مجلة الرسالة/العدد 17/العلوم
→ في الأدب الغربي | مجلة الرسالة - العدد 17 العلوم [[مؤلف:|]] |
دائرة المعارف الإسلامية ← |
بتاريخ: 15 - 09 - 1933 |
النسل
للدكتور احمد زكي
منذ شهرين قامت ضجة في بلد من بلدان أوربا الوسطى وصل اضطرابها إلى أطراف العالم الحي. ذلك أن حكومة ذلك البلد قاضت جماعة من الأطباء قاموا بطريقة منظمة على تعقيم كل ذَكَر لا يرغب في الانسال، أو أنسل ولم يعد له رغبة في المزيد، أو له رغبة في المزيد تأباها عليه الضائقة الحاضرة، بثت هذه الجماعة دعايتها بين الفقراء من العمال والفقراء من الزراع، ولم تكن غايتها الكسب، فان أجرة العملية كلها على ما أذكر كانت جنيهين ونصفا في ذلك أجرة الطريق أو أجر السفر، وانما كانت غايتها منع النسل عن غير القادرين على رعايته، وتجويد نوع المواليد بالإقلال منهم، على قاعدة أن المائة من الجنيهات قد تنفق على اثنين وقد تنفق على أربع، ولكن إن هي أتتك في الحالة الأولى برجلين فهي تأتيك في الحالة الثانية بأربعة أنصاف من الرجال، وحيث أن الدنيا ضاقت بالعدد الذي لا يجد عملا، فأولى بالناس أن ينصرفوا عن العدد إلى الجودة، وعن الكم إلى الكيف. ولكن الحكومة التي رفعت الدعوى عليهم رأت أن في العدد سلام الدولة، وان للكم الغلبة بين الأمم. ومهما يكن من رأي هؤلاء أو أولئك فالذي نريد أن نسجله دعوى جديدة تدعيها هذه الرفقة، وهي أنهم يقطعون بمشرطهم حبلا فيقطعون ما بين الرجل وذراريه، ثم يصلون بملقط ما قطعوه، فيعود الرجل إلى إنتاجه القديم. ونريد أن نسجل أن بهذا المشرط ولا سيما بالملقط ستحدث أحداث غريبة في العالم ستأتي على رغم الكراهات وبرغم القوانين ولو أبطأت بها الأيام
الإنتاج من قديم فخر الرجل والعقم عاره، ولكن كان هذا والأيام تسير الهوينى والأرزاق كأنها تتنزل من السماء على أنفس قنوعة راضية، أما المدنية الحاضرة مع بوائقها وضوائقها وانعدام العصبية الأسرية فيها إلى حد كبير، فلا تكاد تبقي للإنسان فخارا بخلف أو عاراً من عقم، ولا سيما عقما لا يذهب بمشاعر الحيوانية من الإنسان، دليل ذلك أن الكثيرين يتعقمون اختيارا، وفي مصر من هؤلاء عدد يذكر تعقموا في وضح النهار على سمع الناس وأبصارهم. ولكنهم مهما كثروا قليلون إلى جانب من يرغبون في حبس النس أو تقليله، ولكن تأبى نفوسهم وتثور حفائظهم وتقشعر أبدانهم أن تنتزع الرجولة منهم وتقتل الذكورة فيهم، أما الآن وقد وعد الطب بوصل ما يقطع، فلم تعد الرجولة تنتزع ولا الذكورة تقتلع، وانما يقطعان إلى وصل، ويطويان إلى نشر، وفي هذا من الأغراء ما فيه. ومن الممتع اللذيذ للعالم الاجتماعي أن يتابع عن كثب هذا الأثر الجديد للمشارط والملاقط في حياة الأسر، وطاقات الطوائف والأمم، فهما أداتان للخير والشر على السواء، لابد من ضبطهما بأيدٍ مسئولة، ولا سبيل إلى تركهما لأهواء الأفراد طيلة انتسابهم إلى مجتمع منتظم هم من نتاجه
واجتمعت الجمعية الطبية البريطانية اجتماعها السنوي في (دبلن) من أسابيع قليلة عقب الثائرة التي أثارتها تلك القضية، فرأينا أصداءها تتردد حتى في هذه القيعان، فقد قام جماعة من الأطباء ذوي اسم ومكانة ينصحون بتدخل الجمعية في تحديد عدد السكان في الجزر البريطانية وإباحة تلك العملية واتخاذها أداة لمنع الأضرار الاجتماعية التي تتسبب في الأوساط الفقيرة عن ارسال حبل الإنسان على غاربه، ولا سيما في مناطق التعدين حيث الفقر مدقع والبطالة لا أمل في العثور على علاج لها لا في الحاضر ولا في مستقبل الأيام. وقامت معارضة هادئة الا أنها من صنف المعارضات التي تنجح وتتلقاها آذان السكسونيين دائما بالقبول. قام معارض فقال: إن للمسألة وجوها غير طبية، فلها وجه اجتماعي ووجه آخر خلقي، وليس الطبيب بأهل ان يبحث في الاجتماع أو أن يرسم للناس كيف يتخلقون. وقام طبيب الملك فقال: إن من أنجع الطرق في وقف سير حركة جديدة أو تعطيل اعتناق الناس لمذهب طريف، أن تتدخل فيه بالعنف الرسمي، سواء أكان ذلك بتحكيم القانون أم بتقرير جماعة مسئولة كجماعتنا هذه. كل حركة جديدة أو مذهب طريف، لابد أن يتأهل له الناس. وما التقنين الا صياغة لرغبة عامة وتتويج لإرادة شاملة، فلندع جمهور الأمة يفكر في صمت، في المجالس الخاصة وبين فترات العمل، في راحة ما بعد الغداء، أو اضطجاعة ما بعد العشاء، وفي أثناء التروض على الحشيش الأخضر أو على رمل الساحل، أعطوا الجمهور الزمن ليفكر. ولا تسبقوا أحداث الوجود، فعندئذ يأتيكم هذا الجمهور يطلب منكم النصيحة، وعندئذ تعطونه إياها نصيحة ناجعة سهلة، تصل بكم إلى الغرض بسرعة كبيرة تعوضكم عن الإبطاء الذي كان لابد منه لتفكير الناس واقتناع الجماهير، وكان هذا فصل الخطاب.
أما في ألمانيا الهتلرية فقد جرى النقاش في الموضوع وتقرر القرار وصيغ القانون في ليلة وضحاها. والواقع أننا لم نكد نسمع الا بالقانون وقد صدر، وهو يضيء بالتعقيم الإجباري لكل مريض بمرض يمكن توريثه. وعددوا تلك الأمراض فكان منها ضعف العقل وبعض صنوف الجنون والصرع والتشنج المفصلي والعمى والصمم الموَّرثان، وكل عاهة يمكن توريثها، وكذلك إدمان المسكرات إذا بلغ حد المرض. وتنصب لجان للتقرير عن حالة المرضى. وللمريض أن يستأنف، فأن قضى الاستئناف بالتعقيم أنفذ بالقوة في مصحات الحكومة. وتقع نفقة كل هذا من قضاء أو تعقيم على أولي الأمر، ويتعهد كل من يتصل بشيء من ذلك بالتكتم والتستر حتى لا يعرف من تعقم. لم يسمح القانون بإجراء العملية على الأصحاء لأسباب اجتماعية مهما كانت تلك الأسباب. ونسمع انهم سيخرجون في القريب العاجل قانونا خاصا بتعقيم المجرمين.
هذه البداية، ولسنا ندري ما النهاية. حرموا النسل على المرضى لخير المجتمع. أو لما يرون فيه خير المجتمع، وفرضوه على الأصحاء لخير المجتمع كذلك أو لما يرون فيه الخير للمجتمع. والروح السارية في هذا كله تقضى بالتضحية بالحرية الفردية لصالح الجماعة، وهي روح تلتئم مع روح العصر المَكنَّى فالجماعة مَكَنَة والأفراد قِطَعها، فهي إن دارت تدور بسرعات مختلفة وفي اتجاهات متباينة، ولكنها جميعا متناسقة متوافقة، تؤدي إلى نتيجة محتمة واحدة. هي دوران المكنة على الدوام وبانتظام. فان شذت قطعة من القطع عن ذلك كان مصيرها رُكام القمائم.
لندن في 17 أغسطس.