مجلة الرسالة/العدد 167/صور سياحة
→ القطط | مجلة الرسالة - العدد 167 صور سياحة [[مؤلف:|]] |
مهداة إلى الأستاذ دريني خشبة ← |
بتاريخ: 14 - 09 - 1936 |
ليلة في براتر
بقلم (سائح متجول)
للمدن العظيمة كما للأفراد روح وخواص معنوية تحدث أثرها في النفس؛ وللمدن العظيمة أيضاً ذكريات وتقاليد تنم عن هذه الروح والخواص، ومن خواص مدينة فينا أنها تتمتع بجاذبية مدهشة تنبعث من جميع مظاهرها وحياتها العامة؛ وللعاصمة النمساوية ماض باهر حافل بالذكريات العظيمة، وإذا كانت صروف الحرب والسياسة قد أسبلت على هذا الماضي الباهر سحابة من النسيان فإن المدينة التالدة ما زالت تحتفظ بهذا الروح المرح الجذاب الذي عرفته أيام المجد، في ظل إمبراطورية عظيمة، وفي ظل دولة الفن والموسيقى الزاهرة أيام أن كان يطربها ويشجيها ويبكيها آنا بعد آخر آلهة الفن الرائع: موتسارت وشوبرت ويوهان شتراوس.
وما زالت فينا برغم جميع الأحداث والمحن تفيض بالذكريات الحافلة، وما زال الروح النمساوي يرقرق نحو الماضي ويستوحيه ويستمد من تراثه كثيراً من آيات الظرف والأناقة والسحر؛ والخلق النمساوي يجنح بطبعه إلى الأدب الجم والرقة المتناهية؛ وإنك لن تشعر في أية عاصمة أوربية أخرى بما تشعر به في العاصمة النمساوية من آيات الترحيب وحسن الوفادة ورقة الشمائل والخلال.
ومن ربوع فينا وذكرياتها العزيزة حي (براتر) ومن ذا الذي لم يسمع باسم براتر من زوار العاصمة النمساوية، بل من ذا الذي لم يجذبه ذلك الحي المرح الضاحك الذي كان أيام الإمبراطور مرتع الأمراء والنبلاء، والذي ما زال مرتع الشباب والحداثة من كل الطبقات؟ إن حي براتر يمثل ناحية خاصة من حياة العاصمة النمساوية؛ ومع أنه حدث في روحه ومظاهره، فإنه ما زال من أشد الربوع والمعاهد إعراباً عن روح فينا الحقيقية. وإن أولئك الذين يعرفون كم تعبر أحياء مونمارتر وميجال ومونبارناس عن الحياة الباريسية الشعبية يستطيعون أن يفهموا كم يعبر حي براتر عن ذلك الجانب من حياة العاصمة النمساوية.
وليس حي براتر في الواقع أكثر من مجموعة كبيرة من الألعاب والملاهي الغريبة؛ ولقد عرفت القاهرة في بعض المناسبات شيئاً من هذه الملاهي باسم (لونابرك)، وكان آخرها م نظم في الشتاء الماضي أيام المعرض الزراعي؛ ولكن ما نشهده نحن في القاهرة من هذه الألعاب والملاهي ليس إلا جزءاً يسيراً مما يضمه حي براتر من الأندية والمسارح المختلفة التي تعرض فيها أحدث وأغرب الألعاب والمناظر البهلوانية المدهشة التي يطبعها جميعاً طابع المرح والحداثة والدعابة.
وفي براتر يجتمع أخلاط المجتمع من جميع الطبقات؛ ذلك أنه يضم فضلاً عن الملاهي والألعاب الكثيرة، طائفة من المقاهي والمطاعم الأنيقة التي يرتادها زوار الطبقات الرفيعة، ويقصدها المحبون ليعتكفوا في أركانها ومخادعها، ولينهلوا كؤوس الحب بعيداً عن صخب الأندية الحافلة؛ وقد كانت براتر وما تزال مهبط الحب. ولكم كانت في الماضي مسرحاً للحوادث الغرامية الأنيقة بين أبناء الطبقات الرفيعة؛ بل إن اسم براتر ليمثل في مأساة غرامية من أشهر وأروع ما عرف تاريخ الحب: ففي دروب براتر التقى الأرشيدوق رودلف وماري فتشرا في أواخر القرن الماضي؛ وكان الأرشيدوق رودلف ولد الإمبراطور فرنز يوسف وولى عهده يومئذ؛ وكان فتى مضطرم الأهواء يثور على الرسوم والتقاليد الملوكية، ويشغف بالتجوال في أحياء فينا والاغتراف من مسراتها الشعبية، وكان كثيراً ما يرتاد معاهد براتر ويمرح فيها. وكانت ماري فتشرا فتاة رائعة الحسن من أسرة نبيلة، فلمحها الأرشيدوق ذات يوم في براتر وهام بها حباً، وهنالك تفتحت في قلبيهما زهرة الحب. وكان العاشقان يتنزهان أحياناً في طريق براتر السلطانية المعروفة (بالدرب الكبير) وأحياناً يلتقين في مقهى هنالك يعرف (بدار الأنس) وهو ما يزال قائماً في براتر إلى يومنا. ونحن نعرف كيف كانت خاتمة العاشقين المؤسية في قصر مايرلنج في ضواحي فينا، حيث وجد الأمير وماري فتشرا في صباح ذات يوم من سنة 1889 قتيلين برصاص المسدس ولم تعرف أسباب المأساة وظروفها قط، وكل ما قيل يومئذ إن الأمير في نزعة من نزعاته قتل حبيبته ثم انتحر؛ وذاعت يعد ذلك روايات أخرى، بيد أن سر المأساة لم يعرف قط.
وفي هذه الحادثة التاريخية التي اقترنت باسم براتر ما يفسر منزلة براتر ومعاهدة في قلوب المجتمع النمساوي؛ وما زالت ذكريات هذه المأساة الغرامية تغشي أفق براتو، وما زالت ذكريات شهيرة أخرى تمتزج بمعاهد براتر وأنديته ومغانيه؛ وقد كانت هذه الحوادث والذكريات، وما زالت مستقى لأقلام كثيرة، ومبعثاً لطائفة من القصص الشائق الشجي.
ومن الصعب أن نصف هنا كل ما ينتظم في براتر من المناظر والألعاب المدهشة؛ بيد أنن نعرض هنا بعض ما رأيناه وخبرناه منها، وإن منها لما يترك في النفس أثراً لا يمحى؛ وإذا كان معظم الألعاب والنزه مما قد أعد للأحداث، فإن منها ما تقتضي ممارسته إقداماً وجلداً، ولقد شهدنا ذات مساء لعبة أو نزهة مروعة خطرة معاً. وكنا أربعة من الأخوان، فاقترح علينا صديقنا الدكتور (ق) أن نركب القطار الطائر وصديقنا الدكتور أعرف الناس بفينا وبراتر، وكان منظر هذه القطر الطائرة بريئاً متواضعاً، فهي عبارة عن سيارات صغيرة أعدت لشخص واحد، وركبت على خطوط مكهربة، فركبنا جميعاً، وكان كل ما نصح به (ق) أن نمسك أنفسنا جيداً، وانطلقت القطر الطائرة بسرعة حتى جزنا نفقاً كبيراً مظلماً قد رتب على هيئة الجو والسماء، ونظمت في أفقه نجوم كهربائية، وهنا أخذت القطر الطائرة تسير الهوينا منعطفة حتى لقد تصورنا وشعرنا حقاً أننا نركب طيارة تعالج الرياح في الأفق، ولكن حدثت بعد ذلك مفاجأة مروعة؛ ذلك أن هذه الطيارات الخيالية اندفعت فجأة إلى الضوء بسرعة هائلة لتمثل حالة سقوط الطائرة، وأخذت ترتفع وتهبط في منحدرات متعاقبة بعنف مروع مدى دقيقة أو اثنتين، حتى لقد خيل إلينا غير مرة أن الطائرة ستقذف بنا من حالق، وكانت دورة عنيفة خطرة اقتضت منا أعظم جهد وجلد؛ ثم انطلقنا بعده إلى الضوء، وتمت التجربة الهائلة، ونهضنا بأقدام وأعصاب مزلزلة، وصديقنا الدكتور في القاطرة الأخيرة يحدجنا بخبث ويبسم لما ارتسم على وجوهنا من بوادر الانزعاج والشحوب.
وثمة مشهد آخر في براتر يستحق الوصف هو (دار الأشباح) وهو اسم يطابق المسمى، وهي عبارة عن دار كبيرة تخترقها أروقة مظلمة، ويجوبها المشاهد في عربة صغيرة تنطلق به في ظلام الأروقة، ثم تعترضه خلال التجوال هياكل عظيمة وأشباح مروعة، وأحياناً تلطمه يد رقيقة خفية، أو يرى في الظلام شبحاً يخرج من قبره فجأة ثم يعود بسرعة، أو يمر فوق هيكل عظمي فيرسل صيحة مزعجة، وهكذا يرى عدة من صور الفناء والعالم الأخير خلال وميض النور في الظلماء.
وربما كانت أشهر نُزه براتر وملاهيها نزهة العجلة الكبرى وعجلة براتر تشرف على فينا منذ نصف قرن أو أكثر، وهي عبارة عن عجلة ضخمة يبلغ قطرها نحو سبعين متراً أو أكثر، وقد ركبت حولها مخادع كبيرة يركبها الرواد، ثم تدور بهم ببطء فترتفع بهم شيئاً فشيئاً، حتى تبلغ المخادع الذروة واحداً بعد الآخر، وعندئذ يشهد الراكب فينا بأنواره الساطعة وأبراجها الشاهقة، ثم تهبط العجلة بعد ذلك حتى يبلغ الراكب مكان النزول، وتستغرق الدورة نحو ربع ساعة. ولهذه العجلة الكبيرة شهرة خاصة بين الشباب، ولها في الحب ذكريات أيضاً، ذلك أن كثيراً من المحبين الذين تضيق بهم سبل اللقيا، يلتمسون مخادع منفردة في العجلة، ثم يقضون هذه الدقائق القليلة في بث لواعج الهوى، وتبادل القبلات الحارة.
وفي براتر يوجد معرض هو أغرب معرض من نوعه يسمى معرض المخلوقات العجيبة وفيه تعرض حقاً طائفة من أغرب المخلوقات البشرية مثل أضخم امرأة في العالم يبلغ وزنها ثلاثمائة كيلو، وأطول وأضخم رجل في العالم هو عملاق يبلغ طوله نحو ثلاثة أمتار، وأصغر مخلوقات بشرية، ونحو ذلك من غرائب المخلوقات والطبيعة.
وهنالك أيضاً في دروب براتر ومناظره والعاب عديدة أخرى يضيق المقام عن وصفها، وقد أعدت جميعاً للأحداث والشباب.
ويهرع لشباب كل مساء إلى براتر، يتفرقون في دروبها وأنديتها وملاهيها، وهي تغص بهم دائماً، وهناك يقضون ساعات في الحبور والمرح، وينسون هموم الحياة الثقيلة، وبؤس العيش والعطلة، لقاء دريهمات قليلة.
لقد كانت براتر وما تزال مرتعاً ومتنفساً للشباب؛ وهنالك بين هذه الدروب المتشعبة والمسارح الساطعة الصافية يجب أن ينسى المرء نفسه برهة، ويرجع إلى عهد الحداثة، ليشهد ويمارس هذه الألعاب الصبيانية التي تنفث رغم طابعها الصبياني كثيراً من روح المرح والدعابة، وهذا ما يفعله أهل فينا جميعاً، وهذا ما يفعله كل أولئك الذين يزورون العاصمة النمساوية، ذلك أن سحر براتر لا يقف عند مسارحها ومناظرها وألعابها، بل إن لبراتر سحراً معنوياً عميقاً يرتبط بماضيها وذكرياتها، وهذا السحر المعنوي يسبغ على اسم براتر نوعاً من الجلل لا تتمتع به عادة أمثال هذه الربوع المرحة الضاحكة؛ وإنما تتمتع به براتر، لأنها استطاعت خلال الأحداث والعواصف أن تحتفظ بماضيها وذكرياتها، وأن تبقى كما كانت في الماضي مرتع الأنس والمرح والهوى.
وإذا كانت العاصمة النمساوية تفخر وتزهي بمتاحفها ومعاهدها الأثرية، وقصورها ومتنزهاتها البديعة، فإنها تحل براتر بين ربوعها محلاً عزيزاً؛ ذلك لأنها أيضاً أثر الماضي المجيد، ولأنها رمز العهد الضاحك؛ وللمدن العظيمة، كما للأشخاص، شعور يتجه نحو الماضي ويخفق للذكرى.
فلا تنس إن زرت العاصمة النمساوية يوماً أن تزور براتر، ولا تنس بالأخص أن تركب القطار الطائر رغم هوله وروعته، وأن تصعد في العجلة الكبيرة التي تجثم دائماً في قلب براتر زاهية بأنوارها الحمراء والخضراء، ولا تنس أن تزور دار الأشباح ومنزل الأنس، وكل هذه المعاهد والمغاني.
(? ? ?)