مجلة الرسالة/العدد 17/في الأدب العربي
→ بلاط الشهداء بعد ألف ومائتي عام | مجلة الرسالة - العدد 17 في الأدب العربي [[مؤلف:|]] |
من طرائف الشعر ← |
بتاريخ: 15 - 09 - 1933 |
نابغة من شعراء مصر
الخشاب الشاعر
للأستاذ محمد كامل حجاج
هذا النابغة الذي سأحدثك عنه كان ثاني النيرين وأحد الفرقدين في عصره اذ لم يكن لهما ثالث يجاريهما في حلبة القريض، أو يدانيهما في مضمار الأدب. ولقد خان الحظ شاعرنا في عصرنا هذا حتى أصبح نسيا منسيا لدى الجمهور ولو انه معروف بين الخاصة من الطبقة الراقية في الأدب. ولقد جنت عليه المطابع المصرية إذ لم تنشر ديوانه، وطبعته مطبعة الجوائب بالأستانة مع مجموعة كبيرة أصبحت نادرة جدا.
خدم الحظ البهاء زهير فطبع ديوانه في أوربا ومصر عدة طبعات بيع بعضها بقرشين حتى انتشر وحفظ منه الفقهاء والمنشدون والمغنون كثيرا وغنوه في الحفلات حتى شاع وملأ الأصقاع مع أنه لا يذكر بجانب شاعرنا المترجم به.
وكان ثاني النيرين العالم العلامة والشاعر المجيد الذي ضرب بسهم في مختلف العلوم والفنون الشيخ حسن العطار شيخ الجامع الأزهر. وقد ارتحل عن مصر وقت هجوم الفرنسيين عليها وتجول بين ربوع الشام واشقودره، ولما آب من رحلته مازج المترجم به وخالطه، ورافقه ووافقه، فكانا كثيرا ما يبيتان معا ويقطعان الليل بأحاديث أرق من نسيم السحر، وكثيرا ما كانا يتنادمان في دار صديقهما الحميم الوفي الشيخ الجبرتي ويطرحان التكلف ثم يتجاذبان أطراف الكلام فيجولان في كل فن جولة، وكانت تجري بينهما منادمات أرق من زهر الرياض، وافتك بالعقول من الحدق المراض، وهما حينئذ فريدا عصرهما، ووحيدا مصرهما لم يعززا بثالث في ذاك الوقت.
كان والد المترجم به نجارا ولما راجت صناعته فتح مخزنا لبيع الأخشاب بجانب تكية الكلشني بالقرب من باب زويلة، وأرسل ابنه إلى الكتاب لحفظ القرآن، ثم طمحت نفسه إلى طلب العلم فذهب إلى الأزهر ولازم حضورالسيد علي المقدسي وغيره من أفاضل الوقت فانجب في فقه الشافعية والمعقول بقدر الحاجة، وشغف بمطالعة الأدب والتاريخ والتصو حتى أصبح نادرة عصره في المحاضرات والمحاورات واستحضار المناسبات.
ولدماثه أخلاقه، ولطف سجاياه، وكرم شمائله، وخفة روحه صحبه كثير من أرباب المظاهر والرؤساء والكتاب والأمراء وكبار التجار
يقول لنا الجبرتي إن شاعرنا السيد الشريف أبا الحسن إسماعيل ابن سعد بن إسماعيل الوهبي الحسيني الشافعي كانت له قوة استحضار في إبداء المناسبات حسبما تقتضيه حال المجلس، فكان يجالس ويشاكل كل جليس بما يدخل عليه السرور ويأسر لبه بلطف سمره ومنادمته الجذابة الخلابة
ولما دخل الفرنسيون مصر عين المترجم له محررا لتاريخ حوادث الديوان وقرر له الجنرال جاك منو في كل شهر سبعة آلاف نصف فضة.
علق المترجم به شابا من رؤساء كتاب الفرنسيين وكان جميل الصورة لطيف الطبع عالما ببعض العلوم العربية ويحفظ كثيرا من الشعر، فلتلك المجانسة في الميول، مال كل منهما إلى الآخر حتى كان لا يقدر أحدهما على مفارقة صاحبه، فكان المترجم له تارة يذهب إلى داره وطورا يزوره هو ويقع بينهما من لطيف المحاورةما يتعجب منه، وهو الذي نفح الشاعر بهذه النفحات العظيمة والغزل الفائق.
لم يزل المترجم به على حالته ورقته ولطافته مع ما كان عليه من كرم النفس والعفة والنزاهة والولع بمعالي الأمور والتكسب وكثرة الإنفاق، وسكنى الدور الواسعة، وكان له صديق يسمى أحمد العطار باب الفتوح توفي فتزوج شاعرنا امرأته وهي نصف، وأقام معها نحو ثلاثين سنة ولها ولد صغير من زوجها المتوفى فتبناه ورباه ورفهه بالملابس وأشفق عليه إشفاق والد بولده، ولما ترعرع زوجه وأقام له مهرجانا فخما، وبعد سنة من زواجه مرض اشهرا أنفق فيها كثيرا من المال عليه، ثم قضى الغلام نحبه فجزع عليه جزعا شديدا وأقام له مأتما عظيما، واختارت أمه دفنه بجامع الكردي بالحسينية ورتبت له رواتب وقراء واتخذت مسكنا ملاصقا لقبره أقامت به نحو الثلاثين سنة، وهي مداومة على عمل الشريك والكعك بالعجمية والسكر وطبخ الأطعمة للمقرئين والزائرين كل جمعة على الدوام، وشاعرنا طوع أمرها في كل ما طلبته. وكان كل ما وصل إليه من مال أو كسب ينفقه عليها وعلى أقاربها وخدمها لا لذة له في ذلك حسية ولا معنوية. لأنها في ذاتها عجوز شوهاء وهو نحيف ضعيف الحركة جدا، ومرض بحصر البول مع الحرقة والتألم وطال عليه حتى لزم الفراش أياما ثم توفي في يوم السبت ثاني الحجة سنة 1230 بمنزله الذي استأجره بدرب قرمز، وُصلي عليه في الأزهر في مشهد حافل ودفن عند ابنه المذكور بجامع الكردي.
وقد اهتم الشيخ حسن العطار بجمع ديوان الخشاب في حياته سنة 1227 لإعجابه الشديد برقته وبلاغته وسمو خياله، أي قبل موته بثلاث سنين، ويؤيد ذلك التاريخ الذي وضعه ناسخ الديوان محمد صالح الفضالي الواقعي المصري إذ انتهى من نسخه في يوم الأحد 11 شوال سنة 1227. وقد عاش المترجم بعد جمع ديوانه ثلاث سنين، ولا يبعد انه نظم فيها شيئا ليس بالقليل، ولأنه لم يترك عقبا امتدت يد الشتات إلى نظمه الأخير.
لا نعرف بالضبط التاريخ الذي بدأ فيه بمعالجة القريض. وأقدم تاريخ في ديوانه سنه 1201 يؤرخ به ميلاد ابن أبي الأنوار السادات، ومن ذلك يعلم انه مكث يقرض الشعر أكثر من ثلاثين سنة
طرق الشاعر عدة أنواع من الشعر وهي الغزل والخمريات والمدح والرثاء والتهاني والوصف والموشحات والأدوار. وإن القينا نظرة عامة في شعره وجدناه صادق الوصف منسجم السياق رشيق الأسلوب يحسن اختيار الالفاظ، موسيقي الأوزان، خفيف الروح فخم التراكيب، مسلسل المعاني متصلها، ولم نر في جميع ديوانه شيئا من الهجو، وهذا مما يدل على سمو أخلاقه.
ولغزله المكانة الأولى ولا سيما ما قاله في صديقه الفرنسي الذي سبق الكلام عنه، فانه يتأجج بعنيف العواطف والصراحة في القول ورقة التعبير ورشاقة الوصف. ومن أرق قوله فيه:
أدرها على زهر الكواكب والزهر ... وإشراق ضوء البدر في صفحة النهر
وهات على نغم المثاني فعاطني ... على خدك المحمر حمراء كالجمر
وموه لجين الكأس من ذهب الطلا ... وخضب بناني من سنا الراح بالتبر
وهاك عقوداً من لآلي حبابها ... فم الكأس عنها قد تبسم بالبشر
إلى أن قال في آخر القصيدة:: وفوق سنا ذاك الجبين غياهب ... من الشعر تبدو دونها طلعة البدر
ولما وقفنا للوداع عشية ... وأمسى بروحي حين جد السرى يسرى
تباكي لتوديعي فأبدى شقائقا ... مكللة من لؤلؤ الطل بالقطر
وقال فيه أيضا:
علقته لؤلؤي الثغر باسمه ... فيه خلعتُ عذاري بل حلا نسكي
ملكته الروح طوعا ثم قلت له ... متى ازديارك لي أفديك من ملك
فقال لي وحميا الراح قد عقلت ... لسانه وهو يثني الجيد من ضحك:
إذا غزا الفجَر جيشُ الليل وانهزمت ... منه عساكر ذاك الأسود الحلك
فجائني وجبين الصبح مشرقة ... عليه من شغف آثار معترك
في ُحلة من أديم الليل رصَّعها ... بمثل أنجمه في قبة الفلك
فخلتُ بدراً به حفت نجوم دجى ... في حندس من ظلام الليل محتبك
وافى وولى بعقل غير مختبل ... من الشراب وستر غير منهتك
ومن أروع ما قال فيه موشحه الذي عارض فيه موشح الشيخ حسن العطار الذي مطلعه:
أما فؤادي فعنك ما انتقلا ... فلم تخيرت في الهوى بدلا (فأعجب).
وهذا الموشح الذي يسيل رقة ورشاقة مخمس ومرفل. قال رحمه الله:
يهتز كالغصن ماس معتدلا ... أطلعَ بدراً عليه قد سدلا (غيهب)
ريم يصيد الاسود بالدعج
يسطو بسيف اللحاظ في المهج
يزهو لعيني بمظهر بهج
فكيف أبغي بحبه بدلا ... وليس عنه جار او عدلا (مهرب)
وضاح نور الجبين أبلجه
وردي خد زها توهجه
اليه شوقي يزيد لاعجه
فلست أصغي عذلا ... وعنه والله لا أتوب ولا (أرغب)
ألمي شهي الرضاب واللعس يزري غصون الرياض بالميس
يختطف اللب خطف مختلس
لو يحل الخصر نبتني أسلا ... من رام يوما اليه أن يصلا (يحجب)
قطع قلبي بحبه إربا
وصد عني فلم أنل إربا
أواه أواه منه واحربا!
أصلي فؤادي بخده وقلا ... وذبت وجداً به ولي قتلا (فاعجب)
مجوهر الثغر يلفط الدررا
بدمي فؤادي وخده نظرا
علّم عيني البكاء والسهرا
فانهل دمعي كالوبل وانهملا ... بالدم خدي عندما هطلا (خضب)
مولاي رفقاً بصبك الدنف
قد كدت أقضي عليك من أسف
تلاف روحي فقد دنا تلفي
من ريقك العذب اروني انتهلا ... وهات كأسي وطف بها ثملا (واشرب)
راحا سناها يضيء كاللهب
تبسم عن رطب لؤلؤ الحبب
عطر مازج ثغرك الشنب
بين رياض ومسمع غزلا ... على المثاني إذا شدا رملا (اطرب)
والورق من حسن صوتها الغرد
تميل قضب الرياض بالميد
وتوج الدوح لؤلؤ البرد
تاجاً من الدر نظمه كملا ... فكن من اللهو سالكاً سبلا (وادأب)
ومن درر نظمه خمريته:
أدر السلاف على صدى الألحان ... ودع العذولَ بجهله يلحاني واستجل بكر الراح في ظل الربى ... بين الرياض تزف والعيدان
شمس لها من فوق خد مديرها ... شفق الصباح إذا بدا الفجران
نور ولكن من سنا لآلائها ... في الخد نارُ فؤادها الولهانِ
نار لها في وجنتيه وكفه ... لهب به أعشو إلى النيران
من كف معتدل القوام كأنه ... قمر يلوح على غصين البان
نشوان من سكر الشباب يهزه ... من خمر فيه وراحه سكران
ومهفهف ماء الحياء بوجهه ... يزري بهي شقائق النعمان
إلى أن قال:
ليث العرين له تلفت جؤذر ... يفتر عن در على مرجان
متلأليء تحت الشعور جبينه ... كحسامة في غيهب الميدان
عربي لفظ أعجمي المنتمى ... هندي لحظ صائل بيمان
غصب النجوم فصاغهن أسنة ... وبفيه نظمها عقود جمان
والقصيدة طويلة والجزء الغزلي فيها يرجع إلى صديقه الفرنسي. ومن الطف قوله قصيدته التي يمدح بها السادات
وصلتك واضحة الجبين المسفر ... من بعد طول تمنع وتستر
قامت فخالست ازديارك قومها ... وتربصت سحراً هجوع السمر
وأنت ترنح كالغصين أماله ... نفس الصبا وتجر فضل المئزر
هيفاء يخجل لحظها وقوامها ... بيض الصفاح وكل لدن أسمر
ما أنس لا أنسى ليالي وصلها ... بين الرياض وحسن نغم المزهر
إلى أن قال:
من سادة ورثوا النبي وجاهدوا ... في دينه حق الجهاد الأكبر
من خير بيت من ذؤابة هاشم ... من معشر أكرم به من معشر
والقصيدة طويلة.
ومن أروع شعره قصيدة فقد مسودتها وراجعه فيها الشيخ حسن العطار فذكر له منها أحد عشر بيتا من وسطها ونسي الشاعر مطلعها وآخرها.
ولرب ليل قد أبيتُ بجنحه ... أطوى هضاب فدافد ووهاد
بأغر أجردٍ ضامر لكنه ... جلد العزائم عند كل جلاد
متعودا وطء الأسّنة في الوغى ... متجشما في الروع هول طراد
ظن السيوف جداولاً وعوامل ... المران أغصان النقا المياد
إلى أن قال:
متقلدا عَوَض السيوف عزائمي ... متسربلا بدل الدروع فؤادي
حتى بلغت أخا السماحة والندى ... وابن السراة السادة الأجواد
لقد فات الجبرتي أن يخبرنا عن ارتباط شاعرنا بعصر المماليك قبل دخول الفرنسيين وفترة الأربع سنين التي تولى الحكم فيها ولاة الأتراك، والعصر الذي عاشه في عهد ساكن الجنان محمد علي باشا.
وللمترجم له من النثر بعض مراسلات وتقاريظ مسجعة كعادة أهل عصره رحمه الله رحمة واسعة وألهم المصريين تخليد ذكره وإعلاء شأنه.