي التي لا أريد الاستمتاع بها، ولا أطيقه ولا أجد في طبيعتي جرأة عليه، فكأنها الذهب وكأنني الفقير الذي لا يريد أن يكون لصاً. يقول له شيطان المال: تستطيع أن تطمع؛ ويقول له شيطان الحاجة: وتستطيع أن تفعل؛ ويقول هو لنفسه: لا أستطيع إلا الفضيلة

إن عذاب هذا بشيطانين لا بشيطان واحد، غير أن لذته في انتصاره كلذة من يقهر بطلين كلاهما أقوى منه وأشد.

قلت: اللهم عفواً؛ ثم ماذا يا قاهر الشيطانين؟

فأطرق ملياً كالذي ينظر في أمر قد حيره لا يتوجه له في أمره وجه، ثم تنهد وقال: يا طول علة قلبي. من أين أجيء لأحلامي بغير ما تجيء الأحلام به، وإنما هي تحت النوم ووراء وإنما هي تحت النوم ووراء العقل وفوق الإرادة؟ لقد بلغ بي هواها أن كل كلمة من كلام الحب في كتاب أو رواية أو شعر أو حديث - أراها موجهة إلي أنا.

ثم قال: انطلقْ بنا فتراها حتى تعلم منها علماً فهي في ذلك المسرح، هي في ذلك الشر، هي في تلك الظلمات، هي كاللؤلؤة لا تتربى لؤلؤةً إلا في أعماق بحر.

وذهبنا إلى مسرح يقوم في حديقة غنَّاءَ مترامية الجهات بعيدة الأطراف تظهر تحت الليل من ظلماتها وأنوارها كأنها مثقلةٌ بمعاني الهجر والعشق.

وتقدَّمَنا نسير في الغبش، فقال صاحبنا المحب: إني لأشعر أن الظلام هنا حيٌّ كأن فيه غوامض قلب كبير فما أرى فرقاً بين أن أجلس فيه وبين الجلوس إلى فيلسوف عظيم مهموم بهمِّ اللانهاية. فتعال نبرز إلى ذلك النور حول المسرح لنراها وهي مقبلة فأن رؤيتها سيدةً غير رؤيتها راقصة، ولهذه جمالُ فن ولتلك فنُّ جمال.

ولم نلبث إلا يسيرا حتى وافتْ، ورأيتها تمشي مشية الخفرات كأنها تحترم أفكار الناس، يزهوها على ذلك إحساسٌ نبيل كإحساس الملكة الشاعرة بمحبة شعبها. وانتفض مجنوننا وأغمض عينيه كأنها تمر بين ذراعيه لا في طريقها، وكأن لذة قربها منه هي الممكن الذي لا يمكن غيره.

وكان عجيباً من العجب أن تحرك الهواء في الحديقة واضطربت أشجارها فقال: أنت ترى. فهذا احتجاج من راقصات الطبيعة على دخول هذه الراقصة. قلت: آه يا صديقي؛ إن المرأة لا تكون امرأة بمعانيها إلا إذا وجدت في جو قلب يعشقها.

ونفذنا إلى المسرح وتحرَّى صاحبنا موضعاً يكون فيه منظر العين من صاحبته ويكون مستخفياً منها. ثم رُفع الستار عنها بين اثنتين يكتنفانها، وقد لبسن ثلاثتهن أثواب الريفيات وظهرن كهيئتهن حين يجنين القطن.

وبرزت (تلك) في ثوب من الحرير الأسود وهي بيضاء بياض القمر حين يتم، وقد شدَّت وسطها بمشيدة من الحرير الأحمر فتحبكت بها وظهرت شيئين: أعلى وأسفل، ثم ألقت على شعرها الذهبي قلنسوة حمراء من ذلك الحرير أمالتها جانباً فحبست شيئاً منه وأظهرت سائره. وأخذت بيدها صفَّاقتين وأقبل الثلاث يرقصن ويغنين نشيد الفلاحة.

لم أنظر إلى غيرها فقد كانت صاحبتاها دليلين على جمالها لا أكثر ولا أقل. وما أحسب الحرير الأحمر كان معها أحمر ولا الأسود كان عليها أسود، ولا لون الذهب في معصمها كان لون الذهب. كلاَّ كلاَّ هذه ألوان فوق الطبيعة لأن ذلك الوجه يشرق عليها بالجمال والحياة، وذلك الجسم يفيض لها بالخفة والطرب، وتلك الروح تبعث فيها المرح والنشوة؛ هذا مزيج من خمر الألوان لا من الألوان نفسها.

وقال مجنوننا: إن أجمل الجمال في المرأة الفاتنة هو ذاك الذي يجعل لكل إنسان نوع شعوره بها، وأنا أشعر الساعة أن قلبي نصف قلب فقط وأن نصفه الآخر في هذه وحدها، فما شعورك أنت؟

قلت، يا صديقي إن الله رحيم، ومن رحمته أنه أخفى القلب وأخفى بواعثه ليظل كل إنسان مخبوءاً عن كل إنسان، فدعني مخبوءاً عنك.

قال: لابد

قلت: إن المصباح في الموضع النجس لا يبعث النور نجسا، وما أشعر إلا أن النور الذي في قلبي قد امتزج بالنور الذي في عينيها.

ثم كأنها أحست بأن إنساناً قد امتلأ بها فأدارت وجهها وهي ترقص فتلمحت صاحبنا وجعلت تُقطّع الطرف بينها وبينه كأنها تعرفه وتجهله، ثم تبيَّنت إلحاح نظره فضحكت لأنها تعرفه ولا تجهله.

أما هو، أما المجنون، أما صاحب القلب المسكين؟

(لها بقية)

طنطا

مصطفى صادق الرافعي