مجلة الرسالة/العدد 169/المرأة المسلمة
→ الفخر في شعر أبي الطيب | مجلة الرسالة - العدد 169 المرأة المسلمة [[مؤلف:|]] |
نزهات في الخريف ← |
بتاريخ: 28 - 09 - 1936 |
في القرن التاسع للهجرة (الخامس عشر للميلاد)
بقلم الآنسة نعيمة المغربي
تطلع علينا مكتبة الأديب السيد حسام الدين القدسي بالقاهرة من حين إلى آخر - بطائفة صالحة من الكتب العربية القديمة، فينبش كنوزها الدفينة، ويعرض جوهرها على أنظار عشاق الأدب، وهواة لغة العرب، وهي خدمة موفقة يضطلع بها الأديب المذكور، ويقصد من ورائها خدمة ثقافتنا العربية القديمة وأبنائها الذين يقدرون حسن اختياره وحميد مجهوده. من ذلك أنه باشر طبع كتاب (الضوء اللامع) في تراجم رجال القرن التاسع تأليف المحدث الكبير والمؤرخ النقادة شمس الدين السخاوي؛ وهذا الأثر من أعظم آثار السخاوي وأكثرها شهرة، يقع في عدة مجلدات ضخمة، ظهر منها إلى اليوم اثنا عشر جزءا. وقد خص المؤلف الجزء الثاني عشر من كتابه بتراجم نساء القرن التاسع. وكثيراً م اقتصر على اسم المترجمة وتاريخ ولادتها ووفاتها والإجازة التي تلقتها من شيوخها إن كن ثمة إجازة. ومع هذا فالباحث يستطيع أن يستخرج من (الضوء) فوائد جمة ذات قيمة تزداد وضوحاً كلما أوغل المطالع في مطالعته وازداد للمؤلف صحبة في تتبع أخبار من ترجم من نساء عصره، فهو يقع من وقت إلى آخر على حوادث طريفة وفوائد ممتعة من أحوال نساء ذلك العهد.
والكتاب يشتمل على ترجمة ألف امرأة ونيف؛ وهو عدد كبير لا يسعه كتاب واحد لو أن المؤلف توخى الإسهاب والإطالة، ولكنه لجأ إلى الإيجاز وإهمال التفاصيل كما مر. ولا أعرف السبب الذي حدا بالمؤلف رحمه الله إلى ذكر بعض نساء عصره م دام أنه لم يظفر من أخبار حياتهن بما يستحق الذكر والتدوين. وكنت أرجع أحياناً إلى كتاب (شذرات الذهب) بغية زيادة الاستيثاق من ترجمة بعض من ترجم المؤلف لهن، فأجد صاحب (الشذرات) أيضاً قد نحا منحى (صاحب الضوء) في الاختصار والاقتصار على الاسم والوفاة. ولعل عذر المؤلفين في ذلك أن نساء عصرهم كن ذوات حياة مختصرة فتبع ذلك اختصار في الترجمة، وقد يكون السبب في ترجمة هؤلاء في (الضوء اللامع) أنهن يمتتن إلى مؤلفه بقرابة أو تلمذة أو جوار أو صداقة والد؛ كما لمحنا ذلك في تراجم كثيرات منهن.
وما يدرينا أن بعضهن كن يكلفنه ترجمتهن حباً لتخليد ذكرهن ولو بالاقتصار على اسمهن، وهذا كما يفعل بعض نساء زماننا؛ (بل وبعض رجاله) إذ يرغبن إلى رجال الصحافة أن يذكروهن في صحفهن مباهاة بين أترابهن.
وعلى كل فأن هذا الجزء روض نسائي حافل بشتى أنواع الأزهار والرياحين؛ تقرؤه بلذة وشغف، إذ تتوفر لديك فيه النماذج المتنوعة عن المرأة المسلمة في ذلك العهد الذي ساد أو بدأ يسود فيه الانحطاط. ولعل أبرز طابع في (الضوء) هي الصراحة التي امتاز بها المؤلف في معظم ما كتب وخلد من أثر، وفي هذه الصراحة ما يشوق القارئ ويُغريه بالمطالعة ومرافقة المؤلف إلى النهاية.
أتى المؤلف على طائفة كبيرة من نساء عصره وعرض علينا من أحوالهن وجوهاً مختلفة وأشكالاً متعددة ونفسيات متباينة وعقليات متغايرة. فمنهن المحدثة العالمة، والحافظة البارعة؛ ومنهن التقية الورعة والمحتسبة الصابرة؛ ومنهن الحبشية السوداء والجركسية الحسناء، ومنهن سليلة الملوك والسلاطين؛ ومن أثر فيها كيد الحاسدين وسحر الساحرين. يذكرهن لنا كما عرفهن ووصلته أخبارهن. وكثيرات منهن عاصرن المؤلف وكن من المعجبات به المعتقدات بسعة فضله وغزارة علمه.
ففي القرن التاسع للهجرة كانت المرأة المسلمة في مصر والشام برغم ما يعزى إليها من تأخر تتلقى عن الأئمة ويتلقون عنها. يجيزها العلماء وتجيزهن؛ يناظرها الأدباء وتناظرهن؛ تحفظ دواوين الشعر وتروي عن الشعراء؛ ذات فكر ثاقب وقريحة نيرة ورغبة ملحة في التحصيل، لا يعتريها سأم ولا ملل في طلب العلم والأخذ عن أساطينه، وحفظ كتب الفقه والأدب، ودواوين الشعر والمذاكرة فيها.
ومما يلحظه المطالع أن معظم نجوم (الضوء) لمعن في سماء مصر وتفيأن ظلال نخيلها وارتوين من ماء نيلها؛ واغترفن من بحار علومها. وقد أحببت أن أحصي الشواعر فلم أظفر بسوى واحدة نظمت الشعر وكان بينها وبين المؤلف وسواه من العلماء مساجلة ومناظرة، فهي تشبه من هذه الجهة شاعرة الشام في القرن العاشر للهجرة لسيدة عائشة الباعونية المدفونة في صالحية دمشق. ومن هنا يتبين أن إقبال النساء على قرض الشعر في ذلك العصر أعني القرن التاسع كان قليلاً، وكانت جل رغبتهن يومئذ في تلقي علوم الحديث وروايته. وللبيئة - ولا ريب - أثر في خلق هذا الميل فيهن وطبعهن بهذا الطابع.
والشاعرة الوحيدة التي ذكرها (السخاوي) وترجمها ترجمة مفصلة هي (فاطمة) المشهورة بلقب (ستيتة) ابنة القاضي كمال الدين محمود بن شيرين الحنفي. قال المؤلف ما نصه:
(ولدت كما كتبته لي بخطها في سادس المحرم سنة خمس وخمسين وثمانمائة بالقاهرة ونشأت فتعلمت الكتابة وتزوجت الناصري محمد بن الطلبغا ثم مات عنها فتزوجها العلاء علي بن محمد ابن بيبرس حفيد ابن أخت الظاهر برقوق فاستولدها بيبرس، ولاحظ لها في ذلك مع براعتها في النظم وحسن فهمها وقوة جنانها حتى كانت فريدة فيما اشتملت عليه. وقد حجت وجاورت وسكنت بجوارنا. ومما كتبت به إلي بعد مجيء الخبر بموت أخويَّ من نظمها:
قفا واسمعا مني حديث أحبتي ... فأوصاف معناهم عن الحسن جلت
أناس أطاعوا الله نارت قلوبهم ... وأيصرت الأشياء من غير نبأة
وقد كوشفوا عن كل ما أضمر الفتى ... ونارت قلوب منهم ببصيرة
ومنها:
أثابكم ربي وعظم أجركم ... على فقد أحباب وأحسن جيرة
كرام سموا علماً وحلماً وسؤددا ... وكنتم بهم في غبطة ومسرة
قطعتم لذيذ العيش وصلاً بقربهم ... فوا أسفا عند الفراق وحسرة
ومم كتبه إليها المؤلف مجاوباً: (يا بديعة المعاني، ورفيعة المباني، ومن فاقت الكثير من الرجال فضلاً عن النساء، وراقت أبياتاً فحاكت الخنساء؛ حفظ الله تعالى دينك ودنياك الخ).
ولها أشعار كثيرة وقصائد مطولة تدل على مبلغ اجتهادها في تحصيل العلم والأدب. ولها أيضاً مطارحات شعرية مع بعض الأدباء رجحوها بها عليهم.
ومما يستحسن ذكره ومرت الإشارة إليه أن المؤلف ذكر ترجمة موجزة لبعض قريباته: منهن جدته وعمته وابنة شقيقه وأخته بالرضاع ووالدة امرأته التي أصيبت بالفالج وماتت عقب ذلك لدى سماعها خبراً مكذوباً عن وفاة المؤلف وابنتها زوجته وهما في الحج. وكذلك جاريته (أبرك) الحبشية (التي كانت ضابطة لبيتهم قانعة صافية).
ومن يتأمل الكتاب وتراجم نسائه يلمح وقوع أمور في ذلك العصر لا يزال يقع مثلها في عصرنا الحاضر مع تقادم العهد وتطاول الزمن: فمن هذا القبيل:
(سعادات) ابنة الشيخ نور الدين البوشي. تزوجها البقاعي بعد موت والدها ونالها منه من الذل ما لم يكن لها في حساب، بل نال طلبة أبيها من أجل مساعدتها ما شاء الله، وكذا مس أخاها منه كل سوء فلم تحتمل وسألته الطلاق بعد ولادتها منه وأشهدت عليها أنها متى رامت نظر الولد أو أخذه كانت ملتزمة بخمسمائة دينار، وسمحت بمفارقة ولدها ومهجتها مع مزيد حبها له). وكذلك (فاطمة) ابنة الحنبلي تزوجها سبط العز الحنبلي عز الدين محمد بن الشهاب الجوجري فلم يحصل التئام ففارقهما بعد بذل له وإبراء).
وما كان المؤلف ليحجم عن انتقاد ما يجب انتقاده من أحوال مترجمات كتابه:
(إلف) ابنة القاضي علم الدين البلقيني، تزوجها عبد القادر ابن الأحمدي، ثم عبد القادر بن الرسام الحموي، ثم أمير المؤمنين المستنجد بالله يوسف، ثم فارقها واتصلت بابن عمها البدر أبي السعادات بعد موت زوجته أختها وأقبلت حينئذ على الخير وقررت في مدرسة جدها عند قبره قرّاء في كل يوم، وقامت بأمر المدرسة وبتفقد الفقراء والأرامل، وتزايد ذلك بعد موت ولدها حتى صارت فريدة في أقربائها وأمثالها، ورتبت قرّاء يقرءون عندها الحديث والتفسير)، إلى أن يقول: (ولا أحمد كثيراً من تصرفاتها خصوصاً فيما يتعلق بالأيتام).
وكنا نرغب لو أن المؤلف كان أكثر إيضاحاً فيذكر لنا ما لم يعجبه من تصرفاتها وهي التقية الصالحة التي زخرت حياتها بعمل البر والإحسان.
وقد قص علينا حادثة لعب فيها السحر دوره، وذهب ضحيته نفسان بريئتان لا نعلم مبلغ التهمة المنسوبة إليهما من الصحة.
(شيرين) الرومية، هي أم الملك الناصر فرج بن برقوق، ولما تسلطن ابنها صارت (خوند الكبرى) وسكنت قاعة العواميد بقلعة الجبل بعد أن تحولت منها (خوند ازد) زوجة سيدها، ولم تلبث إلا يسيراً حتى تعللت ولزمت الفراش، وكثرت القالة بسببه، واتهم جماعة بسحرها، وظن ابنها أن ذلك من بعض الخوندات زوجت أبيه وبغضاً، لأنها مع كونها بارعة الجمال سارت سيرة جميلة من الحشمة والرياسة والكرم مع الاتضاع الزائد والخير والدين. ولها معروف ومآثر حسنة، جدّدت بمكة رباط الخوزي ووقفت عليه وقفاً وأصلحت ما كان تهدم منه. ماتت في ذي الحجة سنة اثنتين وثمانمائة ودفنت بالمدرسة البرقوقية رحمها الله. ذكرها شيخنا في (إنبائه) باختصار وقال: (كانت كثيرة المعروف والبر). زاد العيني: (واتهمت جارية بسحرها فضربت حتى اتهمت نصرانياً كاتباً فعوقب فلم يقرّ فحبس حتى مات هو والجارية).
وما زال هذا الضعف الخُلقي في الخوف من السحر والاعتقاد به سائداً إلى اليوم في الأقطار العربية على اختلاف بينها في درجة ذلك، وحوادث ملوك الجان، ما زالت ترن في الآذان.
والكتاب مفيد لا تمل قراءته ولا تسأم صحبته. فهو كالبستان فيه من كل فاكهة زوجان، وما أحوجنا إلى مطالعة أمثال هذه الكتب التي ترينا صورة واضحة جلية عن حياة نساء تلك العصور وتطلعنا على درجة ثقافتهن، وطريقة تعلمهن. والكتب في تراجم النساء مما تركه لنا السلف قليلة جداً وهذا منها، ولا تنس الجزء الثامن من طبقات ابن سعد الخاص بالصحابيات رضوان الله عليهن.
(دمشق)
نعيمة المغربي