مجلة الرسالة/العدد 17/في الأدب الغربي
→ في الأدب الشرقي | مجلة الرسالة - العدد 17 في الأدب الغربي [[مؤلف:|]] |
العلوم ← |
بتاريخ: 15 - 09 - 1933 |
في ساحة علبين
لأناتول فرانس
رأيت نفسي فجأة في ديار خيم عليها ظلام وهبب صامت، برزت فيه صور وأشباح مبهمة ملأتني خوفا ورعبا، ولقد ألفت عيني بعد حين حلكة الظلام ورأيت بجانب نهر تنساب مياهه في هدوء شبح إنسان رهيب المنظر على رأسه قلنسوة أسيوية، ويحمل على كتفه مجدافا عرفت فيه أوديسيوس الخادع، وكان خداه غائرين وقد غطت ذقنه لحية بيضاء شعثاء
سمعته يقول بصوت خافت ضعيف: إنني جوعان، وأحس بعيني مظلمتين ونفسي كأنها دخان ثقيل يسبح في الظلام؛ ألا من يعطيني جرعة من الدم الأسود لأستعيد ذكرى سفني المنقوشة وزوجتي الطاهرة وأمي!
فلما سمعت هذه الكلمات عرفت إنني قد انتقلت إلى بقاع الجحيم، فحاولت أن أسترشد في خطوي بأوصاف الشعراء ما استطعت إلى ذلك سبيلا، وذهبت إلى مرج قد أضاءه نور ضئيل. وبعد مسير نصف ساعة انتهيت إلى رهط من الأطياف قد اجتمعت في صعيد واحد وأخذت تتطارح الحديث وهي تضم نفوسا من كل عصر، فرأيت بينها الفلاسفة العظام بجانب الهمج الفقراء، ولقد اختبأت تحت ظلال شجرة من أشجار الريحان، وأنصت إلى حديثهم، فكان أول من سمعت (بيرهون) وهو يسأل في رقة وتوسل وقد أمسك بيديه قدومه كأنه بستاني بحق:
ما هي النفس؟
فأجابته الأطياف التي حوله باهتمام وكلها يريد التكلم دفعة واحدة. قال أفلاطون وفي عينيه نظرة الرجاحة: ان النفس ثلاث، فلنا نفس نهمة في البطن، ونفس محبة في القلب، ونفس عاقلة في الرأس. والنفس خالدة، أما النساء فلهن نفسان وتعوزهن النفس العاقلة. فرد عليه شيخ من أعضاء مجلس ما كون قائلا: انك تتكلم يا أفلاطون كمن يعبد الأوثان، ففي سنة 585 قرر مجلس مكون بكثرة الأصوات اعتبار المرأة ذات نفس خالدة، والمرأة هي الرجل لأن المسيح الذي ولد من عذراء يدعى في الإنجيل بابن الرجل.
فهز أرسطو كتفيه ورد على أستاذه بلهجة الحزم والوقار قائلا: من المرجح عندي يا أفلاطون إن لنفس الإنسان والحيوان خمسة أنواع: النفس الغذائية، والنفس الحساسة، والنفس الدافعة، والنفس الشهوانية، والنفس العاقلة؛ والنفس هي العنصر الذي يتكون منه الجسم، فإذا أهلكت هلك بهلاكها
وطرحت آراء أخرى كل واحد منها يعارض الآخر
أوريجن: ان النفس مادية وهي شئ رمزي
سنت أوجستين: كلا، ليست النفس مادية وهي خالدة
هيجل: إن النفس ظاهرة طبيعية
شوبنهور: ان النفس مظهر وقتي للإرادة
رجل من بولينيزا: إن النفس هي نفس الريح، ولما رأيت أن نفسي صاعدة ضغطت على أنفي لأحفظها داخل جسدي، ولكنني لم أستطع أن أضغط الضغط الكافي فمت.
امرأة هندية: من فلوريدا: لقد قضيت نحبي وأنا في مهد طفلي، فوضعوا يده على شفتي ليمسك نفس أمه من الصعود، ولكن جاء هذا متأخرا فقد انسابت نفسي بين أصابع الطفل البريء
ديكارت: لقد أثبت أخيرا ان النفس كانت شيئا معنويا، أما عن مصيرها فارجعوا إلى الأستاذ ديجي الذي كتب في هذا الموضوع.
لامتري: أين ديجي هذا؟ أحضروه.
مينوس: أيها السادة سأبحث عنه في كل بقاع الجحيم،
البرنس ماجتاس: عندنا ثلاثون دليلا على فناء النفس، وستة وثلاثون على خلودها، فهناك أكثرية ستة أصوات بجانب الخلود
صانع أحذية: إن روح السيد الشجاع لا تموت لا هي ولا غدارته ولا غليونه
رابي ميمونديس: لقد كتب من قديم ان الرجل الشرير سيبيد ولن يبقى منه شيء
سنت أوجستين: انك مخطئ يا رابي ميمونديس، فقد كتب إن المذنب سيذهب إلى النار وسيخلد فيها أبدا.
أوريجين: نعم إن ميمونديس مخطئ، فالرجل الشرير لن يبيد ولكن سيتقلص حتى يصبح ضئيلا جدا فلا يمكن تبينه، ويجب أن تعلم هذا ممن حلت بهم لعنة الله، أما عن نفوس القديسين فسيكون نصيبها الامتزاج بالله
دنس اسكوتس: إن الموت يجعل الكائنات تمتزج بالله مرة اخرى كأنها صوت يغيب في الهواء
بوسويه: ان أوريجن ودنس اسكوتس يخطئان هنا، فأن ما روي في الكتب المقدسة عن عذاب الجحيم يجب أن يفهم بمعناه الدقيق الحرفي، وهو أن الأشرار سيظلون أبدا تتنازعهم الحياة والموت، وسيخلدون في العذاب لأنهم سيبقون أقوياء لا يموتون، وضعفاء لا يحتملون، ولن يبرحوا يئنون على مقعد من النار مغمورين في مض من الألم لا شفاء لهم منه.
سنت اوجستين: نعم يجب أن نفهم هذه الحقائق بمعناها الحرفي، ونعلم أن أجسام الأشرار هي التي ستعذب في النار، ولن ينجو من هذا العذاب الشديد الأطفال الذين يموتون عند ولادتهم، أو حتى في بطون أمهاتهم، فهكذا قضت العدالة الإلهية، فإذا رأيت أنه يتعذر عليك تصديق أن الأجسام التي تلقى في النار لن تهلك أبداً فهذا نتيجة الجهل المحض، فأنت لا تعلم أن هناك أنواعاً من اللحم تحفظ في النار كلحم الديك البري، وقد جربت هذا في هدهد، إذ هيأ لي طاه أحد هذه الطيور وخصص نصفه لغذائي، وبعد أسبوعين طلبت النصف الآخر فكان لا يزال صالحا للأكل، فظهر لي أن النار حفظته كما ستحفظ أجسام الأشرار.
سمنجالا: إن كل ما سمعته من أنواع الفلسفة إلى الآن مظلم كظلام الغرب الدامس، والحقيقة أن الأرواح تحل في أجسام مختلفة قبل أن تمتزج بالنيرفانا المباركة التي تضع حداً لشرور الحياة، فقد حل (جوتاسا) في خمسمائة وخمسين شكلا قبل أن يصير (لودا) فكان ملكاً ثم عبداً ثم قرداً ثم فيلاً ثم ضفدعة ثم شجرة من أشجار الدلب وهكذا
قسيس: إن الناس يموتون كما تموت دواب الحقل، ومصيرهم كمصيرها، وكما يموت الناس تموت البهائم أيضا، وكلاهما يتنفس هواء واحدا وليس للناس شئ لا تملكه البهائم.
تاسيتوس: ان هذا الكلام يكون مقبولا مفهوما لو نطق به يهودي خلقت نفسه للعبودية، أما أنا فاني أتكلم كروماني فأقول: إن أرواح الوطنيين المشهورين لا تفنى ويجب أن نؤمن بذلك إيمانا صحيحا، ولكننا نتهم عظمة الآلهة إذ نحسبها تهب الخلود لأرواح العبيد والعتقى.
شيشرون: وا أسفاه يا بني أن كل ما يروون لنا عن بقاع الجحيم انما هو نسيج من الاباطيل، وأني لأسأل نفسي أهناك طريق آخر يكفل لي الخلود الا ذكر عهد قنصليتي الذي سيبقى إلى الأبد؟
سقراط: أما أنا فاني أومن بخلود الروح، فهو فرصة يحسن انتهازها، وأمل يعلل به كل إنسان نفسه
فكتور كوزان: يا عزيزي سقراط إن خلود النفس الذي أوضحته بجلاء لا بد منه للأخلاق والآداب، لأن الفضيلة موضوع مناسب للحطباء، ولو لم تكن النفس خالدة لما كان للفضيلة ثواب.
سنيكا: واعجبا يا فيلسوف الغالي! أهذه مبادئ رجل حكيم؟ ألا فاعلم أن جزاء الأعمال الصالحة هو في تأديتها وإلا فجزاء تثاب به الفضيلة يكون غريباً عن الفضيلة ذاتها.
أفلاطون: ولكن هناك ثواباً وعقاباً إلهياً، فعند الموت تصعد روح الرجل الشرير لتحل في جسم حيوان حقير كحصان أو عجل بحر أو امرأة، أما روح الحكيم فتمتزج بالآلهة.
باببنيان: إن ما يعني أفلاطون هو أن العدل الإلهي سيتولى في الحياة الأخرى إصلاح أخطاء العدالة الإنسانية، والأمر على النقيض من ذلك، فخير للأفراد الذين أصابهم في الدنيا عقاب لا يستحقونه، قضى عليهم به قضاة معرضون في الواقع للزلل برغم جدارتهم بمناصبهم وخبرتهم بالقضاء، أن يظلوا يقاسون الآلام والعذاب في عالم الأرواح، وهذا ما تعني به العدالة الإنسانية التي قد يضعف من شأنها أن تضعها إلى جانب الحكمة الإلهية.
قزم: ان الله يحسن إلى الأغنياء ويسيء إلى الفقراء، لأنه يحب الأولين ويبغض الآخرين، ولحبه الأغنياء سيرحب بهم في جنانن، ولبغضه الفقراء سيصليهم بناره.
صيني بوذي: اعلم ان لكل إنسان نفسين: إحداهما خيرة وهي التي ستمتزج بالله، والأخرى شريرة وهي التي سيحل بها العذاب.
عجوز من تارنت: أيها الحكماء أفتوا شيخا يحب البساتين، هل للحيوانات نفس؟
ديكارت دماليبرانش: كلا، انها آلات
أرسطو: بل هي حيوانات ولها نفس مثل ما لنا، وهذه النفس تتصل بأعضائها ابيقور: أجل يا أرسطو لقد كان مما مهد لها سبيل سعادتها وهناءتها ما بين نفسها ونفسنا من شبه، فكلتاهما قابلة للفناء معرضة للموت. أما أنت أيتها الأطياف فانتظري في هذه الحدائق الوقت الذي تفقدين فيه الحياة نفسها وبؤسها مع الرغبة فيها ولا الولوع بها، ولتريحوا أنفسكم بالتأمل والتفكير في هدوء لا يكدر صفوه مكدر.
بيرهون: ما الحياة.؟
كلود برنارد: الحياة هي الموت
فسأله بيرهون قائلا: وما الموت؟ فلم يجبه أحد، واختفت الأطياف في سكون كأنها سحاب يفر من الرياح
وحسبتني تركت وحيدا على العشب حتى لمحت منيبوس وقد عرفته بابتسامته التهكمية
فقلت له: كيف تتحدث هذه الجماعة عن الموت يامنيبوس كأن لم يكن لها به عهد؟ وكيف يجهلون مصائر الإنسان كأنهم ما زالوا على الأرض.
قال لا ريب أن هذا يرجع إلى أنهم ما زالوا إنسانيين وفانين إلى حد ما، فإذا ما ولجوا باب الخلود فلن يتكلموا ولن يفكروا، إذ سيصبحون كالآلهة.
حنفي غالي