مجلة الرسالة/العدد 170/خواطر سياسية يثيرها يوم 14 سبتمبر
→ قصة المكروب كيف كشفه رجاله | مجلة الرسالة - العدد 170 خواطر سياسية يثيرها يوم 14 سبتمبر [[مؤلف:|]] |
حول (نبوة المتنبي) ← |
بتاريخ: 05 - 10 - 1936 |
للأستاذ محمد محمود جلال
نزلنا (برتشاخ) في أوائل أغسطس المنصرم نستجم بعد الاستشفاء في (بادجاستين)، وبرتشاخ محلة تمتاز بالهدوء وتوسط الارتفاع عن سطح البحر فلا تكاد تصل إلى خمسمائة متر، وهي واقعة على بحيرة (فرتر) التي تعد من أجمل البحيرات في أوربا.
وهناك تقوم البواخر والزوارق من بخارية وشراعية مقام الترام والعربة والسيارة من وسائل النقل.
ففي أصيل أحد الأيام نهم لنستقل أحد تلك الزوارق التي تسير (بالبنزين) لمحنا في الأفق وعلى بعد نحو ميلين أو ثلاثة قوساً يعلو البحيرة ويبدأ من الشاطئ الأيمن، فصاح ولدي وهو بجانبي: (هذا ماء وكأنه يخرج من مضخة) قلت كلا، وكيف ذلك وليس فيما نرى مساكن وهذا موضع بحذاء الطريق المعد للسيارات، ولولا أن القوس لا تظهر معها ألوان لقلنا إنه قوس قزح الذي نسميه في ريفنا المبارك (قصعة الرخاء) ونعده فألاً حسناً للعام.
طلبنا إلى السائق أن يتجه إلى هذا المكان المنبهم علينا وهناك سألناه الإيضاح، قال: إن إلى يميننا بحيرة صغيرة تعلونا بكثير، ويزداد ماؤها بين وقت وآخر بحيث يخشى طغيانه، فأقامت له الحكومة محطة كهربائية تنقل منه جانباً في يوم معين من الأسبوع وقد يتكرر ذلك في أيام أخرى غير معينة.
قلت: ولم تعملون على أن يتخذ في تصريفه هذا الوضع وفي الإمكان صرفه دون أن يرى وعلى وضع مستقيم.
قال: (إن أسماك بحيرتنا تموت من قوة الاندفاع، فحرصاً عليها لجأ المهندسون إلى هذه الطريقة).
قلت: (أهكذا دائماً قوانين الطبيعة لا تتغير؟ فالغريب من الماء كالغريب من الناس حين ينزل على غير بلاده مغيراً أو محتلاً غاصباً يخرب ويدمر ويعصف بالأوضاع كما يعصف بالأرواح، ولو رد جميع الناس إلى آدم وحواء كما يرد أصل هذه الأنهار والبحيرات إلى المطر!!
ذكرت على التو بلادي وما عانت منذ أكثر من خمسين عاماً في نظمها وأوضاعها وأخلاق وأموالها، ومضت برغمي فترة طويلة منصرفاً إلى ما اكتنفني من هم مسخ النزهة وكاد يعفي أثر العلاج وأنا مطرق. . مستعبر.
قبع جنود الاحتلال في قصر النيل ووصل أثرهم إلى أقصى الوجه السوداني جنوباً والبحر الأبيض شمالاً. وجلس عميده الأول بقصر الدوبارة ونغص عيشنا في ريفنا وصعيدنا، وانساب كالأفعى إلى عقل الطالب بما قدم من كتب ممسوخة وإلى الزراع بامتصاص دمه وإلى الدوائر العليا يخضد من شوكتها ويعلن أوامره فأفسد الأخلاق، وإلى الجيش فجعله لا يشعر بوجود ولا يتقدم خطوة ولو في الدراسة النظرية.
ولقد أراد الله أن تصل بنا الباخرة في العودة إلى الوطن في السادسة من صباح 2 سبتمبر، وما كدنا نفرغ من الاستعداد حتى قاربت الثامنة، وإذا بأحد الخدم يطرق الباب، وكم كان سروري عظيماً حين سلمني جوازات السفر فأراحني بذلك من المشهد المؤلم الذي كان علي كالضربة الثقيلة، إذ شاء الاحتلال أن تكون الأمرة في بوليس الموانئ للإنجليز! فلكم كنت أشعر بالتنغيص المفاجئ في الذهاب والعودة حين أرى المسيطر الباحث في جواز مصري ولمسافر مصري غير مصري.
فتحت الخادم وتناولت الجوازات مغتبطاً، وطرت مع الفأل فرحاً وقلت في نفسي يحقق الله للبلاد بجهودها ما حققت لي المصادفة اليوم.
وهكذا يشاء الله أن يمر 14 سبتمبر وأنا بعيد عن القاهرة، كما تمنيت من قديم، وكما أنالني الله وقد عودني جميله.
عدنا إلى الوطن ونزلنا منازلنا والموسم الزراعي في أحفل مراحله، إذ تموج الحقول في جميع أرجاء البلاد بالعديد من أبنائها يجمعون بأيديهم ثروتها، وإنهم بذلك يتظاهرون للجهاد لا في سبيل العيش فقط، ولكن في سبيل سمعة الوطن في جانب غنائه؛ وليس أقوى من مظهرهم حفزاً للهمم بين وهج الشمس وأثر الرطوبة المتخلفة عن الفيضان. فلا يحسون سوءاً من الأولى ولا من الثانية، لأن وهج الهمة أقوى، وسورة الجهاد أطغى وأعم.
ويتفق أن يحفل الموسم مبكراً فيتفق واليوم المنكود الذي طلعت على رحى الاحتلال شمسه، وخيمت على عاصمة سحب الشر فيه مختلطة بغبار الخيل قادمة في غير حرب، وشامخة كأنما انتهت من فتح، وهو الغصب الصارخ يؤيده العذر الذي لا يعدو خيوط العنكبوت في قوته، ثم تدرج عليه سنون فوق الخمسين.
انظر واعتبر! ثم انظر وأمل في الله الخير، فأن العب الذي تعركه المحن وتنغصه الذكريات يكون أقوى الشعوب حينما يستفيد من ماضيه، وأقدرها على السير ناضجاً بفعل الأيام وهي خير مرب.
وإذا كان الزمان استدار فظهرت العزائم متجهة والقوى متراصة جهاداً في سبيل العيش، فعما قريب هذه العزائم في العمل في كل ميدان للتخلص مما أصاب البلاد.
وكان أول كتاب للمرحوم مصطفى كامل إلى مدام جوليت آدم في 12 سبتمبر وكان كتاباً له ما بعده. وكان ما تلاه بادرة ظهور القائد الشاب وبادرة الأمل، وأول العمل المستمر الذي أفنى فيه حياته.
ولئن كانت الصحف اليومية وأكثر الهيئات لم تعر هذا اليوم ما يناسبه من عناية، فقد يكفل الأدب للأمم استخراج العبرة البالغة من المأساة، والمفخرة الغالية من الحادث الصغير. وقديماً قام الأدب أميناً على تراث الماضي وتأثراً للفضل والفضائل. ولقد صدق المرحوم شوقي بك حين رأى كسرى وإيوانه في سفينة النجوى أبقى على الزمن من الإيوان في فخامته وبنيانه. فكيف به أمام يوم غير من حال أمة ورزأها أكبر الرزء؟
كنت إلى أمس أقرأ تعليقاً قيما للكاتب الكبير أناطول فرانس على بحث فني بصدد أحد القصور التاريخية في فرنسا وهو قصر الوزير (فوكيه) وزير المالية في عهد لويس الرابع عشر، فحين عرض لمحنته ثم لمصرعه ذكر تنكر الأيام للوزير وتغير صحبه وخلانه، وحتى ذلك الجمع الذي لا يحصى ممن له عليهم أيد وآلاء ولم يقم بالواجب نحوه ويذكره في محنته، ويفصل بين السيئة والحسنة، ويمنع طغيان الشهوات على قديم مآثره، إلا الأدباء، فتسابقوا دفاعاً عنه نظماً ونثراً ومن بينهم كورنيل والرئيس هينو
وهل أقرب إلى الحق من الأدب؟ ومن يحمل عبء الإيقاظ للخير غيره؟ وهل يصرع الظلم سواه؟
والحقِ عرض الله، كل أبية ... بين النفوس حمى له ووقاء
محمد محمود جلال