الرئيسيةبحث

مجلة الرسالة/العدد 169/الفخر في شعر أبي الطيب

مجلة الرسالة/العدد 169/الفخر في شعر أبي الطيب

مجلة الرسالة - العدد 169
الفخر في شعر أبي الطيب
[[مؤلف:|]]
بتاريخ: 28 - 09 - 1936


للأستاذ طه الراوي

عضو المجمع العلمي العربي

نريد أن نتحدث عن أبي الطيب، ولكن هل غادر المتحدثون عنه من متردم؟ ماذا نقول في شاعر ملأ الدنيا وشغل الناس من متقدمين ومتأخرين، بله المعاصرين، من بين مادح وقادح، ونقد وشارح، حتى كان من ازدحام أولئك الأعلام حول هذا المنهل أن ازدهرت خزانة الأدب بعشرات الأسفار، فهل من جديد نقوله؟ هذا ما جال في خاطري عندما تلقيت دعوة لجنة المهرجان المحترمة.

على أنه لابد من القول، فلابد من اختيار ناحية من نواحي شاعرنا والتحدث عنها، فإن وفقت إلى جديد فهو الهدف، وإلا فقد أبلغت عذراً. لا خلاف في أن أبرز نواحي أبي الطيب وأبرعها جمالاً وأروعها جلالاً هي العظمة؛ وقد صورها لنا بشعره أبرع تصوير وأروعه، وقد فخر في ذلك ما شاء وشاءت عبقريته، فليكن موضوعنا إذن: (الفخر في شعر أبي الطيب).

والفخر في شعر هذا الناقم الثائر جذوة من نفه ونفحة من روحه، بل هو ترجمان طموحه، أو قل هو ذوب نفسه الكبيرة، تارة يتألف قولاً وطوراً يتمثل فعلاً.

ومن ثم جاء هذا الضرب من شعر شاعرنا مطبوعاً بطابعه الخاص، بعيداً من التكلف والتعسف، بريئاً من كثير من العاهات التي علقت بغيره من شعر أبي الطيب، ولا يدانيه في ذلك إلا الوصف، ووصف المعارك خاصة، وكل ما يتصل بالرجولة والبطولة.

ويرى المخلفون الرعاديد أن الفخر ضرب من ضروب العجرفة الفارغة والجبروت الكاذب، وتلك خديعة طباعهم الخاملة، وسجية نفوسهم الخانعة المستخذية التي تستمرئ الهون، وتقنع بالدون. أما النفوس المجبولة من طينة الشرف فتأبى إلا مساماة النجوم ومغالبة الخصوم، ذلك لأن الله برأها حرة فلا تلين للذلة، ولا تدين بالقلة، والعربي مجبول على الأباء والأنفة، مفطور على العزة وسمو الهمة والطموح إلى معالي الأمور.

وبهذه السجايا أحرز ما أحرز في ماضي الزمان من عظمة الشأن وبسطة السلطان.

وقد افتخر سيد ولد آدم عليه السلام في غير ما موقف، وهو القائل في بعض مواقفه الحربية:

أنا النبي لا كذب ... أنا ابن عبد المطلب

وهذا داهية بني حرب يقول: وضعت رجلي في الركاب يوم صفين للهرب، فتذكرت قول ابن الاطنابة:

أبت لي همتي وأبى بلائي ... وأخذي الحمد بالثمن الربيح

وقولي كلما جشأت وجاشت ... مكانك تحمدي أو تستريحي

فانثنيت عما أنا في سبيله.

ولعمري ما أُخذنا في عصورنا المتأخرة إلا من ناحية تلك الفلسفة السقيمة العقيمة، فلسفة الاستكانة والتماوت التي تسربت إلينا من بثوق المغلوبين على أمرهم، المفجوعين بحريتهم، المصابين بعزتهم وأنفتهم؛ ثم جاء الطامعون بنا فنفخوا في نارها، وضاعفوا من أضرارها، إلى أن أصبحنا نخاف من كل شيء حتى من أنفسنا، ونرى يومنا أسوأ من أمسنا.

فإذا أردنا أن نعيد سيرة أولينا جذعة، فعلينا أن نغذي نفوس ناشئتنا بكل ما من شأنه أن يغرس فيها الشمم والطموح إلى معالي الأمور والترفع عن دناياها، وإرخاص الحياة في سبيل العز، والاعتقاد بأن الحياة بغير الحرية ضري من ضروب الموت الخفي؛ والشعر الفاخر أو الفخر الشاعر من أجدى الأغذية النفسية وأنجع الأدوية الروحية.

ودوحة الفخر في شعر أبي الطيب كثيرة الأفنان، باسقة الأغصان؛ وموقفنا هذا المحدود بالدقائق أضيق من أن يتسع للإحاطة بجميع أطراف هذا الموضوع فلا بد من الاقتصار والاختصار. وليكن اقتصارنا على غصنين هما أكثر تلك الأغصان أزهاراً وأينعها ثماراً، وهما إمامته الأدبية، وأمنيته السياسية.

نشأ أبو الطيب صباً بالمعالي متيماً بها، لا يفارقه طيفها سُرىً أمامه وتأويباً على أثره. وتمثلت له أمنيته بالسيادة والملك فكان يبغي أن يقهر العتاة من جبابرة عصره، ويديل للعرب من أولئك الموالي الذين تسنموا العروش من طريق الختل والغدر.

وإنما الناس بالملوك ولا ... تُفلح عرب ملوكها عجم

بكل منصلت ما زال منتظري ... حتى أدلت له من دولة الخدم أيملك الملك والأسياف ظامئة ... والطير جائعة لحم على وضم

نبتت هذه الأمنية في رأس أبي الطيب من يوم عرف نفسه، وملكت عليه مشاعره واستبدت براحته، ولم تزل تطوح به من بلد إلى بلد حتى لفظ نفسه وسكن رمسه.

وكان لها فاتحة شعره وخاتمته. قيل له وهو في المكتب ما أحسن هذه الوفرة! فقال:

لا تحسن الوفرة حتى ترى ... منشورة الضفرين يوم القتال

على فتى معتقل صعدة ... يَعُلها من كل وافي السبال

وقال من قصيدة هي آخر ما نظم، وقد وجدت في رحله بعد قتله:

سدِكت بصرف الدهر طفلاً ويافعاً ... فأفنيته عزماً ولم يُفني صبراً

أريد من الأيام ما لا يريده ... سواي ولا يجري بخاطره فكرا

وأسألها ما استحق قضاءه ... وما أنا ممن رام حاجته قسرا

انظر كيف تبادرت هذه الأمنية في نفسه حتى أصبح يراها من حقه الذي لا ينبغي أن يغالب عليه.

ولي همة من رأى همتها النوى ... فتركبني في عزمها المركب الوعرا

تروق بنى الدنيا عجائبها ولي ... فؤاد ببيض الهند لا بيضها مغرى

ومن كان عزمي بين جنبيه حثه ... وخيّلَ طول الأرض في عينه شبرا

صبحت ملوك الأرض مغتبطا بهم ... وفارقتهم ملآن من حنق صدرا

ولما رأيت العبد للحر مالكا ... أبيت إباء الحر مسترزقاً حرا

إلى أن قال:

فإن بلغت نفسي المنى فبعزمها ... وإلا فقد أُبلغت في حرصها عذرا

الملك هدف أبي الطيب، ولكن المسالك اشتبهت عليه؛ فتارة يسلك طريق البراعة في اليراعة، وطوراً يرى طريق السيف أهدى وأجدى، وحيناً يرى أن المال هو الذي يجمع عليه الرجال، وآناً يرى السبيل أن يتولى عملاً لبعض الملوك، ثم يجعله مركزاً لحركته ونواة لمملكته.

فهو في هذه السبل إلى أن لقي مصرعه.

وقد جرب الثورة الحمراء في مقتبل عمره فأخفق، وعاد ممتطياً صهوة البيان، يغالب الأقران ويصارع أحداث الزمان، وتغزوه الرزايا من كل مكان، وهو معتصم بالصبر ثابت العزم.

كان شاعرنا قوي الثقة بمكانته البيانية منذ حداثته، يقول في صباه:

إن أكن مُعْجباً فعُجْب عجيب ... لم يجد فوق نفسه من مزيد

أنا ترب الندى ورب القوافي ... وسِمام العدا وغيظ الحسود

وقال:

أنا صخرة الوادي إذا ما زوحمت ... وإذا نطقت فأنني الجوزاء

وإذا خفيت علي الغبى فعاذر ... ألاّ تراني مقلة عمياء

ولما تكاثر حساده واحتشدوا له وأسمعوه مر الهجاء قال:

أرى المتشاعرين غروا بذمي ... ومن ذا يحمل الداء العضالا

ومن يك ذا فم مر مريض ... يجد مرا به الماء الزلالا

وقل لعلي بن أحمد الأنطاكي:

دعاني إليك العلم والحلم والحجا ... وهذا الكلام النظم والنائل النثر

وما قلت من شعر تكاد بيوته ... إذا كتبت يبيض من نورها الحبر

كأن المعاني في فصاحة لفظها ... نجوم الثريا أو خلائقك الغر

ويقول للقاضي أبي الفضل الأنطاكي:

لا تجسر الفصحاء تنشد ههنا ... بيتاً ولكني الهزبر الباسل

ما نال أهل الجاهلية كلهم ... شعري ولا سمعت بسحري بابل

ويقول لأبي العشائر:

شاعر المجد خدنه شاعر اللف ... ظ كلانا رب المعاني الدقاق

ونظر إلى من حوله من شعراء سيف الدولة وفيهم الصفوة من سحرة ذلك العصر فلم يعتبرهم شيئاً مذكوراً:

خليلي إني لا أرى غير شاعر ... فَلِمْ منهم الدعوى ومني القصائد

ويقول عن سيف الدولة:

إذا شاء أن يلهو بلحية أحمق ... أراه غبارى ثم قال له الحقِِ وقد لحظ في شعره عناصر الخلود فقال:

وما الدهر إلا من رواة قصائدي ... إذا قلت شعراً أصبح الدهر منشدا

على أن اعتداد شاعرنا بإمامته في البيان لم يشغل باله كثيراً، إذ كان يقينه بهذه الإمامة أقوى من أن يحتاج إلى الجدال والنضال إلا حين يبخسه حقه بعض الشعراء، أو يغفل عنه بعض الأمراء، فينبه هذا ويجيب ذاك؛ وإنما الشغل الشاغل لذهنه تلك الأمنية التي عقد بها فكره وحبس عليها جهده، ومارس منها معشوقة خلابة جذابة، ولكنها لا تلين بحال، ولا تدين بوصال؛ فأكثر من التغني بها وهي لاهية عنه بالسود التنابيل:

سيصحب النصل مني مثل مضربه ... وينجلي خبري عن صِمَّة الصِّم

لقد تصبرت حتى لات مصطبر ... فالآن أقحم حتى لات مقتحم

إلى أي حين أنت في زي محرم ... وحتى متى في شقوة والي كم

وإلا تمت تحت السيوف مكرماً ... تمت وتلاق الذل غير مكرم

فثب واثقاً بالله وثبة ماجد ... يرى القتل في الهيجا جني النحل في الفم

أعجب الأدباء بامرئ القيس حيث يقرن في شعره بين معاطاة الكؤوس ومشهد الحرب الضروس؛ قالوا: وهذا غاية في الشجاعة. أما شاعرنا فقد خلف امرأ القيس وراءه، وقصر كل لذته على اصطدام الصفوف بالصفوف ومقارعة الحتوف بالحتوف. طلب إليه بعض أصحابه أن يشرب معه فقال:

ألذ من المدام الخندريس ... وأحلى من معاطاة الكؤوس

معاطاة الصفائح والعوالي ... وإقحامي خميساً في خميس

فموتي في الوغى عيشي لأني ... رأيت العيش في أرب النفوس

وقال في مثلها:

لأحبتي أن يملأوا ... بالصافيات الأكْوُبا

وعليهم أن يبذلوا ... وعلي ألا أشربا

حتى تكون الباترا ... ت المسمعاتِ فأشربا

وقال:

ألا حبذا قوم نداماهم القنا ... يُسَقونها رياً وساقيهم العزم وكثيراً ما كان يفسح لهذا المطمح مجالاً في صدور قصائده التي يمدح به أمراء زمانه، وبذلك يتنكب نهج لشعراء في تصدير قصائدهم بالغزل ويتغزل هو بقدود الرماح وبيض الصفاح، ويتغنى بالجلاد والكفاح، فكأنه يقول لهم: لكم ليلاكم ولي ليلاي ولكل أن يتغزل بحبيبته. قال في صدر قصيدة يمدح بها علي بن أحمد الأنطاكي:

أطاعن خيلا من فوارسها الدهر ... وحيداً وما قولي كذا ومعي لصبر

وأشجع مني كل يوم سلامتي ... وما ثبتتْ إلا وفي نفسها أمر

تمرست بالآفات حتى تركتها ... تقول أمات الموت أم ذعر الذعر

ولا تحسبن المجد زقاً وقينة ... فما المجد لا السيف والفتكة البكر

وتضريب أعناق الملوك وأن ترى ... لك الهبوات السود والعسكر المجر

وفي صدر أخرى يمدح بها علي بن أحمد المري:

ل افتخار إلا لمن لا يضام ... مدرك أو محارب لا ينام

أقراراً ألذ فوق شرار ... ومراماً أبغي وظلمي يرام

دون أن يشرق الحجاز ونجد ... والعراقان بالقنا والشام

ولم يفارقه هواه في ليلاه بعد أن حل بكنف سيف الدولة ووجد فيه ذلك الملك الهمام، ملء العين والسمع والفؤاد، فهو ذا يقول:

ولقد ذخرت لكل أرض ساعة ... تستجفل الضرغام عن أشباله

تلقى الوجوه بها الوجوه وبينها ... ضرب يجول الموت في أجواله

أما في مصر فقد صانع الأسود أولاً ثم لما أعياه أمره نفث من سمه ما شاء، وفارقه على تلك الحال المعلومة، حتى ضمته الكوفة إلى صدرها، وهناك أملى قصيدته المشهورتين المقصورة والميمية، وأودعهما ذلك اللهيب المتأجج، فمن قوله في الثانية:

ما زلت أضحك إبلى كلما نظرت ... إلى من اختضبت أخفافها بدم

أُسيرها بين أصنام أشاهدها ... ولا أشاهد فيها عفة الصنم

حتى رجعت وأقلامي قوائل لي ... المجد للسيف ليس المجد للقلم

أكتب بنا أبداً بعد الكتاب به ... فإنما نحن للأسياف كالخدم

وهنا كرر إيمانه بهذه الحقيقة: أسمعتني ودوائي ما أمرت به ... فإن غفلت فدائي قلة الفهم

وهذا الإيمان لم يمنع شاعرنا من ارتياد عضد الدولة وامتداحه؛ فهل نتهمه بقلة الفهم على حد تعبيره هو؟ لا. والذي يلوح لنا من منطق الحوادث أن شاعرنا رأى يده فارغة وأن الإقدام على الثورة يتطلب رجالاً، ولا رجال في مثل ظروف شاعرنا إلا بالمال، فانطلق يلتمسه في مواطنه؛ ويظهر أنه جاء بما فيه البلغة، ولكن المنية حالت دون الأمنية، ولنا على هذا كلام يضيق الوقت عن بسطه.

والمال في نظر أبي الطيب إنما هو وسيلة إلى غيره، وقد اتهمه بعض حساده بالشح وفي طليعتهم أبو بكر الخوارزمي ذلك الشتامة الذي لم يسلم من أوضار لسانه إلا القليل.

وحالة شاعرنا تنطق ببراءته من هذه التهمة. أما أقواله فبرهان آخر:

وما حاجتي في عسجد أستفيده ... ولكنها في مفخر استجده

غَثاثة عيشي أن تغث كرامتي ... وليس بغث أن تغث المآكل

ومن ينفق الساعات في جمع ماله ... مخافة فقر فالذي فعل الفقر

بقى علينا أن نسأل من أين تسربت هذه الفكرة إلى رأس أبي الطيب؟ والجواب أن لنفسه المجبولة على التعالي أقوى نصيب في تكوين هذه الفكرة وتغذيتها وتنميتها، فقد خلق شاعرنا شجاع لقلب، أبي النفس، حمي الأنف، خصيب العقل، ملتهب الفطنة، فياض العاطفة، صباً بمعالي الأمور زاهداً في سفسافها.

والعامل الآخر في هذه الفكرة الأوضاع السياسية في البلاد الإسلامية يومئذ، فقد كانت هذه البلاد مسرحاً للفتن والدسائس، ونهباً مقسماً بين رجال الثورات وأرباب الدعوات وأهل الختل والغدر، وقد ساهم في ذلك حتى العبيد، وحسبك بكفور على ذلك مثالاً فقد صار:

يدبر لأمر من مصر إلى عدن ... إلى العراق فأرض الروم فالنوب

فما بالك بفتى يعربي توفرت فيه كل أسباب السيادة ومزايا الرياسة؟

ولكن ما الحيلة وقد كبا به جده دون الغاية، وحالت المنية دون الأمنية؟ ولا ضير فقد سعى وليس عليه إدراك النجاح.

على أن الجد الذي خانه في ميدان السياسة، حلق به في سماء المجد الأدبي فأطلعه فيها شمساً تفيض بالنور على مر الدهور؛ وإن أخطأته إمارته السياسية فقد اعتزت به إمارته الأدبية، وتلك فانية لأنها تدور حول الحطام، أما هذه فباقية على مر الأيام.

طه الراوي