مجلة الرسالة/العدد 167/القطط
→ بعد المعاهدة | مجلة الرسالة - العدد 167 القطط [[مؤلف:|]] |
صور سياحة ← |
بتاريخ: 14 - 09 - 1936 |
للأستاذ إبراهيم عبد القادر المازني
القط حيوان مغرور؛ وله العذر يا أخي والله. . ولو أن أمة من الأمم بدا لها في عصر من العصور أن تعبد أجدادي أو أن تعتقد أن روح الله حالة في أجسادهم لكنت حقيقاً أن أزهي وأتكبر وأتغطرس وأرفع رأسي حين أكلم الناس، وأزم بأنفي وأتبجح عليهم بما ليس عندي، وأتمدح بما ليس في، وأكون على العموم - وباختصار - نفاجاً فياشاً إذا كنت تفهم ما أعني.
ولست أتخذ القطط ولا أحبها أو أطيقها، لأن آبائي لم يكونوا ممن عبدوها أو آمنوا بحلول روح الله فيها وإن كانوا قد عبدوا في جاهليتهم ما هو أحط منها في مراتب الحياة - الأصنام والحجارة - ولكنك تكفر بالحجر فتكسره وتفرغ من أمره. أما القطط فتفيء في أمرها إلى الرشد ولكنها هي لا ترشد أبداً ولا يفارقها الغرور العظيم الذي داخلها مذ رأت نفسها معززة مكرمة - بل معبودة - بلا موجب، فالبلاء لهذا مقيم والمصيبة خالدة والعياذ بالله.
ومن غرور القط أنه لا يستأنس أبداً - يسكن بيتك ويأكل طعامك برضاك أو على الرغم منك، ومع ذلك لا يكون معك إلا على حرف. . . تمسح له شعره فيثني أرجله تحته ويرخي جفنيه ويروح يزوم أو (يقرأ) كما يقول العوام فكأنك تستلم حجراً مقدساً من فرط ما يكون من انصراف هذا الحيوان المتكبر عنك، وتدغدغه فلا يعني بأن ينظر إليك ليرى من أنت - أغريب أم صاحبه الذي يطعمه ويؤويه - بل ينحي عليك بأظافر يده وبفمه في آن معاً. وتقدم له اللقمة من الخبز فينظر إليها شزراً ويعرض عنها محتقراً لها ويحول رأسه عنك بكبر دونه كل كبر وتَرفع لا يطاق حتى لكأنك تلغو في حضرة البابا. . فإذا كان ما تعرضه عليه لحماً أو سمكاً أهوى عليه بأسنانه وهو معبس متجهم وانتزعه منك كأنما أنت تدنسه بلمسه أو حمله. ولا يكون معك أبداً إلا متحرزاً متوثباً متوقعاً منك الغدر ومتهيئاً لمباغتتك بالخيانة، وليس أطغى منه ولا أغلظ كبدا. وما أظن بالقارئ إلا أنه رأى ما يصنع القط بالفأر وكيف يمسكه بين يديه حتى يكاد يميته من الفزع ثم يطلقه عنه فيقف الفأر المسكين جامداً لا يتحرك ولا يكاد يصدق أنه حر وأن في وسعه أن يذهب ويجري. و ساكت لا يمد إليه يداً ولا يبرز مخلباً فيطمئن الفأر ويشرع في الهرب وهو يتلفت حتى إذا وثق أنه آمن وثب عليه القط وهو يضحك في سره وغرس في جنبيه مخالبه وراح يشكه بها شكاً يكون خفيفاً تارة وثقيلاً أخرى ثم يكف عنه مرة أخرى - وعينه عليه - ويكتفي بأن يربض ويتربص له وأن يلاحظه وهو يتلوى من الألم. ويدرك الفأر أن الشك قد انقطع وإن كن حر ما لقي منه لا يزال شديداً فيتشهد ويقول (يا حفيظ. . أعوذ بالله. . على وجه من أصبحت في يومي المنحوس هذا يا ترى. . . على كل حال الحمد لله. . قدر ولطف. . وترى أين ذهب هذا الوحش الضاري. . يا حفيظ. . يا حفيظ. . اللهم استرنا. . . المهم الآن أن أذهب إلى جحري فإنه على ضيقه خير ألف مرة من ميدان هذه الغرفة التي لا آمن أن يثب علي فيها قط آخر. . والعياذ بالله) ويتوكل المسكين على الله ويقول (هيه. . يا معين ويروح يجر رجلاً بعد رجل؛ وذيله مسحوب وراءه على الأرض؛ ولا تبقى له قدرة على التلفت من فرط الإعياء ومن كثرة ما نزف منه من الدم القاني فيمضي إلى الجحر وهو لا ينظر لا إلى اليمين ولا إلى الشمال ولا قدامه ولا خلفه؛ حتى إذا قارب الجحر وانتعشت نفسه قليلاً وعظم أمله في النجاة والسلامة وطول العمر وهم بوثبة أخيرة إلى حيث لا تدركه القطط ولا تستطيع أن تتبعه، إذا بالقط المتربص على ظهره، ومخالبه في لحمه الطري، فيدرك الفأر اليأس ويستسلم ويقول في سره وهو يؤكل عسى الله أن يعوضني يوم النشور داراً أخرى لا قطط فيها. . ويلفظ أنفاسه الأخيرة وهو يحلم بجنة الفئران.
والقطط تولد عمياء مطبقة الأجفان فيدركنا العطف عليها وترق قلوبنا لها فنعني بها ونتعهدها ونسقيها اللبن الذي هو لطعامنا، ونبرها ونسرها سنة بعد سنة، ونفرح بها ونعجب بمنظرها ونباهي الجيران، ثم يتفق أن نخرج يوماً وأن نوصد الأبواب ونحن لا ندري أن القط في إحدى الغرف ونغيب شيئاً ثم نعود إلى البيت ويدخل أحدنا حجرة النوم ليخلع ثيابه فيغلق الباب وراءه كعادته وإذا بالقط على السرير يتحفز للوثوب عليه وتمزيق لحمه - ما في ذلك شك - فكأنه ليس أمام قط صغير وإنما هو أمام نمر مفترس فيضطرب الرجل وتتخلخل ركبتاه ولا يعود يعرف أين الباب، والقط يموء بل يعوي ويتوثب كالمجنون وقد نسى كل ما كان من سابق النعمة ولم يبق له هم إلا الخروج من الغرفة أو افتراس هذا الذي دخلها عليه وإن كان سيده وصاحب الفضل عليه.
وقد لقيت من قطط الجيران الأمرين فما أحب القطط كما أسلفت. وما أكثر ما يحدث أن أنسى نافذة مفتوحة أو باباً موارباً فيدخل القط ويمضي إلى أواني الطعام ويكشف عنها الغطاء - أي والله ولو كانت من النحاس الثقيل - ويلتهم كل ما بقى. . . . وقد كان لي جيران ما رأيتهم قط ينامون إلا بعد أن يغلقوا الأبواب والنوافذ جميعاً. وكنت أضحك إذ أسمع رب بيتهم يصيح في الليل - والصوت في الليل يسري - (يا حنيفة. . هل أغلقت باب المطبخ؟) فتصيح حنيفة من مرقدها والنوم يغالبها: (أيوه يا سيدي. . .) فلا يقتنع ويخشى أن يكون الكسل قد أغراها بالكذب فيقول (يحسن أن تقومي وتستوثقي) وبعد قليل أسمعه يؤنبها ويقول لها (ألم أقل لك. . هذه النافذة لم تكن محكمة الإيصاد. . . وهذا الباب. . . انظري. . . لو دفعه إنسان بيده لانفتح) فتحلف أنها أوصدت كل الأبواب والنوافذ فيقول (لا يا بنتي. . . دوري قبل النوم على كل الأبواب وكل نافذة وامتحني كل منفذ بيدك لتتحققي) وكنت أعجب لهذا المتفزع وأسأل نفسي عما يخيفه وهو في عمارة لها بواب لا ينام إلا بعد أن يدخل كل السكان ثم يغلق بابها بالمفتاح ويضعه - أعني المفتاح لا الباب - في جيبه. فإذا تأخر أحد السكان احتاج أن يدق ويقرع الباب. . ثم زال عجبي لما بلوت قطط الجيران. . وأيقنت أنه لا يخاف اللصوص وإنما يخاف القطط. . وله العذر.
والعامة تعتقد أن للقط سبع أرواح وما أظنهم إلا صدقوا، ومن كان يشك في ذلك فليتأمل كيف يسقط القط من فوق السطح العالي فلا يزيد على أن ينظر يمنة ويسرة - فأن في القطط تحرزاً شديداً - ثم ينهض ويمضي كأنما كان قد انحدر على بساط كهربائي. وتضربه بالحجر فلا يهيضه بل يرتد عنه. وهو مثال الفردية الصارخة والأثرة المجسدة. وما رأيت قطتين اتفقتا قط، وما اجتمع قطان في مكان إلا تحفزاً للقتال فترى كلا منهما قد رفع ذيله وقوس ظهره وراح يجس الآخر بعينه وهو يزوم ويقول: (واوووووووو) ويدور حوله ليغافله وينشب فيه أظفاره. والقطة هي الدابة الوحيدة التي تأكل صغارها فتأمل ذلك. ومن كان يعرف أن حيواناً مستأنساً آخر يفعل ذلك فليخبرني فإن العلم بهذا ينقصني.
ومن غرور القط أنه يعتقد أن ريقه تريق، فتراه يضطجع على جنبه ويلوي عنقه ويقبل على شعره بلسانه يلحسه ولا يخجل أن يستحم على هذا النحو أمام الناس، بل لعله يباهي بذلك ويفخر قبحه الله؛ وهو مفطور على الغدر والخيانة فلا أمان له ولا اطمئنان منه لأحد من الخلق ولا لشيء من الأشياء فهو لهذا سيئ الظن، حتى إنك لتراه إذا صار على رف أو لوح من الخشب يخطو كأنما هو يمشي على الجمر فيضع كفاً وينتظر ويخيل إليك من وقفته أنه يختبر المواطئ بكفه ويقدر مبلغ ثباتها وقدرتها على احتمال ثقله. ثم يمد يده الأخرى وينتظر شيئاً زيادة في الاستيثاق ومبالغة في الحذر ولا يجد ما يبعثه على الشك، ومع ذلك يظل يتريث حتى تزهق روحي وأنا أنظر إليه. وإذا رابه شيء رد يده وسحبها من موضعها بسرعة وخفة؛ ولو كان الإنجليز قد خلقوا قبل القطط وسبقوها إلى الدنيا والحياة لقلت إن القطط أخذت ذلك عنهم وقلدتهم فيه فإنهم مثلها يقدمون على الشيء متحرزين، ويخطون خطوة ثم يقفون ينظرون ما يكون، فإذا جرت الأمور على غير ما يحبون أو يتوقعون ارتدوا بخفة وبسرعة وإلا نقلوا رجلاً أخرى وهكذا، فيظهر أنهم هم الذين يتقيلون القطط ويحاكونهم في هذا والله أعلم.
ولم يسرني قط وجود قطة في بيتي إلا مرة واحدة، وكان قطاً ملعوناً لا يزال كلما أوينا إلى مضاجعنا يتسلل - لا أدري من أين - إلى المطبخ ويرفع كل غطاء عن كل وعاء ويقلب كل صحن ويروح يعبث بما في المكان. وليست نقمتي عليه من أجل ما يسرق فقلما يجد شيئاً في المطبخ لأن عادتنا أن نأكل كل شيء ولا نبقي شيئاً قبل أن ننام، فلا تبيت الأوعية والصحون إلا فارغة نظيفة، والحمد لله الذي لا يحمد على المكروه سواه. وإنما نقمتي عليه من أجل الضجة المزعجة التي يحدثها والصحون والأطباق التي يكسرها فنهب مذعورين من فرط الضوضاء ونذهب نعدو إلى المطبخ عسى أن ندرك شيئاً قبل أن يتحطم، وإذا بالقط اللعين يثب من الرف حين يرانا إلى النافذة دفعة واحدة. وأقسم أن كنت أغلقت النافذة واستوثقت منها قبل أن أنام كما رأيت جاري يفعل ولكن من يصدق. . وتروح زوجتي تكذبني وتزعم أني لا شك أهملت كعادتي أو أني اكتفيت بأن ألمس النافذة بيدي وباركتها ثم قفلت راجعاً وأنا واثق أنها ستغلق نفسها بقدرة الله ومن غير حاجة إلى معونتي. ونظل في هذا الخلاف السخيف الذي سببه لنا القط إلى الصياح. واتفق يوماً أن دخل علينا قط ضخم بلا استئذان فهممت بطرده إذ حسبنا ما يصيبنا من القطط بالليل، ولكني لمحت قطاً آخر واقفاً بالباب يشاور نفسه، ولم أكد أراه حتى كانت المعركة ناشبة بين القطين، وكانا يدوران وذيلاهما مرفوعان وكل منهما يتحين الفرصة للوقوع في خصمه، وكانت أصواتهما المنكرة كأنها المسامير في آذاننا ولكنها كانت لهما كموسيقى الحرب على ما يظهر، ثم اشتبكا بعد أو وزن كل منهما صاحبه وأخذت المخالب تطول وتنغرز في أجسامهما والأسنان تساعدها، وكانا يتقلبان على الأرض - أعني على البساط - وهما يتصايحان بصيحات الحرب وأنا واقف من فرط السرور أشجعهما وأستحثهما وأقول للذي أراه يفتر منهما: (عليك به! اغرز مخلبك في عينه. . افقأها له ليعمى ولا يعود يرى النافذة. . برافو. . برافو. . أحسنت! هكذا تكون البطولة وإلا فلا. . أيوه. . أعد. . أعد. . بارك الله فيك. . مزق جلده. . أسلخه. . تمام. . مضبوط. . عضه. . عضه يا أبله. . لا لا لا. . لا تبعد. . عد إليه. . تذكر الدجاجة التي خطفها وحرمني وحرمك لذتها. . . تذكر - إذا كنت لا تعبأ بالدجاج - الفئران الطرية السمينة التي يصيدها كل ليلة ويأكل لحمها الغريض ويشرب دمها القاني. . . أقدم يا شيخ. . . أقدم. . . أو لم تسمع بقول الشاعر الحكيم: (وفاز بالطيبات الفاتك اللهج). . .) وهكذا صرت أهيجهما حتى أوسع كل منهما صاحبه عضاً ونهشاً ولاذ أحدهما بالفرار. . . ووقف الآخر برهة يلحس جراحه، ولكن الغريب أني لم أر دماً يسيل أو يقطر، ولم تأخذ عيني تمزيقاً في جلد أحد القطين على الرغم من عنف القتال. . . فهل كان مزاحاً. . . أو ريقه ترياق كما يدعى؟ ومهما يكن من ذلك فقد استرحت من القطط المتلصصة بعد هذه المعركة ولله الحمد. . . وبقيت الفئران قوانا الله عليها إنه سميع مجيب.
إبراهيم عبد القادر المازني