مجلة الرسالة/العدد 17/القصص
→ دائرة المعارف الإسلامية | مجلة الرسالة - العدد 17 القصص [[مؤلف:|]] |
بلياس ومليزاند ← |
بتاريخ: 15 - 09 - 1933 |
إلى الواحات الخارجة
جنة الصحراء الغربية
(وجزيرة الناعمين) في عرف قدماء المصريين
للأستاذ محمد ثابت
ولا تكاد تفتح عين جديدة الا رأيت آثار الرومان فيها فيجددون حفرها. والعين ملك لمن جد في البحث عنها وقام بتطهيرها، ويساهم كل فيها بنسبة ما بذل من مجهود ومال، وعلى هذه النسبة يستنبت جزء مما جاورها من الأرض، والحكومة لا تتقاضى الضرائب على مساحة الأرض المنزرعة فالناس أحرار يزرعون ما أرادوا منها، لكن الضريبة تجبى على طاقة العين بغض النظر عما يزرع حولها. فإذا ما ظهرت عين جديدة تشكل لجنة حكومية ثم يسوى مكان عند منفذ العين توضع في نهايته عارضة خشبية بعرض القناة فتعترض الماء الذي يطغى عليها ويتدفق فوقها ثم يقاس عمق هذا الماء فوقها وبحسب غزارته تقدر قوة العين قيراطا أو بعض قيراط والضريبة نصف جنيه عن كل قيراط، ومن العيون ما هو أقل من قيراط ومنها ما يبلغ عشرات القراريط. وفي ناحية باريز أكبر عيون الواحات وقوتها من 58 إلى 60 قيراطا، ويقال انها وحدها تستطيع ري مئات الفدادين، لكن أصحابها لا يستطيعون استغلالها كما يجب، لذلك تجمع من مائها الفائض مستنقع يمتد عشرات الكيلومترات كثر به البط والطير المائي، ولذلك يقصده الكثير وبخاصة الموظفين للهو والصيد.
وتقسيم ماء العين بين الشركاء عجيب أيضا، فان كان الملاك ثلاثة قسموا القناة الخارجة من منفذ العين ثلاثة أقسام، يجب أن تكون متلاصقة خيفة تبدد الماء بالرشح فيجري نصيب كل مالك إلى أرضه التي يشترط أن تكون مجاورة لأرض باقي الشركاء، وألا تزيد متراً واحدا عنهم، ويجب أن يزرع الجميع نوعا واحدا من الغلات، وإذا لم يسعف ذاك التقسيم كل حقل قسموا الري بالساعات، ففلان يروي عددا من الساعات مناسبا لنصيبه، وبعد ذلك يجيء دور صاحبه، وهكذا وإذا أقبل المساء وقف الري خيف على الماء الدافق من التبديد لذلك يرسل الماء إلى مستودع فسيح يدخر فيه إلى الصباح حين يروي الشركاء منه على النظام السالف إلى أرضهم المنخفضة عن مستوى ذاك المستودع، والأراضي حول العيون مدرجة الانحدار كي يصبح الري ممكنا، وكثيرا ما كنت أرى المجاري المتقاطعة يسير فيها الماء بعضه فوق بعض مسافات طويلة كل يستمد من عين خاصة به
وكلما مضت السنون على العين ضعفت لكثرة ما يتجمع حولها من رمال فيعاد تطهيرها، وكثيرا ما تقارب العين النضوب او ينفذ ماؤها، والعادة انه كلما خرج نبع جديد أغاض ماء غيره أو أنضبه.
واهم الزراعات: الأرز عماد غذاء الأهلين وهو صغير الحب أسمر اللون لكنه ألذ طعما من رزنا، وهو في الطبخ ينتفخ فيزيد حجمه كثيرا، ولعل أكبر مميزاته محصوله الوفير فمتوسط غلة الفدان بين 20و30 أردبا، وفي الأرض الجيدة يغل أربعين، على أنه يمكث في الأرض سبعة شهور، ولعل جودة ذاك المحصول العجيب راجعة إلى كثرة الجهد الذي يعانيه القوم في خدمته، فزراعته تتطلب عناء عظيما من ذلك: بلّ البذور بالماء الساخن وبذرها ونقل النبت وهو صغير من بؤرة في الأرض إلى غيرها وتلك العملية تتطلب المثابرة حتى يقارب النضج، أضف إلى ذلك استئصال الطفيليات، وفي الشهر السابع يبدأ الحصاد وخلال كل أولئك ينشر الفلاح السماد على الأرض أولاً من روث البهائم، وأخيرا من فضلات المراحيض، فتراهم جميعا يوالون رمي رماد (الفرن) في مرحاض البيت كل يوم وإذا ما انتهى العام جمع كل ذلك سمادا قويا يعاون على إنبات الأرز. وكلما حسنت الخدمة زاد طول السنبلة فحوت بين 90و110 حبة وضوعف المحصول وقد يبلغ الخمسين أردبا ولذلك يجري على ألسنتهم جميعا المثل القائل: (قل زرعك وأكرمه). وبعد تمام ري الأرز ينصرف الماء إلى المنخفضات لاستخدامه في ري القمح وهو الغلة التي تزرع بعد الأرز في الأرض الجيدة وحولها في الأراضي الرديئة يزرع الشعير ومحصولهما محصول أرض الريف.
ولما كانت زراعة الأرز أساسية ومدته طويلة وهو يتطلب ريا مستديما كثرت لذلك النقائع أغلب العام، فعاون ذلك على نشر البعوض وبخاصة في أغسطس وهدد بالملاريا التي كثيرا ما تنتشر هناك، ولذلك حاولت الحكومة منع زراعته والاستعاضة عنه بالأرز السبعيني لقصر مدته، ولما جربه القوم أنكروه بتاتا وذلك لقلة محصوله.
وكم أعجبت بنزعة القوم إلى التعاون في جل أعمالهم! ففي الزراعة مثلا لا يلجأون إلى إستئجار العمال خصوصا في موسم الحصاد؛ بل ترى فريقا يتنقل بكامل عدده إلى حقل الفريق الثاني وينجزون أعمال الحصاد متعاونين، وهؤلاء يقومون بدورهم في معاونة الفريق الأول إذا حل ميعاد العمل في منطقتهم، وتلك طريقة اقتصادية تبعث على العمل بنشاط وسرعة لا تتوافر في المأجورين، والناس هناك هادئو الطباع معروفون بالأمانة حتى أن صاحب النزل كان يترك الفندق مفتوحا بغير حراس رغم وحشة الليل وبعد المكان عن المدينة لأنه واثق أن ليس بين الناس من يحاول السرقة
غذاؤهم ومشربهم:
وعماد القوم في الغذاء الأرز يأكلونه مسلوقا ويضع الفقير عليه الزيت والغني المسلى وأحيانا يدق الزيتون كله ثم ينخل ويخلط سائله الزيتي الأسمر بالأرز فيكسبه لونا أسود وطعما لذيذا، وكثيرا ما يطبخ الأرز باللبن والملح. والأرز أساس وجبة الإفطار في الصباح والعشاء مساء. وهذه أهم الوجبات لديهم. يطهى في أوان كبيرة من الفخار أو النحاس. أما الخبز فلطعام الغذاء وهي أقل الوجبات أهمية يتناولونها في الحقول خارج بيوتهم.
ومن أشهر الأشياء لديهم الشاي والسكر والطباق. فهم يبتاعونها بالغلال عند بدء حصدها، والتجار يختزنون تلك الغلال ليبيعوها للقوم ثانية إذا نضب معينها عندهم
ولقد أسرفوا في تلك العادة حتى قيل أن الشاي أتلف كثيرا من صحتهم ومالهم لأنهم إذا شربوا عمدوا إلى الماء المغلي فصبوه على الشاي الذي يشغل بين نصف القدر (الغلاية) وثلثيه لذلك يصبح منقوعه أسود غليظا ثقيلا ويتناوله حتى صغار الأطفال. وتتكرر تلك العملية في مجلس الشاي ثلاث مرات، والناس يتناولون الشاي أربع مرات في كل يوم: عقب الأكلات الثلاثة مباشرة، والمرة الرابعة عند الأصيل، ولا يروقهم الشاي الخفيف قط، لذلك ترى الواحد منهم يضع قطرة منه على ظفره ثم ينكسه فان سقطت نفر منه ولم يشربه فهو لا يستملحه الا إذا حاكى العسل الاسود، والعجيب انهم يحلون ذلك بمقادير كبيرة من السكر. وأذكر أني أخذت صورة عجوز وناولتها قرشا فرجتني أن اشتري لها به بعض الشاي والسكر بدل النقود وأرسلت صبيها ليحمل ذلك إليها.
وأجمل مناظر الواحة تتجلى في بساتينها اليانعة تحيط بها أسوار وطيئة من الطين تحفها من أعلاها قحوف النخيل وتتخللها أبواب من الجريد صغيرة وبين تلك البساتين تمتد الطرق وتنساب قنوات الماء الدافق من العيون المجاورة، وأعظم غلات البساتين البلح والمشمش وكذلك البرتقال وهو من أحسن الأنواع حجما وطعما.
ومن أخطر ما يعانيه القومطغيان الرمال على البيوت والبساتينوالينابيع، لذلك تراهم يحتالون لمقاومتها، فالعيون يقام حولها بناء أسطواني، أو في زاوية مدببة حتى لا يتجمع الرمل خلفها ويطمرها. ويغلب أن يزرعوا خلفها صفا من الشجر وبرغم ذلك يغلبهم الرمل، وكلما أحاط بالشجر أو النخل استمر هذا في نموه السريع وعلا حتى إذا ما بلغ نهاية نموه طمرته الرمال فاختفى وعندئذ يهاجر القوم إلى ناحية أخرى، وكثيرا ما حدث ذلك في ناحية (جناح) من بلدانهم، وقد يطغى الرمل على البيت فأن قارب نهاية علوه فتح صاحبه في جداره بعض النوافذ فيتسرب الرمل إلى داخل البيت ويسده ثم يبني الرجل طابقا جديدا فوق الأول ليسكنه، وقد يتكرر ذلك إلى الطابق الخامس والسادس. وقص علي القوم أنه حدث مرة أن سيدة في المكس من قرى باريز أنامت طفلتها داخل البيت ولما عادت وجدت الرمال قد تسربت من ثقب فوقها فطمرتها وماتت. وهناك بعض الكثبان الزاحفة على المدينة قاس الناس سرعة تقدمها فكانت متراً في كل شهر.
ومن الحشرات المخيفة هناك العقارب، فهي توجد بكثرة مروعة على أن ضررها قليل ويظهر أن سمها أخف من سم العقارب التي في بلاد الصعيد، وفي بعض القرى هناك كالمكس لا تكاد ترفع قطعة من الطوب الا وترى أسفلها قد افترش بالعقارب، لذلك ترى الأهلين جميها إذا اقبل الليل خرجوا إلى كثبان الرمل العالية وأمضوا ليلتهم فيها ولا يجرؤ أحدهم أن يدخل الدار طيلة الليل خشية لدغاتها
ومما هو جدير بالذكر وبالاغتباط ما شاهدته من عناية محافظ الواحات بصوالح الناس، فهو دائما يفكر في خدمتهم وزيارة مواردهم، وقد أنشأ قسما مستحدثا في المدينة طرقه نظيفة مرصوفة تحفها الأشجار، وقد افتتح الطريق إلى أسوان لأول مرة، وعاون على فتح الطريق إلى أسيوط فقطعته السيارة في سبع ساعات وهناك طريق معبد إلى الواحات الداخلة تقطعه السيارات في ست ساعات، وآخر يسير شمالا إلى مرسى مطروح.
والمحافظ جاد في بناء مسجد فاخر فسيح الرحاب أحاطه بالمنتزهات.
والمستمد العام لماء الشرب نبع أحاطته الحكومة بالبناء تتخلله الأنابيب والصنابير وذلك محافظة على نظافة الماء أن تلوثه الأوساخ وتعبث الأيدي، يملأ منه السقاءون قربهم والفتيات جرارهم وهي مستطيلة الشكل كي تحملها الفتيات تحت أذرعهن لا فوق رؤسهن. والأواني من أخص صناعتها، وكذلك ضفر الأطباق والآنية من سعف النخيل يزينه نقش من الوبر والصوف الملون الجميل.
ومجهود القسم الطبي هناك عظيم، يقوم الطبيب بالعلاج وبصرف الدواء مجانا ويعالج المرضى في مستشفى كبير زود بأحدث الوسائل وهو في ناحية من المدينة بولغ في تجميلها وتنسيق حدائقها.
ذلك بعض ما شاهدته في الواحات الخارجة التي ستظل ماثلة أمامي أذكرها بالخير دائما. ولقد أسفت لأني لم أستطع زيارة الواحات الداخلة التي يقول عنها جيرانها بأنها أعم خيرا وأفسح مدى، سكانها يناهزون ثمانية عشر الفا، أعني ضعف سكان الخارجة وأني لأرجو أن أوفق زيارتها في يوم قريب.
محمد ثابت